تعرف الموازنة بأنها عبارة عن بيان تقديري لنفقات وايرادات الدولة عن مدة مستقبلية تكون عادة سنة. ويتطلب تقديمها من الحكومة التي تعدها الى البرلمان ورئيس الجمهورية للمصادقة عليها. وهي اداة رئيسة من ادوات السياسة المالية تعكس رؤية الحكومة الاقتصادية والاجتماعية وتعمل على تحقيق اهدافها. وبناء على ذلك فإن الموازنة العامة للدولة ما هي الا خطة مالية يتم على اساسها اتخاذ القرارات الخاصة بالنفقات العامة للدولة وايراداتها لفترة لاحقة، أي انها تمثل برنامجا ماليا يتضمن السياسات المالية والأهداف التي تسعى الدولة الى تحقيقها.
كان المفروض ان تقدم حكومة عبد المهدي موازنة 2020 لإقرارها واصدار قانونها، الا ان الحكومة قد اجبرت على الاستقالة لفشلها وضعفها، وتشير التقارير الى ان جلسات اعداد مشروع قانون الموازنة من قبل اللجان المختصة كانت قد بدأت منذ شهر حزيران 2019 ورغم دخولنا الشهر الثاني من العام الجديد 2020 ولم ير المشروع النور. ويرى البعض ان سبب عدم تقديم الحكومة للموازنة الى البرلمان يعود الى وجود نسبة عجز كبيرة تصل الى نحو (48) تريليون دينار عراقي، وهذا الرقم كبير جدا وغير مسموح به لأن قانون الادارة المالية للدولة العراقية لسنة 2019 وفي المادة ( 6 ) / رابعا قد نص على ان لا يزيد العجز في الموازنة التخطيطية على 3 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي وهي قاعدة مهمة لكبح الانفاق العام المتضخم على حساب الاقتراض وتراكم الدين العام . بينما تشير نسبة العجز الحالية الى أكثر من 30في المائة من الموازنة وهذا مخالف لقانون الادارة المالية الذي نص على ان تكون نسبة العجز 3 في المائة، فلماذا اذن يتم تشريع القوانين ولا يلتزم بها أحد؟ وكما هو معلوم فإن الحكومة العراقية ليست لها منافذ لتغطية هذا العجز الكبير وليست لديها مصادر داخلية للتمويل ولذلك ستلجأ الى الاقتراض من صندوق النقد الدولي لسد العجز وعندها سيفرض الصندوق شروطه المجحفة ووصفته الجاهزة وسيخضع الاقتصاد العراقي الى توجيهات الصندوق. ويعزو خبراء اقتصاديون ونواب اسباب العجز الكبير في موازنة 2020 الى قضية التعيينات العشوائية التي أطلقها عبد المهدي والبالغة (200) ألف درجة وظيفية جديدة لإسكات المتظاهرين الذين يطالبون بحقهم في العمل. وهي وسيلة فاشلة لمداراة عجز الحكومة عن ايجاد سبل كفيلة للنهوض بالاقتصاد العراقي ومعالجة مشكلة البطالة المتفشية بين الشباب والخريجين واصحاب الشهادات العليا. الا ان وعود عبد المهدي في التعيين لم تنطل على المتظاهرين الذين شبعوا من وعود الحكومات السابقة التي لم ينفذوها ، وهذا ما دعا المتظاهرين السلميين الى رفع سقف مطالبهم حيث دعوا الى اسقاط النظام السياسي الطائفي والفاسد والذي تسبب في كل الكوارث التي حلت بالبلاد وبالشعب العراقي ، فالتعيينات الجديدة لم تراع الايرادات المخمنة لعام 2020 .ويشير خبراء قانونيون الى انه لا يمكن الاستمرار في تنفيذ تعليمات موازنة 2019 الى العام الذي يليه 2020 لأن قانون الموازنة نافذ لمدة سنة واحدة، ويترتب على ذلك آثار قانونية كاملة سواء على مستوى الانفاق او تنفيذ الموازنة . وفي كل الأحوال فإن التأخير في اقرار موازنة 2020 يعني توقف المشاريع الحكومية وعدم انجازها (ان كانت هناك مشاريع غير وهمية)، اضافة الى ان العراق قد خرج من حرب شرسة ومكلفة ضد داعش الإرهابي افرزت تحديات صعبة ينبغي مواجهتها في اطار البنى التحتية التي تضررت كثيرا وفي مقدمتها قطاعات الصحة والتعليم والمواصلات خاصة في المدن المتضررة من الاحتلال كالأنبار والموصل وصلاح الدين .
أبرز التحديات:
1) العجز الكبير الذي تمت الاشارة اليه، والذي ثبتته وزارة المالية عند إعداد الموازنة بـ 72 تريليون دينار غير ان البرلمان رفض استلام الموازنة بهذا الرقم الكبير من العجز الا بعد اجراء التعديلات وتخفيض العجز الى حدود الـ 48 تريليون دينار وحتى بعد تخفيض العجز فإن هذا الرقم لوحده يعد كارثة اقتصادية.
2) التأخير في اقرار الموازنة يؤدي الى تأخير عملية الصرف وتنفيذ المشاريع واعادة اعمار المدن المحررة من داعش واعادة المهجرين الى ديارهم. وقد يكون التأخير بسبب المناكدات السياسية والابتزازات السياسية التي تحصل عند اقرار كل موازنة لتثبيت الكتل السياسية مغانمها ولتثبيت الكرد شروطهم وموافقتهم على الموازنة المرتبط بتنفيذ شروطهم وحصتهم من الموازنة.
3) الفساد الكبير المتفشي في اجهزة الدولة المختلفة المدنية والعسكرية والذي يقضم جزءا كبير من موارد الموازنة. فقد كشفت النائبة (ماجدة التميمي) عن هدر (228) تريليون دينار بمشاريع وهمية لا وجود لها على ارض الواقع قدرتها بحدود ( 6 ) آلاف مشروع وهمي منذ عام 2014 ، ولم تكلف الحكومة نفسها بالكشف عن الفساد والجهات المستفيدة من هذا الهدر في المال العام . وبهذا الصدد اشار عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي عدنان الزرفي الى الفساد الكبير حيث بين بأنه كان المفروض ان يتم بناء (1000) مدرسة في عام 2019 ولكن السنة المالية انتهت ولم يتم بناء أي مدرسة . ويشير ايضا الى ان حجم التمويل الذي تم عبر الموازنة التي قيمتها 116 تريليون دينار للعام الماضي لم ينعكس بأي إثر ملموس في أي مدينة عراقية ولم تظهر له أي نتائج واضحة سواء في شبكة الماء او الكهرباء او التعليم او الصحة او المجاري علما بأن مشاريع الكهرباء بقيت متلكئة طيلة الأعوام 2017 و2018 و2019 و2020 وهي ممولة بقروض اجنبية تلزم العراق بأن يدفع عليها فوائد بشكل مستمر. هذا وتفيد التقارير ان العراق قد خسر بسبب الفساد بين عام 2013 ونهاية 2018 (36) مليار دولار وهو ما دفع لأن يصبح العراق من البلدان الأكثر فسادا في العالم حسب منظمة الشفافية الدولية.
4) معالجة البطالة المتفشية حيث تشير الأرقام الى وجود أكثر من مليون عامل أجنبي يعملون في قطاعات حيوية من الاقتصاد العراقي أبرزها الصناعات النفطية وهم قد حلوا محل العراقيين العاطلين عن العمل وبإمكان الحكومة العراقية وبموجب عقود العمل مع الشركات الأجنبية إذا كانت جادة في معالجة البطالة ان تلجأ الى فرض قيود على الشركات الأجنبية ترغمها على تسريح نصف عدد العمالة الأجنبية وتعيين عمال عراقيين بدلا عنهم. كما يحق للحكومة العراقية ان تستقطع مبالغ محددة من هذه الشركات اضافة الى جميع شركات القطاع الخاص العراقية لأجل توفير تقاعد لكل العاملين فيها مما سيكون عامل جذب كبير للأيدي العاملة العراقية التي ستتجه الى القطاع الخاص بدلا من القطاع العام طالما كان هناك ضمان لمستقبلهم وعوائلهم بمنح الراتب التقاعدي، ويمكن تضمين هذه الفقرة في العقود التي توقعها الحكومة مع الشركات المستثمرة واصدار قانون بمنح التقاعد للعمال العراقيين العاملين في القطاع الخاص العراقي.
5) المنافذ الحدودية وعدم الاستفادة من وارداتها: حيث تشير التقارير الى ان واردات المنافذ الحدودية تصل الى اكثر من 15 تريليون دينار سنويا وهو مبلغ كبير لكن ما يصل الى الحكومة من مجموع هذه الواردات لا يتجاوز ( 1 ) تريليون دينار اذ يتسرب الجزء الأكبر منها الى جيوب الميليشيات والقوى السياسية التي تسيطر على المنافذ الحدودية وتديرها في ظل غياب الحكومة وعجزها . ولو تمكنت الحكومة من السيطرة على المنافذ الحدودية والنفط المهرب فإنها ستوفر ايرادات مالية للموازنة وتتمكن من معالجة مشكلة البطالة والفقر.
6) زيادة النفقات العسكرية والفضائيين اضافة الى القرارات الاقتصادية غير المدروسة.
7) سوء الادارة والتخطيط.
8) حجم الديون الخارجية الكبير وفوائدها المتزايدة: فقد كشفت اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي عن حجم الديون الخارجية المترتبة على العراق والبالغة نحو 125 مليار دولار محذرة من خطر يهدد مستقبل البلاد، وان بقاء هذه الديون وفوائدها الكبيرة التي تتزايد باستمرار ينذر بوجود خطر على المستقبل الاقتصادي للبلاد، وقد تم تخصيص (20 ) تريليون دينار من الموازنة لتسديد هذه الديون . وان عجز الحكومة عن تغطية العجز الكبير في الموازنة سيدفعها الى الارتماء في احضان صندوق النقد الدولي لمزيد من القروض والذي سيفرض شروطه وتدخله في الشأن الاقتصادي العراقي.
9) زيادة الانفاق الحكومي بشكل خيالي حيث تقضم تخصيصات الرئاسات الثلاث وإيفاداتهم أكثر من ربع الموازنة. اذ يتقاضى العاملون في الرئاسات الثلاث رواتب خيالية غير موجودة في الدول المتقدمة وهم خارج قواعد الخدمة المدنية، وقد وصفت صحيفة الديلي ميل البريطانية البرلمان العراقي بأنه أفسد مؤسسة في التاريخ يتقاضى رواتب خيالية غير موجودة حتى في واشنطن ولا يقدم مقابلها قوانين تمس حياة المواطنين. يمكن تقليص النفقات الحكومية الى درجة كبيرة من خلال الغاء الحمايات والغاء شراء السيارات الفارهة ذات المواصفات الخاصة ومنع تبديل الأثاث عند تبديل كل وزير اضافة الى تقليص الرواتب والغاء الرواتب التقاعدية الممنوحة للوزراء السابقين ورؤساء الجمهورية واعضاء مجلس الحكم حيث يمنحوا الراتب التقاعدي بعد خدمة اربع سنوات وبمبالغ خيالية تتراوح بين 40 مليون الى 60 مليون دينار في حين يفني العامل والموظف عمره في الوظيفة وبعد خدمة 40 سنة او اكثر ويتقاضى راتبا تقاعديا بسيطا قد لا يتجاوز 400 ألف دينار لا تكفيه وعائلته فأية عدالة هذه ؟! فهذه كلها يمكن ان توفر اموالا كبيرة للموازنة يمكن استغلالها في مشاريع اقتصادية تشغل ايدي عاملة كثيرة وتنهض باقتصاد البلاد. ولكن من سيفعل ذلك ويخسر هذه الامتيازات؟
10) التخلص من الاقتصاد الريعي الوحيد الجانب والعمل على تنويع مصادر الدخل القومي من خلال تفعيل قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة والتعدين والنقل والتجارة وغيرها، وبالتالي يمكن اضافة مصادر مالية جديدة الى جانب عائدات النفط الكبيرة.
11) عدم حرق الغاز الطبيعي المصاحب واستيراد بديل عنه من إيران فهذا سوء ادارة بامتياز. فاستيراد الغاز يكلف ميزانية الدولة اموالا طائلة في الوقت الذي هو موجود لدينا ويحتاج الى من يستثمره.
12) ضخامة بند المرتبات الذي يلتهم أكثر من نصف الموازنة بينما جاء نصيب معظم القطاعات الاخرى خاصة الصناعة والزراعة والتعليم والصحة وغيرها ضعيفا، فكيف سنتمكن من النهوض بهذه القطاعات؟
اذن يمكن مواجهة العجز الكبير في موازنة 2020 من خلال تقليل النفقات الحكومية وضغطها بشكل كبير اذا كانت الحكومة الجديدة جادة وتريد النهوض باقتصاد البلاد ومعالجة مشاكلها. كما يمكن تقليص العجز عن طريق تعظيم الموارد للموازنة من خلال تفعيل القطاعات الانتاجية غير النفطية وتفعيل الضرائب العادلة والزام اقليم كردستان بتسليم حصته من بيع النفط البالغة ( 250 ) ألف برميل يوميا الى الحكومة المركزية ، اضافة الى السيطرة على المنافذ الحدودية ومكافحة الفساد فيها ومحاربة الفساد في مؤسسات الدولة المختلفة المدنية والعسكرية وفرض الرقابة المشددة على الوزارات لمنع المشاريع الوهمية التي تضم جزءا كبيرا من موازنة الدولة العامة ، مع ضرورة التخلي عن نهج المحاصصة الطائفية الذي يأتي بأشخاص غير مؤهلين في قيادة مرافق اقتصادية مهمة مما يؤدي الى سوء الادارة والتخطيط وتفشي الفساد . هذه تحديات كبيرة امام الحكومة الجديدة التي تحاول الكتل السياسية المتضررة والتي تريد الابقاء على امتيازاتها ومصالحها ومشاريعها عرقلة تشكيلها. فهل تستطيع الحكومة الجديدة مواجهة ذلك. اشك في ذلك.
ــــــــــــــــــ
المصادر:
1) منتديات جامعة التكوين / اصلاح نظام الموازنة العامة.
2) وكالة يقين للأنباء / 125 مليار دولار حجم الديون الخارجية المترتبة على العراق.
3) مروان ياسين / القدس العربي / الاقتصاد العراقي: عجز كبير في موازنة 2020 وغياب الرؤية لمواجهة الأزمات.
4) موازنة 2020 : العراق سيلجأ الى الاقتراض الخارجي .
5) رائد الهاشمي / موازنة 2020 كارثة اقتصادية على العراقيين / شبكة النبأ المعلوماتية.