لا نأتي بجديد، إذا قلنا ان أساليب النضال واشكاله يحددها الواقع الملموس، ويبدو ذلك جليا عند تناول الانتفاضة الباسلة المتواصلة في بغداد والعديد من محافظات العراق منذ الأول من تشرين الأول الفائت.

ان الصراع السياسي والاجتماعي خلال سنوات ما بعد الدكتاتورية المنهارة، بين قوى التغيير الشعبية والسياسية من جهة، والقوى المتنفذة التي ابتدعت نظام المحاصصة السياسية وجعلته حاضنة للفساد والتسلط، تميّز بسلميته أولا، وجنوح السلطات الى المضايقة والملاحقة والعنف ثانيا. وكانت نسخته الأخيرة هي الأكثر دموية وبشاعة، وفي الوقت نفسه عكست حجم الخوف الذي تلبس المتسلطين، ورعبهم من يوم حساب قادم. ومن الضروري جدا التأكيد، ان ما نشير اليه لا يتناول جرائم المنظمات الإرهابية المتحالفة مع بقايا نظام صدام حسين، التي حاولت إعادة عجلة التاريخ الى الوراء من خلال مشروع تدميري تبنى قراءة فاشية دينية كانت داعش آخر تجليتها.

ولعل أحد اهم أسباب استمرار وتنوع الاحتجاجات اليوم، الى جانب الواقع الموضوعي الذي انتجها، هو سلميتها ومحتواها الديمقراطي.  وعلى هذا الطريق أيضا سارت انتفاضة الشبيبة المستمرة. وخلقت بذلك المقدمات الضرورية لاستمرارها ولتعميق محتواها الذي جسده الكثير مما تشهده ساحات الانتفاضة في بغداد والمحافظات الأخرى. كذلك الوضوح الكافي الذي عبر عنه العديد من المتحدثين الشباب، الذين يخوضون غمار الحوارات الإعلامية للمرة الأولى. ولا يغير من جوهر هذه الحقيقة مشاركات البعض، الذي قد تخونه الامكانية، او الذي يجنح عمدا الى التطرف والسطحية.

ان واقع الانتفاضة البهي لا يخلو من شبيبة قد يدفعهم حماسهم او غضبهم المشروع الى المشاركة في ممارسات تتقاطع كليا مع الأهداف النبيلة التي استشهد زملاؤهم من اجلها.

واليوم وقد تحولت الانتفاضة الى حقيقة لا يمكن تجاهلها، وأثبتت انها ليست سحابة صيف كما تمنى خصومها، يصبح التأكيد على اعتماد وسائل النضال السلمي الضمانة التي تفشل محاولات المتسلطين وامتداداتهم، وما يدفعون به من مندسين وما يقومون به من حرائق مفتعلة واعمال عنف مكشوفة. لزاما، وبعكسه فان ممارسة ابسط اشكال العنف ستقدم خدمة مجانية لمن يريد وأد الانتفاضة واغراقها بالدم، لا سيما وان المتسلطين يراهنون على عامل الوقت ونفاد الصبر وجر المنتفضين الى ساحاتهم، ساحات العنف والنفاق السياسي والحفاظ على حاضنة الخراب القائمة، في حين ان ساحات المنتفضين حاضنات للسلام والتقدم والديمقراطية الحقة. وبالتالي فان البقاء في ساحاتهم والتمسك بقيمها سيحرج المتسلطين ويوسع دائرة التأييد والاهتمام بالانتفاضة، خصوصا بعد ما نجحت في كسر جدران الصمت العالمي. فهناك اليوم من يؤيد الانتفاضة، او على الأقل من يدعو الحكومة الى الأقدام على إجراءات حقيقية ملموسة والكف عن طرح وعود شكلية إضافية. وفي الداخل تتطور مواقف المنظمات الاجتماعية والمؤسسات الدينية لصالح المنتفضين، بل ان أصواتاً لم تكن في البداية تقف في صف المنتفضين تتحدث اليوم عن شرعية الانتفاضة وعدالة مطالبها. 

وعلى المنتفضين أيضا ان ينتبهوا الى الدعوات المغرضة التي تريد لانتفاضتهم ان تكون مقطوعة الجذور، وكذلك المحاولات التي يقوم بها نفر من النكرات السياسية لتأجيج المنتفضين ضد حليفهم الشرعي من شخصيات وقوى وطنية، آملين في ملء فراغ سياسي والتمتع بامتيازات وادوار قد يوفرها لهم التغيير المقبل.

لقد سجل تاريخ النضال السلمي للشعوب ولادة ايقونات تاريخية لا يستطيع حتى خصومهم النيل من انسانيتهم ووضوح مقاصدهم. فكانت السلمية وراء خلود غاندي ومانديلا وانجيلا ديفز، والنضال السلمي هو الذي أعاد للرئيس البرازيلي الأسبق لولا دي سلفيا أخيرا حريته. والحراك السلمي الذي ميّز الاحتجاجات الحاشدة ضد الازمة المالية في اوربا هو الذي غيّر كثيراً من التوازنات لصالح الفقراء والمهمشين، وكان وعاء لنشوء حركات وأحزاب سياسية جديدة احتلت مواقعها بجدارة في الساحة السياسية في بلدانها.

ان انتفاضة شعبنا الباسلة، السلمية والحضارية، قادرة هي الأخرى على ان تنتج رموزا للسلام نعتز بها وتفتخر بها الاحيال المقبلة.  

ونظرة موضوعية الى تاريخ الصراع السياسي والاجتماعي في العراق وغيره من بلدان العالم تظهر بشكل قاطع، عدم وجود انتفاضة او انتصار شعبي منقطع الجذور، وان عملية نقل التجربة السياسية والنضالية بين الأجيال ضرورة لا بد منها لولادة واقع جديد، يستجيب لحاجات الأكثرية المغيبة، فكرا وممارسة.

 لهذا فان ذهن الشباب المتوقد والمبدع بحاجة ماسة الى التمعن في تجربة الأجيال السابقة، من دون استنساخها او التقليل من شأنها. وقد جسدت الحوارات والفعاليات العديدة التي شهدتها ساحة التحرير والساحات الأخرى بنحو ملموس الفائدة المتحققة من حوار الأجيال، لان التلاقح بين خبرة الآباء والاجداد وزخم الأبناء والاحفاد، مكمل لمسارات التغيير المنطلقة من رحم المعاناة.

عرض مقالات: