" مئة عام من العزلة " عنوان رائعة الروائي العالمي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز  الحائز على نوبل للآداب ، وهو نفسه مؤلف " الحُب في زمن الكوليرا " ، وها هي البشرية على وشك إكمال مائة يوم من  العزلة الاختيارية أو الموجهة منذ أول ظهور  لڤيروس  كورونا  في الصين أواسط ديسمبر /  كانون الأول  الماضي . ورغم الأخبار المبشرة بنهاية قريبة له ، إلا أن لا أحد من العلماء بوسعه أن يجزم حتى اللحظة بأننا لن نعيش مائة يوم ثانية من عزلة قد تمتد بنا حتى تموز /يوليو القادم وربما تحرم المقتدرين من  الناس من الاصطياف بعد أيام عجاف طويلة   ؛ وإن كان من المؤمل أن تكون المائة يوم الأخيرة نحو انحسار ملموس لوحش قريتنا الكونية المشتركة الذي ما كان له أن يقتحمها لولا المافيا الدولية الرأسمالية التي فرضت نفسها بالبلطجة البوليسية عمدةً عليها خدمة لمصالحها الأنانية الضيقة على حساب مصالح كل سكان هذه القرية الكونية  ، هي - الرأسمالية - التي تتحمل النصيب الأكبر في تلويث هذه القرية الجميلة  .

وإذا كان من الصحيح أن ڤيروس كورونا ظهر في الصين، فإن هذه الأخيرة ورغم ضخامة سكانها وحجم مساحتها لا تشكل إلا جزءاً من القرية الكونية الاُم؛ وبالتالي فليس هذا الجزء معزولاً عن تأثره وتأثيره على تلوث سائر أرجاء هذه القرية العالمية. ولنتذكر بأن الكثير من الفيروسات القاتلة التي انتشرت منذ مطلع الألفية الجديدة، كأنفلونزا الطيور والخنازير وجنون البقر وسارس إنما ظهرت على خلفية التدخل الرأسمالي الأناني اللامسؤول في الانظمة الطبيعية لغذاء الحيوان والنبات على السواء وذلك من خلال استعمال مضادات حيوية وهرمونات لتسريع مصطنع لنمو الحيوانات وتغذية النباتات بهدف زيادة وتسريع الانتاج ومراكمة الأرباح مما تسبب بدوره مع مرور الوقت في تأثيره السلبي على النظام الغذائي الطبيعي. ومع انقضاء المائة يوم الاولى من ظهور فيروس كورونا فإن أعداد قتلاه بلغوا أضعاف قتلى فيروس سارس بين عامي 2002 و2003، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأعداد لا تعبّر عن نسبة كبيرة قياساً ببلد بحجم سكان الصين (زهاء مليار ونصف مليار نسمة).

وتأسيساً على ما تقدم فإن الدول الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، إذ تتهم الصين بأنها تحتل المركز الأول عالمياً في انبعاثات ثاني اكسيد الكربون المسببة للاحتباس الحراري تتناسى أن الصين إنما تحتل عملياً المركز ال 38 من حيث حجم توزع الانبعاثات على أعداد سكانها مقارنة بالدول الرأسمالية الصناعية ما خلا السويد والدنمرك. صحيح أن ارتفاع مستوى معيشة الصينيين وتمتعهم كافة بوصول الكهرباء لمنازلهم ، وتحديث شبكات النقل وما أستتبعها من زيادة المصانع المنتجة لها ، وبروز الأنماط الاستهلاكية لدى العديد من فئاتهم الشبيهة بالدول الرأسمالية وتابعاتها الدول الريعية النفطية العربية ، بما في ذلك أمتلاك الصينيين السيارات الخاصة ، نقول : صحيح أدى كل ذلك إلى ارتفاع انبعاثات ثاني اكسيد الكربون ، إلا أن من الصحيح أيضاً أن نسبة  أمتلاك السيارات الخاصة في صفوف فئات هذا الشعب ما برحت ضئيلة جداً إذا ما قورنت بالدول الرأسمالية الكبرى ، وإذا ما قورنت أيضاً بتابعاتها بالدول  الريعية  الخليجية . وعلى سبيل المثال إذ يقدر الخبراء الاقتصاديون أن كل 6 صينيين يملكون سيارة واحدة من مجموع مليار ونصف صيني فإن النسبة في الولايات المتحدة تبلغ ستة أضعاف حيث يوازي عدد السيارات فيها بمجموع عدد السكان (330 مليون نسمة)، أي بمعدل ما يقارب سيارة واحد لكل شخص امريكي. 

ومع ذلك فإن الصين وانطلاقاً من شعورها بمسؤوليتها العالمية تعهدت بإنتاج 20% من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، ولتحقيق هذه الغاية أوقفت تصاريح انشاء محطات الكهرباء العاملة بالفحم المسببة لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وشرعت في خطط لرفع انتاج السيارات الكهربائية بهدف استخدامها محلياً، كما شرعت في انتاج الخلايا الضوئية التي هي عماد انتاج الكهرباء الشمسية، وخصصت أيضاً ميزانيات ضخمة للأبحاث المتعلقة بإنتاج الهيدروجين الموظف في انتاج محركات السيارات.

وحتى مع ما يثيره حجمها السكاني من قلق بيئي إلا أن الصين وبفضل خططها السكانية الدؤوبة مازالت تقل نسبة الزيادة السنوية في حجم سكانها الكلي عن معظم دول العالم وفي عدادها الولايات المتحدة. وفي هذا الصدد لم يجانب الخبير البيئي اللبناني نجيب صعب الصواب عندما لفت النظر إلى أن الذين يفزعون العالم من خطر الحجم السكاني المرعب للصين كمصدر للأوبئة يغضون النظر أيضاً عن حقيقة أنها أضحت أكبر مختبر عالمي لتطوير تكنولوجيات صديقة للبيئة وسط مجتمع يشكل نحو خُمس سكان العالم.     

الآن ما من جهة دولية بوسعها أن تكابر  بأن الصين التي تمكنت من السيطرة على فيروس كورونا ومحاصرته والحد من تمدده في شتى بقاعها بنجاعة وكفاءة عالية مشهودة حتى باتت كثير من دول من العالم حتى الصناعية المتقدمة -كإيطاليا - تستعين بخبرتها ؛  ومع أن بكين ظلت طوال الأزمة حذرة في أوج الظروف العصيبة  التي مرت خلال المئة يوم الماضية من  توجيه اتهام صريح لواشنطن بمسؤوليتها عن زرع ونشر  الفيروس داخل الأراضي الصينية إلا أن ليجان زاهو نائب رئيس ادارة المعلومات في وزارة الخارجية الصينية رجح مؤخراً بأن الجيش الأميركي هو من جاء بهذا الفيروس إلى منطقة ووهان التي كانت بؤرة انتشاره وتحدى بأن تتحلى واشنطن بالشفافية وتعلن أرقامها عن عدد المصابين وعدد قتلى الفيروس واسماء المستشفيات التي تعج بهم . والولايات المتحدة التي ظهر فيها الفيروس منذ مدة فترة غير قصيرة ولم تعلن عنه سوى مؤخراً، وحيث أعلن رئيسها ترامب حالة الطواريء وحزمة اجراءات اخرى، لم تكن فقط أشبه بدولة شمولية في عدم تحليها بالشفافية أزاء بدايات نذير ابتلاء شعبها به، بل كان سلوكها في أوج الأزمة الكارثية الصحية التي مرت بها الصين ومناطق عديدة من العالم يتسم بالشماتة واللامبالاة فلم يتورع وزير خارجيتها جورج بومبيو عن القول إن الخطر الذي يهدد البشرية هو قيادة الصين الشيوعية وليس وباء كورونا. وبعد أن طارت السكرة وحلت الفكرة هاهو كيدهم يرتد لأعناقهم.   

 

عرض مقالات: