الفقر لا ينحصر بلون البشرة

عنف الشرطة الامريكية العنصري، وحركة الإحتجاجات غير المسبوقة التي اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية، اعطت الجدل بشأن العنصرية زخما وسعة في بلدان المراكز الراسمالية، والعديد من  بلدان العالم.

ويدور في المانيا جدل واسع في الاوساط السياسية والاجتماعية بشان العنصرية والأعراق. وتشدد مساهمات اليسار في هذه المناقشات على امتلاك البشر ميزات جسدية مختلفة، ولكن لا وجود للأعراق، وهذا ما اثبتته الدراسات العلمية. ان الموجود عمليا عنصرية اجتماعية، يجري تحويلها الى صفات طبيعية. وهذا يعني ارجاع التباينات الاجتماعية الى خواص بايلوجية. وعملية البحث عن الأعراق من قبل بعض العلماء مستمرة وهناك من يصدق ذلك. حتى وان كانت هناك اعراق مختلفة، ما المعرفة المكتسبة من هذا البحث؟ ان هدف هذه الجهود هو ما اشير اليه سابقا، لكن اليس السود مختلفين بطريقة أو بأخرى، وبالتالي يتحملون مسؤولية فقرهم!

ان هذا البحث يقترب من عملية البحث عن جينات للنجاح واخرى للفشل. توجد أيضًا محاولات من هذا النوع للتميز بين الجنسين: النساء أكثر تعاطفًا، والرجال أكثر طموحًا، وهذا هو السبب في أنهم يستحقون أكثر. وكذاك التميز على اساس الانتماء الديني، كتب تيلو سارازين (ديمقراطي اجتماعي يميني الماني) كتابًا عن سبب غباء المسلمين، الذي يسبب  فقرهم. وكذلك التميز القومي مثل مقولة  "اليونانيون الكسالى" لتبرير الابتزاز المالي والإقتصادي بحق الشعب اليوناني. وحتى بعد توحيد الألمانيتين كثر الحديث عن "الألمان الشرقيين الكسالى"، في محاولة لتحميل التجربة الاشتراكية، والتعامل مع سكان المانيا الشرقية، باعتبارهم المانا من الدرجة الثانية. ولهذا فأن العنصرية ليست بالضرورة مسألة خصائص جسدية، ولا تنحصر في لون بشرة مختلف. وفي عصر كان يطلق في الولايات المتحدة على المهاجرين الأيرلنديين الفقراء "العبيد البيض".  ولاحقا حصلوا على التوصيف الرسمي "البيض". لا توجد في الواقع اعراق او عنصرية لقد تم افتعالها.

في ما يسمى بـ "التعداد المصغر" الذي يجري في الولايات المتحدة، يترك للمواطنين تحديد عرقهم من عدمه، في محاولة لخلق حل او حالة وسطية، والتعداد هو وسيلة لدعم المجموعات السكانية شديدة الفقر، والتي يتم تصنيفها على اساس "العرْق"، فالسود هم الاشد فقرا. وتقسيم المحتاجين على أساس "العرق" هو طريقة لتوزيع الموارد، فمثلا اذا كانت نسبة للطلبة السود للحصول على المنح او المساعدات الدراسية، ربما يمكن لمن يؤشر في التعداد انه اسود أن يحسن فرصه في الحصول على شيء من هذا.

ان منح التصنيف العرْقي ينطوي على جانبين: الأول لأن المجتمع الطبقي في الولايات المتحدة الأمريكية شديد العنصرية، وبالتالي فإن دعم الفقراء يتطابق إلى حد كبير مع دعم السود. الجانب الثاني هو أن تصيف الواقع الاجتماعي على اساس عنصري هو تشويه للعلاقات الاجتماعية، فالأخيرة قائمة على اساس توزيع الثروة، اي الفقر، وليس على اساس الأعراق. ومن المفيد أن  معيار العرقية في الولايات المتحدة ذات منحى ثقافي اكثر مما هو بايلوجيا، بالمقارنة مع معيار العرقية في المانيا.

العرقية والدستور الألماني

توالت في السنوات الاخيرة نجاحات اليمين المتطرف، والنازيين الجدد في عموم اوربا وضمنها المانيا، البلد الذي يملك تجربة تاريخية كارثية، نتيجة صعود النازيين السلطة في عام 1933، وبالتالي عرضوا العالم مع الفاشيين الايطاليين، والعسكرية اليابانية، الى مأساة راح ضحيتها اكثر من 50 مليون انسان، لذلك يكتسب النقاش في المانيا بشان العنصرية اهمية خاصة، خصوصا انه يتناول احتواء الدستور الالماني في مادته الثالثة على مفهوم " العرْق"، وان كان في سياق رفض التمييز العنصري، الا ان المفهوم يمثل هنا هوية عرقية مفترضة، ولهذا هناك مطالبات برفع هذا المفهوم من الدستور.

 وهنا ايضا هناك ثنائية متناقضة، فمن جانب الأمر يتعارض مع نفي وجود اعراق، ومن جانب آخرهناك خشية من ان يؤدي رفع المصطلح من الدستور الى جعل التمييز العنصري غير منظور. وبشان هذه المشكلة هناك حلول بواسطة صياغات لغوية مقترحة مثل "لا ينبغي التمييز ضد أحد لأسباب عنصرية"، ولكن ذلك يثير جدلا قانونيا.

هناك افتراض شائع، أن العنصرية هي تعامل خاطئ يحتاج إلى تصحيح، في حين أن العنصرية هي علاقة اجتماعية، وليست مواقف فردية، لأن الاختلافات الاجتماعية التي تبررها العنصرية موجودة بالفعل. وفي الوقت نفسه، توظف العنصرية لتعميقها. ويمكن تلمس ذلك بامثلة من الممارسات العملية في مراحل تاريخية مختلفة: في عقود الرأسمالية الأولى، تم إضفاء الشرعية على استعمار البلدان واستعباد الناس بأحكام عنصرية، وفقًا للنظام الطبيعي. هذا نوع من الأيديولوجية العنصرية. والممارسة العنصرية، بدورها، تستخدم البلدان المستعمرة وسكانها كمورد لازدهار القوى الاستعمارية. وفي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، استقدم رأس المال الألماني عمالة اجنبية رخيصة، استغلت بلا حدود. وجرى شرعنة ذلك عبر عنصرية اديولوجية وثقافية. وحاليا هناك مواقف عنصرية ضد عمال المواسم القادمين من رومانيا وبولندا. وفي العراق يجري احيانا ادانة العمال الاجانب الوافدين من عدة بلدان فقيرة، عبر ممارسات واراء عنصرية، بدلا من ادانة الاستغلال والسياسيات الاقتصادية الفوضوضية المتشابكة مع منظومة الفساد في البلاد.

 يجري اليوم في المانيا توظيف مصطلح "العداء للاجانب" بدلا من العنصرية، مصطلح العنصرية التقليدي السائد ضيق، وينحصر في لون البشرة، وبالتالي لا يلبي الغرض بالكامل. وهنا ايضا يجري قلب المعادلة. ان توسيع فكرة الشرعنة الأديولوجية مرتبط بالغرض من توظيفها، لتبرير استغلال طبقي او تباين اجتماعي في ظروف معينة.

وظيفة العنصرية

خطاب اليمين التقليدي يعد العنصرية ارثا من الماضي، واليسار يرى انها ما تزال تؤدي وظيفة في النظام السائد: للعنصرية وظيفة اقتصادية فعالة، لأن الشركات بحاجة إلى نسبة معينة من العاملين ذوي الحقوق والحماية القانونية الضعيفة، الذين يحصلون على اجور منخفضة، وخاصة في بلد مثل ألمانيا، حيث يتمتع العاملون بضمانات اقوى نسبيًا. ولعدم امكانية نقل جميع مواقع الانتاج الى البلدان ذات الأجور المنخفضة، فإن شركة أمازون العملاقة توظف في المانيا الاجانب الذين لا يجيدون الألمانية. ويمكن لمدير أمازون جيف بيزوس أن يعارض علانية العنصرية، في حين  يدفع للمهاجرين اجورا منخفضة جدا. وتقوم صناعة اللحوم في ألمانيا على عاملين بأجر منخفض، وفي ظروف عمل غير انسانية.  لقد تم إلغاء العبودية في الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، يعمل الآن عدد أكبر من نزلاء السجون الأمريكية مقابل أجور لا تسد الرمق، اي يعيشون عبودية اقسى من سابقتها.

والى جانب الواقع الاجتماعي للعنصرية، فهي ايدولوجية للشرعنة، ويجري بواسطتها ترحيل النتائج السلبية للتنافس الراسمالي، كالفقر والجريمة الى الطابع الفردي او البايلوجي. وبهذا فان المذنب ليس النظام، بل الإنسان وتكوينه أنظمته "الطبيعي" الذي يجعله ضعيف الأداء. ولهذا توظف العنصرية لخلق حالة من الرضى الاجتماعي.

ممثلو الشركات الكبيرة ومؤسسات رأسمال يشجبون العنصرية علنا ويعتبروها على حد قول الاقتصادي والمصرفي الامريكي روبرت كبلان "معيقة للانتاجية"، وخلف هذا القول تكمن فكرة الدفاع عن سوق عمل حرة تمنح "فرص" متساوية للجميع. ان الرأسمال يسعى من جهة الى سوق عمل حرة، وفي الوقت نفسه توفر العنصرية له امكانية تقويض حقوق، وبعثرة نضالات العاملين بأجر، ويرى المدافعون عن حقوق العاملين، ان العنصرية تجعل عمليات تنظيم  النضالات المشتركة صعبة، لانها تشق صفوف العاملين. لقد لاحظ ذلك كارل ماركس، عندما شرح اسباب فشل النضالات العمالية في الولايات المتحدة من اجل يوم عمل اعتيادي. وحسب ماركس، يعود ذلك إلى حقيقة أن العمال لم يعترفوا بأن العبيد كانوا أيضا عمالا. ان "العمل في البشرة البيضاء لا يمكن أن يتحرر، عندما يكون ماركة محترقة في البشرة السوداء".

الحلول

يكرر البعض في كثير من الأحيان أن هناك حاجة إلى مزيد من المعلومات وتعريف الراي العام بحقيقة العنصرية، ورغم ضرورة هذه المطالبة واهميتها، الا انها لا تلامس جوهر المشكلة، فليس هناك نقصا في المعلومات بشأن العنصرية واسبابها في هذا البلد المتطور. وفي هذا السياق قالت رئيسة المفوضية الأوروبية الحالية، ووزيرة الدفاع الالمانية السابقة، أورزلا فون دير لين مؤخراً إنها "سعيدة وممتنة للعيش في مجتمع يدين العنصرية". والأمر يتعلق بـ "مزيد من المساواة في أوروبا". من حيث الشكل تبدو المطالبة مقبولة، ولكن، عندما يجري التاكيد على ان السود الأكثر فقرا، ثم تجري المطالبة بالمساواة، فان هذه المطالبة تعني بالنهاية توزيعا آخر للفقر. في هذه الحالة، ربما تجعل المطالبة بالمساواة والفرص المتكافأة الفقر "ملونا"، ولكنها لا تلغيه. إن توزيع عدم المساواة المادية بشكل نسبي وفقًا للون البشرة قليل جدًا هذا من جهة، ومن جهة اخرى ان معظم السود في الولايات المتحدة ، على سبيل المثال، ليسوا فقراء لأنهم يتعرضون للتمييز فقط. ولكن لأنهم يكبرون في أسر فقيرة، ويحصلون على  تعليم فقير، ويعيشون في أحياء فقيرة، وألأقلية السوداء غير الفقيرة تعيش يعالم مختلف كليا. إن مناهضة التمييز ليست ذات فائدة كبيرة بالنسبة لهم كفقراء، لأنهم لا يمتلكون نقطة شروع عادلة في عملية التنافس مع البيض على الوظائف الجيدة. والفقر موروث أيضا في ألمانيا في ظل مساحة اكبر لتكافؤ الفرص.

ان ما تمت الاشارة اليه لا يلغي وجود تعامل ملموس مباشر على اساس التميز العنصري المرفوض جملة وتفصيلا. لان هناك اسئلة جوهرية منها: لماذا يوجود افراد يحق لهم القرار، ومن منطلقات ايديولوجية، وتحديد من يحق له العمل او السكن؟ ولماذا يتمتع هؤلاء، وعلى اساس ممتلكاتهم، بالسلطة والهيمنة على المجتمع، وبالتالي توزيع الموارد على البشر؟

صحيح ان مناقشة طابع النظام الاقتصادي، وعلاقات الملكية، لا تعني تلقائيا مباشرة بالعنصرية، وبالمقابل فان مناهضة العنصرية، لاتعني بالضرورة هي الأخرى مناهضة للراسمالية. ولكن يتم تحليل العنصرية على اساس مادي  يصبح الترابط واضحا. ان تغيير علاقات الانتاج، لا يعني الإلغاء التلقائي للعنصرية، ولكن بدون تجاوز علاقات الانتاج الرأسمالية، تبقى العنصرية محتفظة بوجودها، لانها تعيش في هذه البيئة. لذلك، يجب أن تهدف مناهضة العنصرية الراسخة باستمرار إلى التغيير الاجتماعي بدلاً من المساواة في ظل الظروف القائمة.

*- نشر في العدد 132 من مجلة الشرارة النجفيةش

عرض مقالات: