مضى على دخول الرأسمالية العالمية أعلى مراحلها ( الطور الامبريالي ) ما يقرب قرن ونيف، ورغم كل المتغيرات الهائلة الي مرت بالعالم من أحداث سياسية جسام وحروب عالمية وإقليمية طاحنة ، وتطور فكري وحقوقي  ، إلا أنها - الرأسمالية في طورها الامبريالي  - ما انفكت لاتتورع عن الاستهتار بمصائر  الشعوب وقضاياها الوطنية وما يتصل بها من حقوق ديمقراطية وإنسانية ، على نحو ما تم فضحه الإسبوع الماضي  في تقرير صدر عن الامم المتحدة بتورط شركات إسرائيلية وغربية في دعم الاستيطان في الأراضي المحتلة 1967 من خلال الأعمال الاستثمارية فيها ،  وهذا  ما يذكرنا بالضبط بموقف الدول الرأسمالية ذاتها المجلل بالخزي والعار  إبان حقبة نضال شعب جنوب افريقيا ضد النظام العنصري حيث كانت تنتهك قرارات  الامم المتحدة بمقاطعة هذا النظام اقتصادياً .  ومع ذلك فإن سلاح المقاطعة الاقتصادية وغيرها من أشكال المقاطعة الاخرى ضد ذلك النظام العنصري كان من العوامل الفاعلة التي ساهمت في تكلل نضال شعب جنوب بالانتصار مطلع تسعينيات القرن الماضي لإسقاط ونيله الحرية . 

 على النقيض من ذلك فقد أضاع الفلسطينيون والعرب أكثر من سبعة عقود  منذ نكبة 1948  - أنظمةً وحركات تحرر  -من عمر القضية الفلسطينية في المزايدات الثورية حول الطريق الأنجع لتحرير فلسطين ، فمن مزايدة الأنظمة القومية والصراع فيما بينها من أجل احتكار الوصاية على القضية الفلسطينية ورفعها شعار تحرير فلسطين من النهر إلى البحر بالحرب العسكرية النظامية الذي ظل بمثابة حبر  على ورق كغيره من شعاراتها ، إلى شعار حرب التحرير الشعبية من النهر إلى البحر أيضاً والذي تبنته كل فصائل المقاومة على اختلاف أيديولوجياتها حيث باءت كل هذه الشعارات بما فيها ماتم تجريبه ، كالكفاح المسلح ، بالفشل الذريع ، إلى مراهنة حركة فتح المهيمنة على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على الخيار التسووي السلمي دون سواه وهي مجردة من أي أوراق قوة ، و في ظل شروط غير مؤاتية منذ توقيعها بإسم المنظمة على اتفاق اوسلو 1993 مع إسرائيل التي تمكنت ببراعة من حشر المنظمة في قفصه ومأزقه منذ مضي 27 عاما على  توقيعه  . 

والحال ما كانت القضية الفلسطينية لتكون بهذا الضعف الراهن  لولا تفريط السلطة الفلسطينية والعرب في  سلاح المقاطعة لاسرائيل في شتى المجالات ، وعلى الأخص المجال الاقتصادي .  ولعل من المفارقات الساخرة البالغة الخزي والعار أن تتصاعد وتتوسع انتهاكات الدول العربية للمقاطعة ويتزايد تقاربها التطبيعي مع إسرائيل  بالتزامن مع انبثاق حركة عربية عالمية منذ العقد الماضي لمقاطعة إسرائيل عُرفت بإسم BDS والتي جاءات  بسبب توحش سلطات الاحتلال الاسرائيلية غير المسبوق تاريخياً في قمع الشعب الفلسطيني واستهتارها بكل قرارات الشرعية الدولية الخاصة بحقوق هذا الشعب والحيلولة دون ممارسة حقه في تقرير  مصيره على أرضه وإقامة دولته المستقلة ، بما في ذلك عدم تخليها عن مخططات تهويد هذه الأراضي من خلال التوسع في إقامة المستوطنات بدعم غدا صريحا من الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس الحالي ترامب . 

مؤخراً وبعد أيام قليلة من أعلان واشنطن صفقة القرن المشؤومة الرامية لتصفية القضية الفلسطينية صدر عن الامم المتحدة تقرير يتضمن القائمة السوداء ل 112 شركة غربية تمارس أنشطة استثمارية في المستوطنات الاسرائيلية في أراضي 67 غير المشروعة بموجب قرارات الشرعية الدولية ، ومن هذه الشركات 84 شركة إسرائيلية و18 شركة من ست دول اخرى هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهولندا وتايلند ولوكسمبورغ  ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر : شركة ( إير بي إن بي )  الامريكية  لتأجير المساكن عن طريق النيت ، و( بوكنغ  كوم ) لحجز الفنادق  و ( اكسبيديا ) للسفر والرلات و ( وتريب أدفايزور )،  وكوكا كولا الامريكية وهي الشركة التي سبق أن قاطعتها معظم البلدان العربية على إثر  عدوان يونيو حزيران 1967 ثم تراجعت عن مقاطعتها لها تدريجياً  منذ الثمانينيات  . علماً بأن عدد الشركات المتورطة في الاستثمار داخل المستوطنات يصل إلى أكثر من 300 شركة وليس 112 فقط .

ولو أن المزايدين في العداء لأمريكا وإسرائيل على حركة الاحتجاج السلمي والقوى الوطنية والديمقراطية في العراق من خلال قيامهم بأعمال غير مدروسة وغير مأمونة العواقب في تعقيد اوضاع شعبهم كتوجيهم ضربات صاروخية لا تهش ولا تنش إلى السفارة الامريكية وغيرها من المواقع العسكرية الامريكية الاخرى، وكتسيير مظاهرات " مليونية " ضد الوجود العسكري الاميركي بغية خلط الاوراق وصرف أنظار الجماهير عن مطاليبها المعيشية والسياسية الآنية لإصلاح النظام إصلاحاً جذرياً حقيقياً  ودحر نظام الفساد والمحاصصة الطائفية .. نقول لو أنهم تزعموا حركة لمقاطعة الشركات الامريكية والغربية لكم قدموا خدمة وطنية لشعبهم ولقضية شقيقه الشعب الشقيق في آن واحد . فمثل هذه الأعمال لا تخدم إلا النظام الفاسد الآيل للسقوط وتخدم أجندة القوى الإقليمية الآنية التي يأتمر بها للأسف أولئك المزايدون .    

مهما يكن فإن غض النظر من قِبل الدول الرأسمالية التي تتشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتي سبق لها أن أدانت أيضاً  الإستيطان الاسرائيلي في لأراضي التي احتلتها عام 67 19 عن الشركات التي تحمل جنسياتها بالعمل في المستوطنات لهو يعري الوجه القبيح للرأسمالية التي لا تورع في سبيل ارضاء جشعها عن العمل بأسلوب المافيات في خرق القوانين الدولية وانتهاك القيم الإنسانية المشتركة .  

وأخيراً فإنه إذا كانت السلطة الفلسطينية قد رحبت بتقرير  الامم المتحدة الخاصة بقائمة الشركات المستثمرة في المستوطنات الأسرائيلية، فإنها بدلاً من أن تطلب من الدول العربية وتضغط عليها بأن تتخذ موقفاً حازماً  من شركات غربية مدرجة في القائمة السوداء تعمل  في المستوطنات وبحيث تصدر جامعة الدول العربية قراراً بمقاطعتها ،وفإنها أعلنت عن  عزمها أن توجه حسب مزاعمها انذارات لتلك الشركات واذا لم تستجب فستقاضيها  فإنها - على حد تعبير صائب عريقات - ستقاضيها في لاهاي بينما لا تملك أي أوراق قوة لحمل تلك الشركات على الانصياع  لمطالبها وذلك  في ظل مراهنتها على المفاوضات وفي ظل أيضاً أستمرار الانقسام الفلسطيني الذي طال أمده  وفي ظل تمسكها بسياسة الاستخذاء أمام الانظمة العربية والولايات المتحدة ، كما شاهدنا الرئيس محمود أبو عباس مؤخراً في خطابه الاستجدائي الذليل بمجلس الأمن ، متوهماً كسب ود الدول الكبرى بمجلس الأمن بإظهار تمسكه بسلاح المفاوضات مع إسرائيل وهو مجرد من اوراق الضغط والقوة النضالية.

 

عرض مقالات: