لن يبقى مواطن في العراق ينكر وجود الفساد وإنتشاره في كافة مرافق البلاد. ربما هناك إختلاف على حجمه ومقداره وقوة نفوذه وسعة سلطانه وجبروته، لكنهم يتفقون جميعاً على وجوده ويعرفون أسبابه ومسببيه، يكتمون أنفاسهم على البوح بذلك طمعاً بالحصول على بعضٍ من فتاته أو خوفاً من قسوة أذرعه. يعرفون أنَّ للفساد وجوها لا تحصى ولا تعد كما أنَّ له أدواتا وطرقا وأساليب أكثر وأكبر من أشكاله. وما يهمنا من هذه الأشكال الفساد السياسي والفساد المالي المستشريين بشكل منفلت في السنين الأخيرة، ويهمنا أكثر حين يحصل زواج كاثوليكي بين هذين الصنفين من الفساد ويتحولان الى وحدة متكاملة كما هو الحال عليه في عراقنا الحبيب. لكي يُمارَس الفساد أو يَتَحَوَّل إلى مهنة رخيصة لا يخجل ممتهنها منها فهذا يتطلب وجود نفوس ضعيفة وقلوب مريضة وعقول مشكوك في سلامتها.
وقد أفلح الغُزاة الذين إستباحوا العراق عام 2003 بأن يتعرفوا على هذه النماذج السيئة التي تتحلى بهذه المواصفات وأختاروهم من بين مكونات الشعب العراقي الشيعيَّة والسنيَّة، العربية والكردية وغيرها من الطوائف والمكونات الأثنية وبوؤوهم المسؤليات العظام التي لا تليق بهم كونهم لا يتمتعون بالمواصفات التي تؤهلهم لذلك وأوهموهم بأنهم أهلاً لها وهذه هي الخطوة الأولى على تعبيد طريق الفساد. ومن أجل تمكينهم في مواقعهم تم تسخير القضاء لنفوذهم وراحوا يشرعون قوانين على مقاساتهم ويتمتعون بإمتيازات لم تدر يوماً بخلدهم دون رادع. وحين تمكنوا من ذلك وَسَّعوا من الدوائر التي تحيط بهم وأقاموا تجمعاتهم وتياراتهم وبنوا أحزابهم وأغروا أعضاءها بما ملكت أياديهم من السحت الحرام وعلَّموهم على خُلِقِهم السَقيم. تربع هؤلاء أيضاً في مواقع المسؤليات وإستمروا بممارسة مهنة أسيادهم وأرباب نعمتهم وأخذوا يتفننون بمهنتهم لإشباع نهمهم ولإرضاء أسيادهم ونشروا سرطان الفساد في كل مكان. ولكي يُحْكِمُوا السيطرة ومواصلة المسيرة العاهرة أداروا ظهورهم للدستور والقوانين النافذة وإبتدعوا نهج المحاصصة المقيتة فتقاسموا كل شيئ وإعتمدوا هذا برنامجاً ونهجاً ثابتاً وأسلوب عمل في سياساتهم اليوميَّة وتعاملوا بموجبة على مقدار ما يدر عليهم من منافع شخصِيَّة وحزبية وطائفية متناسين بذلك مصالح المواطنين وهموم الوطن.
أخذت هذه النماذج تكثف وجودها في الهرم السياسي وتوسع قواعدها النفعيَّة الذيليَّة بأشكال مختلفة وتمكنها بتوفير الحماية اللازمة لها حتى بقوَّة السلاح إن تطلب الأمر. ولكي تتمكن من ذلك فالحاجة هنا تتطلب إهمال العلم والمدرسة والتعليم وإشاعة الجهل وفسح المجال على مصراعيه للسلاح والميليشات القويَّة. وقد سعت متعمدة إلى ذلك بتقويض دور العلم وتخريب الصناعة والزراعة وبالتالي تحطيم عجلة الإنتاج، وقد شجعوا أزلامهم على ممارسة التجارة لما تدره عليهم من الأموال الطائلة نتيجة للفوضى والتخبط وضعف الرقابة من قبل مؤسسات الدولة. وهكذا تتكاثر أموال حيتان الفساد المالي بحيث تجاوزت أرصدتها من السحت الحرام الملياردات من الدولارات وتتزايد سطوتها السياسيَّة لتمسك بأنيابها كل مفاصل الدولة وتعلنها بصلافة على لسان أحد أقطابها ــ أخذناها وبعد ما ننطيها ــ . بقي الحيتان وبفعل ثرواتهم وسلطاتهم السياسيَّة هم المتحكمون الأساسيون في شؤون البلاد والعباد وقد إنعكس هذا جلياً في مؤتمرهم الأخير الذي عقدوه في بيت قطب آخر من أقطاب الفساد ليعلنوا وثيقة عهرهم متجاهلين الدماء التي سالت والآرواح التي أزهقت وآلاف الجرحى والمعوقين لما تم إستخدامه من أساليب وحشيَّة وإرتكاب جرائم إبادة بحق المتظاهرين السلميين المطالبين بأبسط الحقوق التي يجب على المتسلطين في الدولة، وبخاصة في دولة غنية مثل العراق توفيرها لمواطنيها.
لقد أهمل هؤلاء جموع المنتفضين اليائسين منهم والرافضين لسلطتهم وسياساتهم لا بل حتى لوجودهم. وبقيت هذه الزمر الطفيلية التي عاثت فساداً وعبثاً بمقدرات البلاد تتحكم بكل شيء وتملي على الرئاسات التي صنعتها بمالها وسطوتها وما شرعنته من قوانين لحمايتها وإعادة إنتاجها ما يليق لها من سياسات غير عابهين بما آلت إليه مجمل الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والسياسية من تردي وإنحطاط على كافة المستويات وغير مهتمين بما يحصل من تطورات وغليان في الشارع هذا الغليان الذي صار يتصاعد ويتوسع وتتعدد أشكاله نتيجة لعدم الرضا بل للرفض والنقمة على هذه الوجوه. لقد تحول هذا الغليان المقدس لجماهير الوطن الغاضب من كل الفئات والطبقات إلى إنذار شديد اللهجة ضد حيتان الفساد والمحاصصة فلا رجعة فيه حتى نهاية حكمهم وسقوط سلطتهم وزوال توغلهم مهما غَلَّسوا وصَمَموا آذانهم وتجاهلوا حقيقة ما يجري، ومهما إزداد غيهم في تحريك أدواتهم وذيولهم وميليشياتهم لزيادة القمع وسفك الدماء ونشر الخراب والدمار في البلاد. لن يسكت الشعب على حكومة القتلة ولن يسكت جيل الإنتفاضة الجبارة، جيل الثورة، جيل العنفوان والغضب على سارقي لقمة عيشهم وثروات بلادهم والمتلاعبين بمصائرهم والناهشين من كرامتهم، على هادري مستقبلهم وطافئي شموع وطنهم. فهم يريدون وطن ويريدون حقوق.
نريد وطنا يضمن لنا عيشا كريماً
وتصان فيه حقوقنا غير منقوصة،
وطناً حراً
بعيداً عن دنس المحتلين والمتلاعبين والفاسدين.