وهاهم أبناء العراق الكرماء یحاولون تجسید كلمات تلك القصیدة، بانتفاضة تشرین العظیمة. مثبتین، والشباب والشابات منهم بشكل خاص، امتلاكهم وعيا وإدراكا نادرين وغیر مألوفين، وخاصةً إذا ما أخذنا بعین الاعتبار ما مر به شعب العراق من حروب ودمار وخراب في السنوات الأربعین الاخیرة. بدأت تحت ظل نظام صدام حسین الدكتاتوري البائس، الذي صادر أبسط أنواع حقوق الإنسان وسحق كل أشكال الحریة الفردیة والعامة، وشن حرباّ بلا هوادة على الثقافة الحقيقية ، وجر البلد الى حروبه الحمقاء متسبباً بتبذیر ثروة الشعب، كأنها ملكه الخاص . وفي سبیل الاحتفاظ بالسلطة لم یتورع عن أبعاد وقتل كل معارضیه، من كل فئات الشعب، من كل الأدیان والطوائف والقومیات. ولم ینجوا من شره حتى أفراد عشیرته وعائلته.

ولكن الجرم الأكبر الذي ارتكبه بحق الشعب العراقي، یتمثل في تسببه بكارثة الحصار الاقتصادي لعدم تنحیه وتمسكه بالسلطة، والذي كان تأثیره أكثر فتكاّ من كل الأسلحة التي استخدمها الغرب في حربه ضد العراق. إذ قوض، الحصار المجرم، ومزق واحدة من أجمل الخصال التي كان یتحلى أبناء العراق: وهي التكاتف والتعاضد والتضامن بین أفراد العائلة الواحدة، وبالتالي المجتمع كله، عند المحن. وبذلك قضى على التعایش السلمي الذي رافق أبناء العراق بكل أطیافه وقومیاته منذ عصور وعصور. وتسببت سیاسته الحمقاء، والتي كانت تنال التصفیق والتشجیع من قبل القاصي والداني، بفرح واستبشار من قبل كل أنظمة الحكم في المنطقة، دون استثناء، من البلدان الشقیقة والصدیقة. ولكن أكثرهم فرحاّ كانوا أسیاده الأمریكان.

فالحقیقة البسیطة، والواضحة، لكل من له إلمام بسیط بالتأریخ السیاسي لمنطقة الشرق الأوسط (سأحاول الكتابة عن هذا الموضوع بشكل مفصل مستقبلاّ) هي أن الأمریكان، ومن قبلهم الإنگلیز، حكموا وتحكموا في هذه المنطقة، ومازال. منذ قرن من الزمان. معتمدین في سیاستهم مبدأ "فرق تسد". فنصّبوا ووضعوا في موقع السلطة الملوك والحكام بین الذین یخدمون مصالحهم، من باكستان وحتى مصر، مروراّ، بالسعودیة وإیران. وإذا ما أظهر ضعفاّ في إدارة مصالحهم، أو بدأ برفع سقف مطالبه، أو استنفاذ دوره، فأنهم یطیحون به وینصبون حاكماً آخر بمكانه. كما حدث مع شریف مكة، أو الشاه الأب، على ید الإنكلیز ومن بعده الشاه الابن على ید الأمریكان، لإیقاف المد السوفیتي لاقترابه من منابع النفط بعد احتلال أفغانستان. أو الملك فیصل الذي اغتیل، بعد تحدیه الأمریكان ورفعه شعار (النفط كسلاح) على سبیل المثال ولیس الحصر.

أما فیما یخص العراق، فقد أتوا بصدام الى دفة الحكم، ثم أطاحوا به، بعد أن قام بالدور المناط به على أفضل شكل، والذي كان یتمثل في محاربة كل ما هو حر وتقدمي، ونشر الخوف والرعب في قلوب الناس. حیث بدأ مسلسل الإرهاب، الذي ما زال مستمرا حتى الآن، بتمثیلیة (أبو طبر)!. وبذل جهداً خارقاً في نشر سیاسة التشكیك وعدم الثقة بالآخر، فبدأ الصدیق لا يأمن صدیقه، والجار یخاف من جاره، ولم یدخر جهداً في بث الفساد والجهل والفتنة. ولكن أهم ما قام به هو تقویة وتوطید وإنعاش الأنظمة الرجعیة والمتخلفة المحیطة بالعراق من كل جوانبه. وفي منطقة الشرق الأوسط بأكمله. مهد النظام الدكتاتوري التعس، الطریق، وهیأ التربة لمجيء من هو أكثر سفالة ودناءة منه.

بعد انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ . سيئ الصیت، الذي أنهى حكم الزعیم عبد الكریم قاسم، والذي رغم بعض الأخطاء التي ارتكبها، لم یحظى العراق، مع الأسف، بزعیم نزیه ووطني مثله، فقد قتل وكل ما كان یملك هو البیت الذي ورثه عن أبیه. صرح أحد قادة الانقلاب حینها (جئنا على متن قطار أمریكي). والكل یعلم كیف وصل حكام العراق الحالیین الى السلطة، ومن هم سادتهم الحقیقیون. ودعونا من مسرحیة (الشیطان الأكبر والشیطان الأصغر) التي تعرض على مسارح الشرق الأوسط منذ أربعین عاماّ، ومازالت، بنجاح منقطع النظیر.

كل من جاء، بعد سقوط النظام الدكتاتوري من حكام، منصبین من قبل الأمریكان وإیران!! استمروا من النقطة التي توقف عندها الطاغية، فأهدروا وتلاعبوا وسرقوا ثروة الشعب، بشكل بشع یفوق أي خیال ویتعارض مع كل القوانین الدینیة والدنیویة. وخربوا ودمروا ما تبقى ونجا من ید الطاغیة. دمروا كل البنى التحتیة. وقضوا على كل ما من شأنه أن یقود العراق وشعبه نحو مستقبل یبشر ببوادر أمل بسیط بالغد. فلا یوجد هنالك شيء اسمه (صنع في العراق) أو (منتج في العراق). وأصبح العراق سوقاً بكل مساحته للبضائع الأجنبیة، وأصبح یستورد حتى الماء والتمر. ناهیك عن عدم توفر الكهرباء في بلد ینتج (الطاقة) النفط. وتمادوا في نشر الجهل و الغباء، والخرافة، فلا توجد مدرسة تلیق بهذا الاسم، كبناء وكادر تعلیمي، وأما عن أوضاع المستشفیات، والكادر العامل فیها من أطباء وممرضین وإداریین، فحدث ولا حرج.

للاختصار. حقق السیاسیون العراقیون جمیعهم، من كل الطوائف والقومیات ، ما لم یكن بحسبان أحد إذ جعلوا الإنسان العراقي یتحسر على صدام ونظامه المجرم. فما أعظم الجرم الذي اقترفوه بحق الشعب. ألا یكفیهم هذا كي یصحوا من غفلتهم، وأن تستیقظ ضمائرهم.

ما یحتاجه العراق حالیاً، هو الانطلاق من نقطة الصفر، أو بالأحرى، ما دون الصفر. هناك ضرورة ملحة لا یمكن تأجیلها: المباشرة ببناء المدارس وتهیئة كادر تعلیمي كفؤ على كل المستویات، من الابتدائیة وحتى الدراسات العلیا، العلمیة منها بوجه خاص.

بناء المعامل والمصانع للقضاء على البطالة وتحقیق شيء من الاكتفاء الذاتي. الشروع في بناء السدود وزیادة مساحات الأراضي الزراعیة، بدلا من إنقاصها ومساعدة المزارعین والفلاحین. تشجیع الشباب والعوائل التي هاجرت على الرجوع إلى أرض الوطن. الابتعاد وذم السیاسة الكریهة التي اتخذت من تأجیج النزعات القومیة والدینیة والطائفیة مركبة لها للبقاء في السلطة. تلك السیاسة اللاانسانیة واللااخلاقیة التي تسببت في كل مآسي العراق في السنوات الأخیرة. إیقاف النزیف الذي أصاب العراق بهروب مئات الآلاف من الأقلیات الدینیة والقومیة فهم ثراء للعراق، والعكس صحیح.

على السیاسیين الاستماع الى نصائح وإرشادات الحكماء. مثل سماحة السید السیستاني، وعدم السماح للبلدان المجاورة للعراق بالتدخل في شؤونه. إذ لا یرید أحدهم الخیر للعراق، فقد ساهمت كل البلدان الستة بتخریب العراق، الكل بدون استثناء، وكلٌ حسب إمكاناته وقدراته بإثارة النعرات الطائفیة، بإدخال الإرهاب والإرهابیین الى أرض البلد. لتحقیق مآربهم التوسعیة والاقتصادیة على حساب دماء الأبریاء من السكان. صرح زیباري، وزیر الخارجیة العراقي السابق، في سنة ٢٠٠٧ ، إذا لم تخنِ الذاكرة، بأن ٨٠ في المائة من الإرهابیین الذین كانوا یصلون الى العراق من الخارج یدخلون عن طریق سوریا. كل الأحزاب المعارضة لنظام صدام التي كانت لها مكاتب في سوریا (علنیة أو غیر علنیة) تعرف جیدا بأن عبور الحدود العراقیة عن طریق سوریا كان یتم بمساعدة المخابرات السوریة. والكل یعلم بولاء سوریا لإیران. فكیف یمكن تفسیر ذلك؟

لیس من السهل التكهن بما سیؤول إلیه مستقبل العراق خلال المستقبل المتوسط والبعید. فذلك یعتمد بالدرجة الأولى على القدرة الفكریة والسیاسیة، ومدى حب السیاسیین وتعلقهم واعتزازهم بوطنهم، والتحلي بدرجة عالیة من النزاهة، لبناء وطن یحافظ على أبنائه ویضمن مستقبل أطفاله. إذا توفرت هذه الصفات عندهم، سیعرفون حینها كیفیة التحرك بین دهالیز الدبلوماسیة الدولیة والإقلیمیة الشائكة في الدفاع عن شعبهم ووطنهم.

أما في ما یتعلق بالحاضر، فأمام السلطة طریقان لا غیر:

 الأول- هو تحقیق تغییرات جذریة تؤدي الى بناء مجتمع متآخ یسوده الأمان، والنهوض بالعراق، واضعة نصب عینیها رفاهیة الإنسان العراقي.

الثاني- هو تطبیق سیاسة القمع الصدامیة. وبذلك سیكتبون كلمة النهایة على العراق وعلى مستقبل العراق. ولكن لا أعتقد أن من یقود ما یسمى "بالعملیة السیاسیة" یصل إلى هذه الدرجة من الغباء. فإنهم أمام جیل لا یهاب الموت. جیل شب وترعرع بجانب الموت یومیا. لذا لا یخافه. جیل ینهض كل صباح لیشاهد مستقبله بید اللصوص، یسرق. جیل، ببساطة یرید وطنا، والوطن، هو التربة التي یعیش علیها وهذه التربة اسمها العراق. فأما أن یبیدُه، أو أن یصلحوا الحال أو یتنحوا. "قتل امرئ في غابة جریمة فیها نظر. وقتل شعب آمن جریمة لا تغتفر." عذرا للشاعر، وعذراً لكل الشعراء والأدباء، لتلاعبِ ببیت القصیدة المشهور.

اما في الوقت الحالي فلا نستطیع سوى الانحناء احتراما وتقدیراً لدماء الشهداء الزكیة لفتیات وفتیان العراق، الانحناء أمام هذا الجیل، جیل الحصار والحرب الأهلیة البغیضة، الذي أظهر امتلاكه شجاعة أسطوریة قل نظیرها، ووعیاّ طبقیاً وروحاً وطنیة سامیة، وأخلاقا عالیة میزت سلوكیاتهم طوال فترات الاعتصام والتظاهرات. هؤلاء الشباب الذین اتخذوا من ساحة التحریر، تحت واحد من أجمل الرموز في تاریخ العراق الحدیث، نصب الحریة للفنان الكبیر جواد سلیم، مركزاً للاعتصام.

لقد هدموا بین لیلة وضحاها في نضالهم من أجل مجتمع تسوده العدالة والمساواة، كل ما عول علیه اعداء العراق، ومازالوا یعولون، في تفرقة أبناء الشعب وبالتالي تجزئة البلد من خلال نشر الكراهیة والحقد بین أبناء البلد الواحد بكل طوائفه وقومیاته. وبینوا أن الصراع الحقیقي هو بین الأغنیاء والفقراء. بین المستغِلین والمُستغَلين. ولیس بین الطوائف والشعوب. كما هو الحال منذ نشوء الطبقات الاجتماعیة في سحیق الزمان.

لقد أعاد جیل التحریر، بانتفاضتهم الثوریة كرامة الإنسان العراقي التي دهست بالأقدام منذ سنة ١٩٦٣ حتى الآن. هناك شيء مذهل أفرزته ثورة تشرین الشبابیة یستدعي التساؤل والتأمل. من أین استمد هذا الجیل إدراكه ووعیه في ظل أوضاع وأجواء صعبة، حیث الجانب التربوي والتعلیمي یعاني من مستوى هزیل جداّ، والثقافة عموما بمستوى ضحل؟ وأین كان المثقفون، أو مُدّعو الثقافة من كل ما حصل وجرى خلال السنوات الستة عشرة الأخيرة؟ لا أرید أن أعمم، فعلاقاتي بعالم الثقافة والمثقفین العراقیین محصورة وضیقة جداّ، وتقتصر على عدد ضئیل منهم، یعیشون خارج الوطن ولكن كل الذین أعرفهم غیروا مواقفهم بعد سنة ٢٠٠٣ . فقد انجر كل خلف قومیته وأصبح قومیا وكل خلف طائفته لیتحول طائفیا. والبعض تمادى واكتشف بشكل مفاجئ أهمیة لقبه العشائري. وما زاد الطین بلة أن المثقفین الذین أتحدث عنهم لم یكونوا رهینة النظام الصدامي، بعزلة عن العالم، وعما یجري فیه، بل یعیشون في أوروبا منذ عقود، تعلموا أكثر من لغة وعلى احتكاك مع ثقافات شعوب العالم و الحركة الثقافیة العالمیة، وذلك یفترض امتلاكهم ذهنیة مفتوحة وقدرة على قراءة الأحداث بمنظور حیادي وتفهم واستیعاب لما كان یجري في العراق، ولیس التفكیر كأي فرد ظلم من قبل النظام فأقنعوه زیفاً بأن الطائفة أو القومیة التي ینتمي إلیها رئیس النظام كلهم أعداء. فردٌ كهذا، عدیم العلم والمعرفة، ممكن عذره وتبریر أسلوب تفكیره. لكن من الصعب أن یعذر من یدّعي العلم والمعرفة، من سنحت له الفرصة أن یطلع ویتعلم أكثر. ما یزید من الألم والحسرة هو أن من تعرفت علیهم من المثقفین كانوا جمیعهم ینتمون الى الفكر الماركسي، ومازالوا یدّعون ذلك. لكن تعالیم الماركسیة تدعو دائما الى الوقوف مع الضعیف ضد القوي، ومع المظلوم ضد الظالم، كائنا من كان، حتى لو كان الظالم من قومیتنا، طائفتنا أو عشیرتنا أو حتى عائلتنا، دائما.

الهدف الأهم المعلن للماركسیة هو التآخي بین كل الشعوب، في عالم یسوده السلام وبدون حدود. كیف یمكن التوفیق إذا بین ادعاءات بعض المثقفین بانتمائهم الى الفكر الیساري (ولیس بالضرورة الانتماء الحزبي) وبین انغلاقهم وتقوقعهم، كلٌ لقومیته أو لطائفته، حیث یتحول ضمنیاً لا محال، ضد القومیات والطوائف الأخرى. فتحولت السعودیة مناراً في الدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب، وأصبحت إیران قلعة للثوار في مجابهة الإمبریالیة، وإسرائیل لدى البعض منهم، بلدا تجسدت فیه المُثل العلیا للدیمقراطیة. كل ذلك بینما عصابات إرهاب همجیة، قتلت وذبحت عشرات الآلاف من الأبریاء، وتسببت في تهجیر الملایین منهم. ووصلت بهم همجیتهم الى تدمیر العدید من المواقع الأثریة، التي هي لیست ملكا للعراقیین فحسب، وإنما للإنسانیة جمعاء.

هل یكفي جمع وخزن المعلومات لخلق الوعي والإدراك؟ بالتأكید یكون الجواب كلا . لو كان الأمر كذلك لأصبح أتفه حاسوب أكثر وعیا من أي إنسان. نستخلص من هذا بأن المثقف (إذا أطلقنا هذه الصفة على كل من حالفه الحظ، أو دفعه فضوله للتغذي من ینابیع المعرفة) یتحول إلى شخص ذي معلومات. باختصار : معلوماتي. أن أهم ما تقدمه المعرفة للإنسان هي، الحریة. والتي تتمثل في التحرر من الأحكام المسبقة، التي حملناها معنا منذ طفولتنا، وتراكمت عندنا بمرور السنین. ولتحقیق ذلك یجب علینا أن نضع أنفسنا في واقع حال الآخر. المفروض بالمعرفة أن تدفعنا الى التفكیر، واستخدام العقلانیة في تقییم ما كنا نعتقد بأنه حقیقیة، وعدم تقبل ما ینشر وما یقال كأنه الحقیقة المطلقة. بدون القدرة على التفكیر بشكل حر، والابتعاد عن المظهر، واستخدام المنطق في رؤیتنا للأمور لا نستطیع تحلیل ونقد الأحداث والظواهر التي تواجهنا، وبالتالي ننسلخ ونبتعد عن الواقع الذي یحیط بنا. إذا تمكنا من مزج المعرفة بالتجربة الإنسانیة وتطبیقها على الواقع الذي یحیط، بنا عندها، ربما، نستطیع امتلاك الإدراك والوعي. وإلا فإن كل الجمل المصوغة والمفاهیم التي حفظناها تتحول الى مجرد كلمات بدون معنى.

منذ اندلاع الثورة الفرنسیة الأولى، التي أسقطت الملكیة سنة ١٧٨٩ . ومرورا بثورة أكتوبر في روسیا سنة ١٩١٧ ، وانتهاء بالانتفاضات والثورات الطلابیة والشعبیة التي عمت أوروبا وأرجاء مختلفة من أنحاء العالم، حتى أواسط السبعینات من القرن الماضي، كان المثقفون في طلیعة تلك الثورات. بدأ بعدها انحسار تدریجي، الى أن اختفى تماما في العقد الأخیر. وظهر ذلك بوضوح فیما سُمّي بـ (الربیع العربي) حیث انطلقت الثورات من رحم الطبقات الشعبیة المسحوقة. حدث ذلك من جدید في العراق، حین هب شباب تشرین المجید وهز أركان السلطة النظام القائم منذ عام ٢٠٠٣ . نظام المحاصصة والفساد والخراب. أعتقد بأنه آن الأوان، فما زالت الفرصة متاحة، بأن یصحو المثقفون، وبالذات، مثقفي الخارج. لأن یخرجوا من الفقاعات الهوائیة التي حشروا أنفسهم في داخلها. كتلك الفقاعات الملونة التي یستمتع الأطفال كثیرا بنفخها في الهواء. من أجل تحقیق ذلك یجب قبل كل شيء استیعاب مفهوم، التواضع، والابتعاد عن تصوراتهم بأنهم أعلى وأفضل وأحسن من الآخرین. والبدء باستخدام الكلمة والفرشاة وكل الأدوات الادبیة والفنیة المتاحة كسلاح، والمساهمة في نشر السلام، والدفاع عن المستضعفین والمظلومین، من كل فئات الشعب بغض النظر عن انتماءاتهم الدینیة والقومیة والطائفیة.

أطرح من جدید تساؤلي. من أین أتى هذا الإدراك والوعي الطبقي، وهذه الروح الوطنیة لهؤلاء الفتیان والفتیات في ظل أنظمة بذلت كل جهد ممكن في تشویه الحقیقة؟ لا أعلم. لا یوجد لدي سوى تفسیر واحد. بعید عن أي تحلیل علمي، لكنني أعتقد بأنه لا یخلو تماما من المنطق. نشأت وعاشت على هذه البقعة من الأرض، أقدم وأعرق الحضارات في العالم، والتي استمرت على مدى مئات ومئات من السنوات. عمر الإنسان العراقي لا یقاس بعدد السنوات التي یعیشها، وإنما بعمر تلك الحضارات. وإذا فأن معدل عمر من یولد على هذه التربة، ویأكل من ثمارها ویشرب من مائها، هو مایقارب خمسة آلاف سنة. شباب تشرین هم أبناء جلجامش، حمورابي و آشور بانیبال. من هناك یأتي وعیهم حتى إذ لم یتصفحوا كتاباً في حیاتهم. تلك هي هویة الإنسان العراقي الأصیل. أثناء طفولتي في بغداد، كان هناك قول شائع بین الناس "بیناتنه خبز وملح". وكان القصد منه هو، أننا أبناء عائلة واحدة. وكان هناك تقلید جمیل في أغلب أحیاء المدینة، إذ كان یشترك أهل المحلة في تقدیم وجبات الطعام لمن یحل ساكنا جدیداً بینهم. بغض النظر عن أصله وفصله. وكان هناك قول متوارد بین الناس یقول: "الجار قبل الدار". لا أحد یعرف قدم هذه الأقوال والتقالید، ولكنها تعبر بشكل واضح عن رغبة الناس في التعایش السلمي بین أبناء المجتمع الواحد. وفي الوقت نفسه تبین هذه التقالید الشعبیة المشبعة بالحكمة، وعیاً سامیاً، استمد وجوده من الدمار الذي أحدثته الحروب التي صاحبت هذه الأرض على مدى آلاف من السنین. یعجبني أن أسمیه بـ (الوعي المتوارث). عندما انطلق جلجامش بحثا عن سر الخلود كان ملكاً ظالما ومستبدا. لكن عند عودته الى مملكته خاوي الیدین، أدرك بأن الخلود لا یقاس بعدد السنوات یعیشها، وإنما بعدد السنوات التي یحیا بها اسمه، وما یترك من أثر وذكرى. فعدل عن خوض الحروب، ونشر العدالة والسلام بین رعیته، وبنى الأسوار للدفاع عنهم. هذا ما توارثه أبناء الرافدین، ووصل بعد آلاف من السنین الى شباب التحریر.

مرة أخرى: لننحني تقدیرا واحتراماً لهؤلاء الشباب، ولدماء الشهداء منهم ألف وألف تحیة.