عصبة مكافحة الصهيونية مأثرة من مآثر الحزب الشيوعي العراقي في التضامن مع الشعب الفلسطيني / عادل حبه

بتاريخ 12/9/1945، وجّه لفيف من الشباب اليهودي العراقي عريضة إلى وزير الداخلية العراقي طالبوا فيها إجازة تأسيس منظمة "عصبة مكافحة الصهيونية"، مرفقة بالنظام الأساسي لهذه المنظمة. ولم تكن هذه المبادرة الفريدة بمعزل عن قرار قيادة الحزب الشيوعي العراقي وموقفه الثابت في دعم المصالح الوطنية وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. وأشارت العريضة في مقدمتها:" نحن نعتقد، إخلاصاً، بأن الصهيونية خطر على اليهود مثلما هي خطر على العرب وعلى وحدتهم القومية. ونحن إذ نتصدى لمكافحتها علانية وعلى رؤوس الأشهاد إنما نعمل ذلك لأننا يهود ولأننا عرب بنفس الوقت. إن للمشكلة اليهودية جذوراً عميقة في النظام الاجتماعي، وهي ليست كما تبدو لمن ينظر إليها نظرة سطحية على أنها وليدة اختلاف ديني أو تمايز عنصري أو عدم ائتلاف في العادات والأخلاق وغيرها". وجاء في العريضة أيضاً:" ولما كانت قضية فلسطين هي قضية البلاد العربية بأسرها، فلا يمكن إذن أن نقف إلاّ بجانب عرب فلسطين ونؤيدها في نظرتنا الواقعية العلمية هذه وهي التعاون بين العرب واليهود في حزب وطني واسع شعبي، ظهر في فلسطين، يعادي الصهيونية عداء صميماً، ويدعو إلى التعاون بين العرب وبين جماهير اليهود لحل قضية فلسطين على أساس منع الهجرة  اليهودية وإيقاف انتقال الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة وتأليف دولة ديمقراطية عربية مستقلة استقلالاً تاماً، تضمن فيها حقوق المواطنين كافة عرباً ويهوداً". ولم يكن هذا المسعى منعزلاً أيضاً عن سعي المكون اليهودي في العراق إلى الفصل بين الطائفة اليهودية وبين الحركة الصهيونية. وقد وقع العريضة عدد من كوادر وأعضاء من المكون اليهودي في الحزب الشيوعي العراقي السري آنذاك، وهم كل من سليم منشي ونسيم حسقيل يهودا ومسرور صالح قطان وابراهيم ناجي ويعقوب مصري ومير يعقوب كوهين ويعقوب اسحيق وموشي يعقوب.

وأرفق بالعريضة منهاج العصبة، الذي اشير في المادة الثانية منه إلى :"أهداف العصبة، مكافحة الصهيونية وفضح أعمالها ونواياها بين جماهير الشعب العراقي لا سيما بين اليهود. وتلك قضية حيوية لها خطورتها في حياتنا الوطنية. ولذلك تستهدف العصبة القضاء على نفوذ الصهيونية ودعايتها..". وورد في البرنامج أيضاً: في المادة الثانية "أ- القضاء على النعرات الطائفية التي تمزق وحدة الشعب العراقي. ب- خلق جو من التفاهم بين مواطني الشعب العراقي كافة وذلك ببث روح الديمقراطية بين سائر أفراد الشعب العراقي". وبعد مرور ستة أشهر على تقديم العريضة، أجاز وزير الداخلية النشاط العلني للعصبة بتاريخ 16/3/1946، وسُمح لها بإصدار جريدة علنية هي صحيفة "العصبة" التي صدر العدد الأول منها في 7 نيسان عام 1946، التي كانت توزع بحدود 6 آلاف نسخة في بغداد والمحافظات العراقية. وصدر تباعاً 51 عدد من جريدة العصبة لحين توقيفها من قبل السلطات الحاكمة آنذاك. وعقدت العصبة مؤتمرها الأول وانتخبت الهيئة الإدارية التي ضمت يهودا صديق (عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي)، والذي تم إعدامه مع قادة الحزب عام 1949)، وترأس العصبة يوسف هارون زلخة. وترأس هيئة الرقابة يهودا صديق، وتولى يعقوب مصري (عادل مصري) سكرتارية العصبة، واحتل كل من يوسف زلوف ومسرور صالح قطان

  وآخرون مواقع قيادية في المنظمة. وكلّفت قيادة الحزب الشيوعي الرفيق الشهيد زكي بسيم (عضو المكتب السياسي) بالصلة والتنسيق بين قيادة الحزب والعصبة، وقيادة الفراكسيون الحزبي في المنظمة. ولعب الرفيق فهد دوراً مهماً في توجيه نشاطها، بما فيها الكتابة في صحيفة العصبة، حيث جمعت مقالاته لاحقاً في كراس تحت عنوان "رسائل العصبة". ولقد احتضنت العصبة أعضاء وكوادر من الحزب الشيوعي إضافة إلى غالبية من المواطنين اليهود وعدد أقل من المواطنين الديمقراطيين المسيحيين والمسلمين وبعض الوجوه الوطنية الديمقراطية العراقيةمن غير المكون اليهودي. وخلال نشاط العصبة العلني، قامت بتنظيم اجتماعات حاشدة في بغداد والبصرة بلغت 22 اجتماعاً حضرها بضعة آلاف من المواطنين. وكسبت المنظمة موقعاً جماهيرياً بين المكون اليهودي بحيث أصبحت الوجه العلني لهذا المكون.

ويعد تشكيل "العصبة" نقطة عطف في انغمار المكون اليهودي في النشاط الوطني العراقي بعد أن كان هذا المكون يتردد في المشاركة في النشاط السياسي العام. وحين حلَّت الذكرى الثامنة والعشرون لصدور وعد بلفور (2/11/1945)، أصدرت العصبة بياناً، ضمَّنته استنكارها هذا الوعد. وجاء في البيان أن "الاستعمار يستطيع أن يتكرم بفلسطين، مئات المرات، طالما أنها ليسـت بلاده، وطالما أنه يجـد في ذلك ربحـاً له ومغنماً". واعتبر البيان غاية الاستعمار وعميلته الصهيونية من (وعد بلفور)، تحويل "نضال العرب، الموجَّه ضد الاستعمار، نحو جماهير اليهود، وبذلك تخلق منهم حاجزاً يختفي وراءه الاستعمار، ولو كان المستعمرون يعطفون، حقاً، على اليهود لعاملوهم معاملة طيبة في أوربا".
استشعرت الفئة الحاكمة الخطر من الطابع التقدمي والإنساني للعصبة ونشاطها، ومن تبلور ملامح الوحدة الوطنية لكل أطياف الشعب العراقي، سواء تلك التي تجلت في إطار النشاط العام للحزب الشيوعي العراقي أو في إطار نشاط عصبة مكافحة الصهيونية المكرس لفضح الصهيونية ومآربها ضد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وما أن بادرت المنظمة وبدعم من الحزب الشيوعي إلى القيام بمظاهرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني في 28 حزيران عام 1946، حتى تعرضت المظاهرة إلى القمع والقسوة من أجهزة الأمن، مما تسبب في استشهاد أول شهيد شيوعي في العراق وعضو عصبة مكافحة الصهيونية وهو الشهيد شاؤول طويق. كما جُرح عدد كبير من المشاركين في المظاهرة السلمية. وإثر ذلك أعلن الحظر على نشاط العصبة وأوقفت صحيفتها "العصبة". وأحيل المشاركون في هذه الفعالية إلى القضاء، وأصدرت محكمة الجزاء في يوم 15/ 9/1946 قرارها بالحكم على كل من " يعقوب مصري ومسرور صالح قطان بالحبس الشديد لمدة سنة واحدة، وعلى كل من خليل نصيف بالحبس الشديد لمدة ستة آشهر وعلى كل من سامي ميخائيل وعمانوئيل بطرس بالحبس البسيط لمدة ثلاثة اشهر وذلك وفق المادة 89 بدلالة المواد 78،53،54 من ق.ع.ب.

كل هذه الممارسات القسرية هي تعبير عن "الجزاء" الذي حصده الحزب الشيوعي العراقي جراء مواقفه المساندة للحركة الديمقراطية المناهضة للصهيونية ودفاعه عن عصبة مكافحة الصهيونية وتضامنه مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كما أصدرت المحكمة حكمها بالسجن المؤبد على يوسف هارون زلخة، مدعية أنه يترأس عصبة للكفاح من أجل الصهيونية لا ضدها. فيما كانت الحكومة العراقية تعجل بتهجير زهاء مائة وثلاثين ألف يهودي من العراق إلى فلسطين المحتلة، مقابل عشرة دنانير عن كل مهاجر يصل إلى هناك، تدخل جيوب متنفذين في الحكومة العراقية.

إن موقف الحزب الشيوعي العراقي تجاه القضية الفلسطينية، و تبنيه لتأسيس عصبة مكافحة الصهيونية ما هو إلا امتداداً للموقف الثابت لليسار العراقي في التضامن مع الشعب الفلسطيني و حقوقه المشروعة. فعلى الرغم من كل التشويهات والتهم التي وجهت ضد اليسار والحزب الشيوعي العراقي بالذات بقدر ما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فإن هذه المواقف ليست بالطارئة، بل لها جذور تعود إلى العقود الأولى من القرن العشرين. وقد أشار الباحث اللامع حنا بطاطو في مؤلفه الشهير (الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية الحديثة في العراق  (الذي نشر عام 1978، إلى المظاهرة التي نظمها اليسار العراقي في شباط من عام 1928  في بغداد تضامناً مع الشعب الفلسطيني وتنديداً بزيارة ألفريد موند الموالي بحماس للحركة الصهيونية، وجاء في المؤلف:" وكان السير الفرد موند هو السبب المباشر للمظاهرة. وكان موند مؤيدا بحماسة للحركة الصهيونية»، وأضاف: «وعشية وصوله عقد نادي التضامن اجتماعا مستعجلا توالى خلاله كل من حسين الرحال ويوسف زينل على اقناع زملائهم بان النية الحقيقية لموند هي اقامة مستوطنة صهيونية في العراق. واقترح الاثنان تنظيم مظاهرة، وتمت الموافقة على الاقتراح فوراً. وعندما بدأ الطلاب في اليوم التالي مسيرتهم عبر المدينة لحق بهم جمع كبير من الناس، وما كاد المتظاهرون يصلون الى محطة السكك الحديدية حتى تضخم عددهم ليفوق العشرين الفا. وكانت تنتظرهم هناك قوة من رجال الشرطة بادرت الى تهديدهم وإصدار الاوامر لهم بالتفرق.. وبدأت المواجهة عندما رفض المتظاهرون مغادرة مكانهم"، علماً أن نادي التضامن قد تأسس عام 1926 من قبل ناشطين يساريين من بين أبرزهم حسين الرحال، يوسف زينل ، محمود احمد السيد، زكي خيري، حسين جميل، عبدالله جدوع، محمد سليم فتاح، عاصم فليح، مهدي هاشم، مصطفى علي، عوني بكرصدقي، عبدالفتاح ابراهيم، عزيز شريف، عبد القادر اسماعيل، ابراهيم القزاز،  وآخرون.

لقد لعبت عصبة مكافحة الصهيونية خلال عمرها القصير دوراً مؤثراً في تعبئة المكون اليهودي في العراق كي يتوخى الحذر من الوقوع في فخ التآمر الصهيوني ضد العرب واليهود على حد سواء، وبث روح التآخي والتضامن بينهم لمواجهة مخططات عدوهما المشترك. وأحبطت المنظمة قبل حظر نشاطها مخططات الوكالات الصهيونية والحكومة العراقية الموالية لبريطانيا لتهجير اليهود العراقيين إلى فلسطين. ويورد الفقيد يعقوب مصري لكاتب هذه السطور أن الوكالات الصهيونية لم تستطع جمع إلاّ بضع مئات من التواقيع من اليهود العراقيين للهجرة إلى فلسطين، من بين ما يزيد على 150 ألف مواطن يهودي عراقي قطن العراق قبل الهجرة القسرية لليهود العراقيين إلى فلسطين. ولكن مع إعلان الحظر على نشاط عصبة مكافحة الصهيونية وغلق صحيفتها والشروع بشن حملة واسعة ضد الحزب الشيوعي العراقي والقوى التقدمية والديمقراطية، فتحت الأبواب أمام القوى المعادية لمد المنظمات الصهيونية بالقوة وبالذريعة من أجل التسريع بعملية تهجير اليهود إلى فلسطين. وهذا ما أقدمت عليه الحكومة العراقية وحكومات عربية وبدفع من الدول الغربية، إضافة إلى موجة أعمال التخريب والتفجيرات التي نفذتها المنظمات الإرهابية الصهيونية ضد المؤسسات اليهودية في العراق، وبفعل الضغط الذي مارسه التيار القومي والديني المتعصب في العراق والبلدان العربية لتهجير اليهود إلى فلسطين.

إن المبادرة التي أقدم عليها الحزب الشيوعي كانت فريدة في العالم العربي والعالم أيضاً. إلاّ أنها أضحت مثلاً احتذت به احدى التنظيمات الشيوعية في مصر، وهي المنظمة السرية الشيوعية "الشرارة"، التي كلفت الفرع اليهودي في المنظمة بالعمل على تأسيس "الرابطة الاسرائيلية لمكافحة الصهيونية" في أواسط عام 1946. وقد لخصت أهدافها "في محاربة العنصرية، ومكافحة الاستعمار، وربيبته الصهيونية". ودعت الرابطة إلى "تكتيل جميـع العناصر الوطنيـة المخلصة، لتحطيم الاستعمار، وقهـر الصهــيونية، وإيجـاد شرق عربي حر مسـتقل، يظلله التسـامح، وجو الأخـاء المطهر من العنـصرية العصبية المقيتة، التي لن يكسب من ورائها سوى الغاصب المحتل". وأسست هذه المنظمة فروعاً لها في القاهرة والأسكندرية وقامت بحملات دعائية ضد الصهيونية في أطراف القاهرة أيضاً. وتزعم هذه المنظمة عزرا هاراري، وكان من بين قادتها مارسيل اسرائيل وأدوارد ماتالون وأدوارد ليفي وهانزيم كاسفلت. وقد تم في أيار عام 1947 القبض على جميع أعضاء الهيئة المؤسسة لهذه المنظمة، إلى أن تم حلها في عام 1948.

وبمناسبة الذكرى السادسة والثمانين للحزب الشيوعي العراقي، لا يسعنا إلاّ أن نستذكر الدور الوطني الفعال للرفاق اليهود في نشاط الحزب الشيوعي، مما عرضهم شأنهم في ذلك شأن رفاقهم العرب والكورد والكلدان والآشوريين والأرمن والايزديين ...إلى الملاحقات والسجون وحتى الإعدام. فقد استشهد أول شيوعي على يد أجهزة الأمن العراقية هو شاؤول طويق جراء مشاركته في مظاهرة لنصرة الشعب الفلسطيني عام 1946. وجرى إعدام الرفيق يهودا صديق في نفس الفترة التي أعدم فيها قادة الحزب فهد وحازم وصارم عام 1949، كما أعدم بعد شهرين الرفيق ساسون شلومو دلال وهو في عمر لا يتجاوز العشرين إلاّ بقليل حيث تولى قيادة الحزب في الفترة بين تشرين الأول 1948 وحتى نيسان عام 1949 بعد اعتقال قادة الحزب. و وقبيل إعدامه وجّه ساسون دلال رسالة إلى أخيه

قال فيها:" انهم يستطيعون سلبي حياتي،  لكنهم لا بستطيعون تغيير أفكاري، لأنها لأجل البشرية جمعاء. أنا حر لأنني أعرف الحقيقة، ولا السجن ولا الإعدام يمكن أن يسلبا هذه الحرية مني. غداً عند الفجرسأموت. نعم يستطيعون إنهاء حياتي ومنعي من فضحهم وقتالهم، ولكن مع موتي، هناك آلاف غيري سوف يقفون بوجههم.نحن الأكثرية، وهم الأقلية. إنني لست آسف للموت. في الواقع، إذا منحت فرصة الحياة مرة أخرى فإنني سوف أتبع نفس المسار". 

عرض مقالات: