عندما يكون هناك غياب مبرمج للعدالة الإجتماعية وقمع رغبات المجتمع وسلب حقوقه الطبيعية، لابد وأن تنشأ حركة إحتجاجية جماهيرية قوية، وكلما زادت السلطة بأساليبها القمعية للحد من هذه الإحتجاجات كلما زاد التحدي والتصعيد، لتتحول المطالب الجماهيرية من مطالب خدمية الى مطالب أوسع تمس نظام الحكم وتغييره.. وهذا ما لا يمكن أن تدركه الأحزاب الإسلامية ذات العقلية البدوية المتخلفة والتي مازالت تعشعش في عقول قياداتها ذهنية التحريم وعقلية التجريم ومنطق التكفير وشريعة القمع المعجونة بالآيات والأحاديث كوسائل قمعية لإرهاب وتخويف الشعب العراقي، ظنّاً منها بأن مواعظها الفارغة المنتهية صلاحيتها وسيوفها الصدئة ستعـدِّل ألأحوال لصالحها، فجاءت النتائج بعكس ما كانت تصبو اليه.

وها هي عاصفة شباب التحرير قد نفضت الغبار المتراكم على الدولة العراقية منذ سنين طوال، وكشفت المستور من قبائح الأمور، فأصبحت كل القوى الإسلامية وأحزابها وما بينها من تسميات دينية وطائفية عارية تماماً ليس أمام الشعب العراقي فحسب بل وأمام العالم بأسره.

والآن بات واضحاً، أن الكتل الإسلامية المتنفذة والتي جيء بها الى كراسي الحكم في العراق لم تهتم كثيراً بكيفية إدارة الدولة، أو بالأحرى هي غير كفوءة ولا مؤهلة لإستلام السلطة وإدارة الدولة، بل أصبح جل إهتمامها بالسرقات وتكديس الأموال في البنوك الدولية، فتحولت الى عصابات ومافيات مستقوية بميليشيات مسلحة زرعوها بين الأحياء السكنية ودوائر الدولة تحسباً لأي طارئ يهز مكاتب نفوذها ويزعزع سلطتها.

وإستقوت أيضاً باللعبة الطائفية، ونجحت الى حد كبير في كسب بسطاء الناس بدغدغة عواطفهم وتحريك مشاعرهم وحقنهم بمخدر " المظلومية والتهميش " مستغلة النسب العالية من الأمية والفقر والتخلف، ناهيك عن الضرب على وتر المقدّس الذي مازال يدبّ دبيبه بين شرايين المجتمع العراقي، وإن خفت بريقه وضعفت سطوته هذه الأيام بفضل إنتفاضة الشعب وحراكه الجماهيري، إلاّ إنه مازال ذي تأثير لا يُستهان به.

وكذلك إستقوت بالعامل الخارجي كإيران والسعودية وتركيا وغيرها، الى أن وصل هذا الإستقواء الى مديات بعيدة وخطيرة تمس وحدة العراق وسيادته ونسيجة الإجتماعي مما ينذر بخطورة نشوب صراعات أهلية مهلكة.

لكن الشعب العراقي قد إنتبه – ولو بشكل متأخر – الى خطورة نهج ومشروع هذه الأحزاب الإسلامية الطائفية على مستقبله ومستقبل أبنائه، ليبدأ العد النازلي لولائه لها ولرموزها التي غلفت نفسها بهالة الكهنوت المقدّس كأداة للمكر والخداع والشعوذة، وشرعنة النهب والقتل والفقر والدمار.

ولهذا نرى هذه القوى الإسلامية بأحزابها الطائفية تعتبر وصولها الى كراسي الحكم " كمكسب وليس كمسؤولية، ففتحت لها الولايات المتحدة الأمريكية كل أبواب خزائن العراق، وإندفعت نحوها كما تندفع عصابات من السارقين " (1) تتسارع وتتسابق على نهبها وسرقة ما في هذه الخزائن من أموال، وبرّروا هذا السلوك المشين بالتفسيرات والتأويلات الشرعية بأن " أموال الدولة لا مالك لها” و " وملكيتها هي ملكية إلهية " حسب تحليل الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه (إقتصادنا).

وبما أن أموال الدولة هي ملكية إلهية، وبما أن القوى الإسلامية وأحزابها الطائفية هم وكلاء الله في الأرض، إذن هي من يستحقها وهي الأوْلى بها من غيرها، بخديعة كبرى بأنها ستحتفظ بهذه الأموال لحين ظهور (صاحب الزمان المهدي المنتظر) بعد إنتهاء غيبته الكبرى وستسلّم " الأمانة كاملة " له.

 لكن إنتفاضة تشرين كشفت زيف هذا المقدّس الذي كانت القوى الإسلامية الطائفية تغلّف نفسها به، ووضعتها في عزلة وقطيعة تامة مع الشعب العراقي، وخاصة مع أبناء الطوائف الذين كانت هذه القوى تراهن وتعوّل عليهم منذ سنين.

هؤلاء الأبناء، الشابات والشباب، هم الذين ثاروا ضد كل أنواع الظلم والفساد المتمثل بالقوى الإسلامية المتنفذة، وخرجوا محتجين ثائرين يحدوهم الأمل لمستقبل أفض لهم ولأبنائهم ولبلدهم. وثورتهم هذه بمثابة صدمة مفاجئة قوية، زعزعت وهزّت كيان وكراسي الأحزاب الإسلامية الحاكمة التي إعتمدت على القداسة والمقدّس عندما ألبست السياسة ثوب الدين والطائفية، لتبشّـر العراق وشعبه بـشـرّ عظيم. لكن الصدمة أو الصفعة الأقوى قد وُجّـهت الى النظام الإيراني الذي يعتبر العراق إمتداداً له وعمقه السياسي والإقتصادي والإجتماعي، فشعرت إيران بالخطر الجدي بأن الأمور في العراق ستخرج من سيطرتها إذا ما نجح الشعب العراقي بالتغيير الجذري لنظام المحاصصة الطائفي، وكنس كل الأحزاب الإسلامية وتوابعها وما بينها التي حكمت العراق منذ ستة عشر عاماً، والإتيان بالبديل المدني الديمقراطي العلماني.

وهنـا شعرت إيران بأن مصالحها الإستراتيجية في العراق لا تتضرر فحسب وإنما ستنتهي بالكامل، فجاءت الأوامر سريعة من الولي الفقيه بسحق إنتفاضة الشعب العراقي بالقوة وبوحشية لا مثيل لها، لكن صمود ووعي الجماهير المنتفضة وخاصة الشباب قد قوّض كل المخططات وأفشل كل المؤامرات لإجهاض ووأد الثورة المنتصرة حتماً.

فالجماهير العراقية مازالت ترفض أي مبادرة تقوم بها الحكومة وأحزابها الطائفية لحلحلة الوضع السياسي المتوتر الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم ، وكذلك ضغط الشارع المنتفض يشد الخناق عليها بقوة ، ناهيك عن أن هذه الأحزاب الطائفية قد إعترفت بفشلها السياسي والإجتماعي ، وأدركت برفض الشعب العراقي لها المتمثل بالحراك الجماهيري الواسع الذي يضغط ويلح عليها أن تترك السلطة وتمتثل للقضاء والمحاكم ، بدأت بالتراجع ولكن بغباء مطلق وتخبط  ملحوظ عن طريق محاولتها وإصرارها على إعادة الفشل وتدوير الوجوه الفاسدة بطريقة تدل على الضعف والإفلاس .

فالقوى الإسلامية بكافة صنوفها وتشكيلاتها لا يمكنها أن تدرك بأن حركة الشعوب تحددها قوانين المجتمع البشري وحتمية مَسيرته بشكل عام، وهي حركة في تفاعل وتطور دائم، لا يمكن لأي قوة أن توقفها أو تعرقل مسارها، والمجتمع العراقي لا يختلف عن غيره من شعوب العالم، فهو شعب حيوي يطمح ويكافح من أجل حياة أفضل ومستقبل زاهر.

  

عرض مقالات: