في فترات قريبة، شكّكت القوى التي لم تتحرر من النموذج الاستبدادي في امكانية وصول موجة التغيير الى بلاد النهرين، وشنّ اصحاب المصالح المشبوهة هجوما لاذعا ضد كلّ من تجرأ على ايقاظ شعار (اسقاط الفساد)!، وكان للفئات المدنية والشخصيات الوطنية والمعتدلة النصيب الاكبر من الشتم والتشهير والسخرية، لأنهم توقعوا غضبا جماهيريا عارما لابدّ ان ينفجر في بلد اصبحت فيه الحريات مهظومة والعدالة تمشي على رأسها.

هذه الادعاءات جاءت تحت ذريعة، أنّ الحكومات التي تعاقبت على ادارة شؤون العراق منذ 2003 كانت نتيجة كما يدّعون للاقتراع الشعبي الذي اختلف عهده جوهريا عن عهود ((تسعة وتسعين فاصل تسعة وتسعين بالمائة))!، وانّ المرحلة التي نمر بها هي مرحلة (انتقال ديمقراطي)، متناسين في ذلك، ان لا شرعية لأي حاكم ما لم يكن قادرا على ادارة شؤون بلاده بما يحقق النمو والتقدم ويضمن الحريات والكرامة والسيادة.  

وعلى هذا الاساس، وبعد ان عجزت الطبقة السياسية عن تحقيق ما يصبوا اليه العراقيون، بل وساهمت في رفع درجات الفقر والتهميش لشرائح اجتماعية واسعة، وعزّزت الشعور بالاغتراب والاحباط، وجعلت الفساد والمحاصصة سمة دائمة لنظامها السياسي حتى اوصلت العراق الى هاوية اقتصادية غير مسبوقة، وراهنت على عزوف العراقيين عن ممارسة السياسة، تدفقت حشود الشباب في الاول من اكتوبر على الشوارع يطالبون بالتغيير ووضع حد لهذا الانحدار المريع.

واكتسب هذا الحراك الشعبي الواسع قوته وثباته بشعار (السلمية) الذي كان ومازال صنوهُ وتوأمهُ بالرغم من آلة القمع التي لا ترحم، وبهذا الشعار استطاع شباب الساحات وبذكاء نادر ان يجنبوا العراق اسوأ السيناريوهات التي خطّط لها الذين يريدون البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة والذين من مصلحتهم ان تختلط الاوراق وتتحول الاحتجاجات الى دوامة عنف، وبالسلمية ايضا حققوا نضجا سياسيا وفكريا واجتماعيا في مدنية حراكهم وحضارية التغيير المنشود.  

لكنّ السلطات الخائفة على نفوذها وامتيازاتها وتحسبا لما هو اسوأ، لجأت الى المبدأ المكيافيلي (الغاية تبرر الوسيلة)، فأستخدمت جميع الطرق القمعية لأخماد الانتفاضة، هذه الصور المزعجة ذكرتنا بافلام شاهدنا اجزاءها الاولى في مصر وتونس وليبيا وغيرها من بلدان الربيع العربي والتي لم تمنع من الاطاحة بالطغاة واحدا بعد اخر. ولم يكتف اصحاب الخيار الأمني بذلك، بل راحوا وفي مكاتبهم المعلومة، يوجهون الاتهامات الجاهزة التي ما انزل الله بها من سلطان (الشذوذ والادمان والعمالة وتنفيذ الاجندات الخارجية) من اجل تشويه سمعة المنتفضين.

لكنّ شباب العراق وقواه الحيّة لا يرضعون اصابعهم، ولا يمكن اللعب على عقولهم ومشاعرهم كما يلعب المسرحي بدماه المتحركة، بل باتوا يعرفون ما يحاك في الدهاليز من قبل الذين استثمروا لسنوات طويلة في النزاهة والنظافة دون جدوى، وهم مصرون اليوم بانتفاضتهم السلمية على تفكيك البنية المتكلسة التي تقاوم تطلعات الجيل الجديد الذي يرفض ثقافة القرون البائدة و(قاعدة الاستثناء)، ومقتنعون: بأنّ الفوز سيكون حليفهم سواء كان بالنقاط او بالضربة القاضية!.

 

عرض مقالات: