لا ادري كيف البدء بمناقشة قضية  ديمقراطية (يسارية)تضمنتها تصرفات ليبرالية (يمينية ) او كما وصف حقيقتها ، عالم الاجتماع المعروف الدكتور علي الوردي ، بكونها  صراع بين (البداوة) و (الحضارة).  

خصال الخير تأتي  على اللسان الحضري بينما لسان البداوة يكابر على التطور الفكري بالابتعاد عن (المودة الفكرية) و عن ( المخالطة الفكرية) و عن ( المجادلة الفكرية) في زمان عراقي صار فيه (الجهل  العام) بالأمور العميقة  دليلاً على (الوعي الخاص) بها ،  حيث تسلطن كل عقل على نفسه ، فارضاً قِوامته  على (الآخر ).  ربما هذا الحال وجد بعض غيومٍ متقطعةٍ في سماء التيار الديمقراطي العراقي في هولندا .

كم أتمنى ان تكون فكرتي عن الغيوم المتقطعة ، فكرة خاطئة.

  اول معنى لما حصل في التيار الديمقراطي العراقي بالمملكة الهولندية هو استهانة (اللغة ) و ( المواطنة) و ( الديمقراطية)  من قبل مواطنين عراقيين ، كلهم عقلاء و طيبون ،  من دعاة الحقوق الديمقراطية و من المناضلين، جميهم، من كلا الطرفين المتخاصمين ،  الحريصين على تحقيق العدالة الاجتماعية ، القادرة على صنع التحول الاجتماعي  في بلدهم المستلب من قبل أقصى يمين الاسلام السياسي . 

اجد من الضروري ان أعامل مقالتي ، هذه، بنوعٍ من الفضول باستعارة بعض الوقائع العراقية الجارية في     الوطن :

  • أستعير أولاً الاختلاف المتملق بين الوقفين السني و الشيعي بمحافظة ديالي حول )مقبرة  الشريف) ..! الوقف السني يقول ان المقبرة يجب ان تخضع لإدارته لأن اكثر الموتى المدفونين فيها هم من اتباعهم . بينما يحاول الوقف الشيعي ان يتحفظ على هذا الطلب ويردد على مسامع الجميع ان اكثرية الموتى المدفونين في تلك المقبرة هم من الشيعة . صار (انقسام)  تبعاً لهذا الخلاف بين أهالي ديالي . 
  • هناك (انقسام)  من نوعٍ آخر بين عشيرتين في مدينة الهارثة البصراوية . كل عشيرة تداعب الاخرى بقاذفات الهاون و الرشاشات و مختلف انواع الأسلحة بدافع من ( الإحساس بالغيرية) حول بعض الرغائب و المكاسب المالية بدماء الضحايا ، كل أسبوع او كل شهر .
  • مفاجآت كثيرة عن أمور الرياضة العراقية بين وزارة الشباب و اللجنة الأولمبية . كل طرف معجب بثقة في نفسه ،تضيع معه الحركة الرياضية جمعاء لأن  أصحابها يسعدهم (الانقسام) حولها . 
  • في  كربلاء يؤمن المسؤولون الحكوميون ان  وقوع ضحايا ( التدافع) امر طبيعي جداً في الزيارات  الدينية المليونية . بينما يثير ممثل المرجعية بخطابه يوم الجمعة ١٤ /٩/ ٢٠١٩ دهشةمن نوعٍ ما عن وجود نوع من التقصير التنظيمي البليد أدى الى الفاجعة . 
  • الفساد المالي و الاداري يرهق العراق كله ، لكن الانقسام الحكومي - البرلماني يُعرقل جميع فضائل مكافحته. 
  • الصراع بين حكومة بغداد وحكومة اقليم كردستان يدق عنق الدولة العراقية المنقسمة. 
  • الميلشيا المسلحة تشتهي الاستيلاء على القوة العسكرية للدولة العراقية بما فيها القوة الجوية. 
  • كبرياء التنافس السلبي بين أمريكا وإيران يفتت الوحدة الشعبية العراقية .  

في كل مكان ببلادنا يوجد انقسام و صراع ، عنيف و غير عنيف ، بين المختلفين . آلاف الأنواع من ( الانقسامات ) تستيقظ بين السياسيين و الإداريين و البرلمانيين و حتى القضاة ، كل يوم ، تعيق مع حظٍ مجنون . لازمَ الشعب العراقي الكادح منذ عام ٢٠٠٣ تحرك سياسي جاهل  أولد انقساماً ، ايضاً، داخل الاسرة الواحدة . 

ترى هل يفكر ( التيار الديمقراطي العراقي) في هولندا تفكيراً ( عميقاً) او تفكيراً ( جانبياً) بان بلدهم العراق يدور حول جميع تلك الامور المسببة للانقسام ..؟ هل حملوا دورهم ليكونوا مناضلين بالتحدي الفولتيري ( نسبة الى  الكاتب الفرنساوي فرانسوا فولتير). بمعنى هل كانت برامجهم  مكرسة لمحاربة الجهل السياسي والطغيان السلطوي . هل ركزوا عملهم و نشاطهم في تنسيقية عام 2019  على الدفاع عن الحقوق المدنية لجميع أبناء الشعب العراقي و احترام عقائدهم  و العمل الديمقراطي الموحد تنظيميا ً من اجل منافع توحيد نضال الشعب العراقي و إنقاذه من السراق الحاكمين  ..؟

 الشيء المؤسف،  انهم تركوا (حسنات العمل الموحد) بعد أن   فقد بعضهم ثقته بالبعض الاخر،  حتى وجدتْ فكرة الانقسام داخل التنسيقية الديمقراطية طريقها الى (سيئات الانقسام)  داخل الخلّة و الرفقة  التنسيقية الواحدة ..!

وضعوا عقولهم و اجسادهم في نزعة ليست طبيعية و ليست ديمقراطية . ابتعدوا منذ أيامهم الاولى في كانون الثاني عام ٢٠١٩  عن الحبكة الديمقراطية الجميلة ، القادرة على تحقيق الاعتزاز بــ( الآخر)  و هذا ، فقط ، ما يهيئ  نهايات حقيقية لكل انواع ( الانقسام) . انغمس الديمقراطيون العراقيون في هولندا ، مع الأسف ، في دوامة من  مزيج من الخلاف و الاختلاف و الصراع ، بكلام مغطى بالديمقراطية ، لكن حبكته لم تكن ديمقراطية بالرغم من انهم يعيشون ، جميعاً، بمجتمع هولندا وهو مجتمع متقدم يبحث في كل يوم عن حبكة جديدة حرصاً منه على حفظ مكامن العلم و الادب و الفن لإقامة رعيته على ارقى نوع من أنواع الحمية السياسية المتزينة بنوعٍ راقٍ من أنواع الديمقراطية البهية . لم يستفد احد من كثرة اثمار التجربة في العلاقة الديمقراطية السليمة بين المتفقين او المختلفين في البلاد الهولندية .

قامت بعض مشاريع فكرية  بسيطة  ، داخل الهيئة التنسيقية الخماسية، على الضرب المتبادل ، بين الآراء المتعددة  متحولة الى مشاريع أفكار معقدة  . لم يكن شغف المجموعة الخماسية القيادية - التنسيقية  في عام 2019 معنياً بموهبة العمل الديمقراطي ، المعرض للنجاح و الفشل و للخطأ و الصواب ، شأنه مثل شأن كل شيء في الحياة الانسانية . ظهرت ( الأنا) الغامضة   متعجلة في التعامل الجماعي . ظهرت ( الأنا) المتقلبة  بحساسية مفرطة بين مجموعتين صغيرتين جداً. كل مجموعة تغذي شكايتها من الاخرى . أرهقت نفسها في تبني تفسيرات أنوية كثيرة ، منها: 

* الأنا المتفاخرة، القائمة على ادعاء : ( انا ديمقراطي والآخر ليس ديمقراطياً ) ، بنظرها. 

* الأنا  السلطوية ، الراضية عن نفسها و المطواعة لها . 

* الأنا المستبدة غير المستعدة على الاعتراف بأخطائها . 

لذلك قرأنا بيانات و رسائل  و شاهدنا اختلافات و خلافات و صراعات  عاطفية ، غاضبة ، متبادلة ، بين طرفين يمارسان ( النقد) من دون ممارسة ( النقد الذاتي) . لم يثب اي تنسيقي قيادي او غير قيادي ، بالتيار الديمقراطي للتخلص من رمادية المواقف و التوجه نحو بياضها الناصع. هذا القصور حرّك الفكر البورجوازي الانقسامي بين الديمقراطيين العراقيين في تيارهم الثوري ، غير المفروض انقسامه، الا من قبل اعدائه والخائفين من نفوذه المستقبلي في العملية السياسية العراقية .  

 

بعيداً عن المثالية اقول بصراحة تامة ان وضع تنسيقية التيار الديمقراطي  في هولندا سادها ارتياب عام خلال الأشهر الثمانية الماضية . انطوى الارتياب بين بعض أعضاء التنسيقية شكل من أشكال ( التحدي) المتبادل بين فريقين . لم يكن شكله و لا جوهره ابداعياً ، كما اوحت لي البيانات المتبادلة و المناظرات المتغايرة انما كان ( الخلاف ) و (التحدي) قائمين على انتقادات ليست بارعة . نتيجتها السردية ذات خصائص انقسامية ، متماشية ، كما يبدو، مع الانقسام الشعبي الخطير في العملية السياسية داخل الوطن. ربما الخطورة في انقسام التيار الديمقراطي اكبر تأثيراً ، لأنه انقسام في صفوف العناصر النخبوية .  

هناك سؤال مهم أتمنى ان يسأله كل رجل من رجال الديمقراطية العراقية  و كل امرأة ديمقراطية ، ايضاً، و هو : ماذا سيحصل للخيال الديمقراطي اذا تشظى الديمقراطيون و تقطعت أوصال مناهجهم العملية ..؟

السبب الرئيسي في انقسام الديمقراطيين العراقيين في التيار الديمقراطي  في هولندا الى أقلية  دعت الى (اجتماع موسع ) و الى اكثرية دعت الى ( مؤتمر استثنائي) يعود الى وجود و تضخم ( الأنا) الثلاثية المذكورة آنفاً لأنها جعلت الوحدة التنسيقية الديمقراطية تترنح بتفوق الكلام عن ( المصطلحات) و التخلي عن ( العمل المشترك). الحماسة الديمقراطية تركزت - مع الأسف الشديد - على إطلاق البيانات و التصريحات الجنرالية المحشوة بعدد من الطلقات الجارحة . كان المفترض و يبقى كذلك دوماً ، ان يكون الحوار الديمقراطي الهادئ هو الضابط الوحيد لنزوات ( الأنا) حتى نتلافى ظهور كل نوع من مرض ذهاني في داخل تنظيم ديمقراطي . ان المساءلة القائمة على الحوار و المحاججة هي السبيل الوحيد لإبقاء ( التيار الديمقراطي العراقي) في هولندا و في كل مكان و زمان يقوم ، أولاً و اخيراً، على التخلص التام من السلوكيات و الميول الأنوية في كل تنظيم ديمقراطي يمارس الاختيار التدريجي الحر . 

دعا المفكر السويسري جان جاك روسو ( ١٧١٢- ١٧٧٨) قبل الماركسية ، الى تنشئة الديمقراطية على (تصغير) دائرة التعامل معها ، ثقافياً و سياسياً ، لكي لا يتعطل دورها الاجتماعي و التعبوي. كما دعا المناضل الماركسي الايطالي (١٨٩١ - ١٩٣٧) الى ضرورة  ان يكون المناضل من اجل الديمقراطية بهيجاً في التعامل ، بالموضوعية، مع العالم السياسي المحيط بالديمقراطية و مع رفاقه و أصحابه  الديمقراطيين و التفاعل مع هذا العالم من خلال المرجعية المعرفية . كذلك كان السياسي العراقي كامل الجادرجي يدعو الى ضرورة التحرر  من النفسية العاطفية الأنوية وإحساسها بأنها أفضل من (الآخر). 

حسناً فعلت اللجنة التنسيقية بتقديم استقالتها الى (المؤتمر الاستثنائي ) لكي تفسح المجال ، واسعاً، امام مجموعة جديدة من الشبان الديمقراطيين الحاملين فورة العمل الديمقراطي .

 الأمل ان يبدأوا بإزالة  جميع مظاهر سوء الفهم ما دام الجميع طيبين. كما أتمنى ان يصيب الاخرون المقاطعون و ان يعودوا الى العمل المشترك لان النكبات و الشدائد النازلة بشعبنا لا تستغني عن مكارم الاحباب الديمقراطيين ونشاطاتهم و فعالياتهم المدونة في سجلات تاريخهم النضالي الطويل ، عبر سنوات القهر الدكتاتوري ،  لصالح الكرامة الديمقراطية . كل خلاف ميت لا محالة . لن يبقى حياً الى الابد غير صواب و جرأة  المواقف ذات النتائج العظيمة بإيثار قضية شعبنا .  

سؤالي المكرر الأخير   ،  أتمنى  ان يسأله كل رجل من رجال الديمقراطية العراقية  و كل امرأة ديمقراطية ، ايضاً، و هو : ماذا سيحصل للخيال الديمقراطي اذا تشظى الديمقراطيون و تقطعت أوصال مناهجهم العملية ..؟

ـــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 12 – 9 - 2019

عرض مقالات: