اليسار أيديولوجيا ومشروع وطني نقدي وهوية وموروث وصيرورة، لها شروطها، ترهن الهوية والموروث، وتتضمن الوطنية والتنوير والدفاع عن المعرفة، وذلك الفكر التنويري التقدمي الممتد من الطهطاوي إلى قسطنطين زريق، ومن فرح أنطون إلى مهدي عامل وحسين مروة ومحمود العالم وسمير أمين وإميل توما، ومن معارك أحمد عرابي ويوسف العظمة وعبد القادر الحسيني إلى المقاومة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية والانتفاضات الشعبية والجماهيرية في الأقطار العربية.

وفي حقيقة الأمر أن الحركة اليسارية العربية تراجعت في العقود الأخيرة وأصابها النكوص والذبول، وتعيش أزمة عاصفة، وذلك نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية متعددة، وما تبقى من يساريين وأحزاب وقوى تنتمي لليسار تقف عاجزة عن التأثير في مجريات الاحداث والفعل العملي على مستوى القضايا القومية وعلى عمليات الاصلاح الجذرية في مجتمعاتنا العربية.

هنالك أسباب كثيرة أدت إلى انحسار وانكفاء اليسار العربي ومنها القمع السلطوي والديني الذي مارسته الأنظمة السياسية العربية وقوى الارهاب الاصولي ضد القوى والشخصيات والرموز اليسارية، وتعرض عدد من المفكرين والمثقفين الذين ينتمون ويعتنقون الفكر الأيديولوجي الماركسي لعمليات اغتيال، كما حدث للدكتور والشيخ الجليل حسين مروة والمفكر مهدي عامل في لبنان، بالإضافة إلى واقع التخلف والجهل المجتمعي وعدم تقبل أفراد المجتمع للفكر اليساري المغاير والمختلف لما هو متوارث ودمغه بالألحاد والكفر، عدا عن الزلزال الفكري الذي جرى في المعسكر الاشتراكي وفشل التجربة الاشتراكية، ما أدى إلى اهتزاز القناعات واصاب الاحباط الكثير من عناصر وقوى اليسار بعدم احداث التغيير في مجتمعات تسيطر عليها عقليات رجعية متخلفة لا تبحث عن الجديد.

ومن أجل النهوض بالحركة اليسارية العربية، فإن ذلك يتطلب مكاشفة حقيقية ومراجعة نقدية صادقة وشفافة ودراسة شاملة لعوامل الاخفاق والتراجع، واعادة بناء هذه الحركة وتحديث مفاهيمها وتحليلاتها وقاموسها، والخروج بفكر ومشروع حضاري جديد يتلاءم مع التطور الطبيعي، يقود مجتمعاتنا نحو الحرية والديمقراطية ويساهم في بناء الإنسان المتحضر الراقي كبقية الشعوب التي سبقتنا بمسافات طويلة.

عرض مقالات: