لا يندهش أحد من العراقيين حين يسمع ان (القلق) بألوانه المتعددة، يظهر ويدوم، حالما يُعلن حزبان او تجمعان سياسيان، قيامَ تحالفٍ سياسيٍ ما.  الحكومة تقلق من هذا التحالف والجماهير تقلق، أيضاً.  كما يقلق المتحالفون أنفسهم على مستقبلهم في هذا الصدد.  أقول، بثقة، انه لا يوجد استثناء في هذه القاعدة، في ظل الأوضاع السياسية العراقية، الحالية. اعترف، انا السياسي العجوز، انني ما زلت اتمتم، قلقاً، منذ اول يوم كنت قد تحفظت عليه قبل قيامه بيومٍ واحد.  

 مفرط (القلق) حدثَ بين الشباب، أيضاً، حين قام تحالف اسمه (سائرون).  أساس سائرون ومادته البنائية استندت واعتمدت على تحالف (الحزب الشيوعي) مع (التيار الصدري).  هذا التحالف اثار تساؤلات، متعددة الاشكال، بين أبناء الشيوعيين وابائهم واجدادهم. كما نفس التساؤل جرى بين ابناء وآباء واجداد من التيار الصدري وعموم المتدينين وكثير من المعممين والافراد من جماعات الإسلام السياسي....

من معطيات الطفولة القيادية في العراق السياسي او في السياسة العراقية ما بعد عام 2003 انه مقابل كل تحالف يقوم على أسس الحوار والديمقراطية يتكون هناك (حلف مضاد) يقوم على الغضب او على الكراهية. كل حلف مضاد لا ينتظره الشعب ولا يريده لأنه حلف يضم (عصبة) من الطبقة الرأسمالية الجديدة الناشئة في العراق في عهد ما بعد سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣ وهو من نوع التحالف الجامع والمدافع عن مصالح طبقية بورجوازية. هذا النوع من التحالف متملق بطبعه، مخادع بأسلوبه. قيادات من نوع هذه الاحلاف تعتبر نفسها اعلى وأقوى  من القوانين الوضعية المشرعة من قبل البرلمان العراقي. كما ان خطابها المعلن لا ينفصل في غالب الأحيان عن (اللاهوت السياسي)، ....   أي ان مبادئها الاساسية مصاغة ... ضد مبادئ العلمانية والحرية والديمقراطية، كما ان مَعلَمه هو التعاقد الجماعي -الفردي مع مصالح الطبقة البرجوازية في الدولة الإيرانية المجاورة. 

 تقف خلف هذا النوع من الأحلاف مؤسسات مالية كبرى، داخلية و خارجية، و بنوك عراقية كبرى، هدفها الأساسي ان يكون الاقتصاد العراقي جسماً واحداً بأيديهم، يحفظ لهم مصالحهم المتزايدة، يومياً، في عمق المجتمع العراقي، يجري تنظيمها باتفاقات مشتركة بين المتحالفين بشكل يحفظ لهم مصالحهم المالية.. وهذا النوع من التحالف ينتقل سريعا من موقف الى موقف ومن دائرة سياسية -اقتصادية ليدور الى اخرى، بدرجات متباينة.

يوجد في الساحة السياسية العراقية قسم آخر من التحالفات المضادة لتحالفات تطالب بعلمانية الدولة العراقية ومدنيتها ودورها في قيادة الاقتصاد الوطني و تنظيم الشؤون المالية. هذا القسم واسع وكبير يضم المتاجرين مع الدولة الاردنية والسورية من جهة ومع دبي والدول الخليجية من جهة ثانية و مع بريطانيا و أمريكا و فرنسا و دول أوروبية اخرى، من جهة ثالثة. ربما هذا القسم التحالفي يعتبر نفسه مفتاح العلاقة مع السوق الرأسمالية العالمية ومع أقوى الشركات الأجنبية ووكلائها في الشرق الأوسط.  الشيء المحتمل في سلوكية هذا التحالف، الذي يضم أحزابا دينية ومدنية، شكلياً، لا يخلو من تناقضات المصالح وخلاصاته تتفق مع خلاصات القسم الاول بنتائجه المنطقية الرامية الى إلحاق مصالح العراق الاقتصادية و المالية بمصالح الدول الأجنبية. لا يندهش المواطن العراقي من اتجاهات هذين التحالفين الرئيسين المتضادين بوجود عقلية وطبائع مشتركة.

ربما في هذين النوعين من الحلفين -التحالفين توجد شخصيات بارزة مفتونة بأساليب الطغيان وممارسة العصبية الطائفية بمواجهة العملية السياسية من جهة و القوى الديمقراطية من جهة اخرى. يختفي هذا النوع من الحلف - التحالف وراء تعابير ديمقراطية لإخفاء روحه الاستبدادية. هذا النوع من الحلف -التحالف صار مظهراً موحداً من مظاهر الزمان العراقي الجديد، اعتماداً على نشاط يومي فعال، تقوم به اجهزته الإعلامية المبنية على القنوات الفضائية في نشر افكارها والتعبير عن آرائها و الدفاع عن معضلات اقتصادية تخلقها المنافسات البورجوازية من بين صفوفها.  بصورة عامة أستطيع القول ان هذه التحالفات تشكل خطراً على السلام الاجتماعي داخل الدولة العراقية.

هذا القسم من ( التحالفات)  كان و مازال معجباً بنفسه بالرغم من انه  احتكر لنفسه (  ليس لشعبه) جميع الامتيازات و قد صاغ لأعضائه جميع المصالح الاقتصادية ، بأقصى سعة وبصورة مالية غامضة مهدت السبيل سهلاً لتعددية أشكال نهب المال العام  امام تعددية الأشخاص و الأحزاب و التجمعات المنضوية تحت لافتاتها كي تمتلك القدرة الرأسمالية بأعلى النسب و الدرجات، بينما نزلت الجماهير الشعبية الكادحة الى أدنى النسب تحت خط الفقر،  كما اصبحت البطالة عقلا ًاعتيادياً  في اخلاقية الدولة العراقية منذ عام ٢٠٠٣ حتى  اصبحت مؤسسات الدولة كاتدرائيات للمصالح و الأفكار الطائفية و لما يسمى بــ(اللجان الاقتصادية).  كل طائفة و مليشياتها او صروحها الاخرى صارت تملك (ملكاً طابوياً) مؤسسة من مؤسسات الدولة مسجلة باسم هذه او تلك من المجاميع الطائفية، المختفية حول ( اللجان الاقتصادية) اي  تحوّل ( الوقف السني) و ( الوقف الشيعي ) الى واقع عام شاملاً جميع مؤسسات الدولة . 

القوى السياسية الطائفية سيطرت، بصورة مباشرة وغير مباشرة، على قيادة الدولة العراقية بنوعٍ خفيٍ من التحالف السياسي – الطائفي.  يتصورون أنفسهم ان لا توجد أية نقيصة في عملهم الاداري - الحكومي خلال الفترة منذ عام ٢٠٠٣ حتى اليوم . مغترون حتى بجهلهم في الامور الإدارية، البسيطة منها والمعقدة. لا يملكون فضيلة النقد الذاتي و لا فضيلة قبول نقد الآخرين .. ليس عندهم صفة (الاعتراف بالخطأ) او صفة الاعتذار عنه. لذلك ظلوا طيلة سنوات حكمهم في حالة ظلام مما جعلهم في حال من لسان (نقد) و (ذم) و (نقص) من غالبية أبناء الشعب ، الذين اعتادوا على  التعبير عن ذلك،  من خلال تنظيم التظاهرات ، الكبيرة العدد و الصغيرة،  عارضين  مطالبهم سلمياً و بالحق و العدل راجين إنصافهم بعناية الدولة لرفع مستوى حياتهم المعيشية نحو الأفضل حتى بنسبة قليلة .

كانوا يتبادلون في ما بينهم و في شاشات فضائيات تلفزيونية، عبارات التفخيم و التعظيم لشخصياتهم بالرغم من ان لغة اكثريتهم، ليست عربية سليمة و هم كانوا قد درسوها اكثر من ١٥ سنة في المدارس العراقية، لكنهم ما زالوا غير مطبوعين بها و لا مسترسلين، بل ان اكثر تعابيرهم معتلة او مسترذلة. لا يدري احد كيف يمكن لمثل هذا النموذج من السياسيين ان يستوعبوا (علم السياسة) و كيف يمكن استيعاب (تجارب السياسة) و كيف الوصول الى شرفية (العلاقة الفيدرالية) و ابعادها المعقدة من عصر أفلاطون حتى عصر إنجيلا ميركل وصولاً إلى واقع حال إقليم كردستان! .

معنى التحالف

 لا بد، هنا، من العودة الى بعض البديهيات لمعرفة (معنى التحالف)  .. هل التحالفات الطائفية هي شكل من أشكال الأساطير الوحدوية ذات الطبيعة الوطنية الفعلية ام انها ليست أكثر من الشكل السياسي الكاريكاتوري المرسوم ببراعة ...؟

  او هل ان بعض القوى تفهم التحالف على انه مجرد ( صداقة سياسية)  تقوم على أساس ( ساندني كي أقوى على مساندتك) ..!

او هل ان التحالف شكل من أشكال الخضوع و الإخضاع ..؟

او هل ان التحالف تبادل وثائق او مواقف براءة الأطراف المتحالفة ، من كل شيء سيّئ..؟ ...

كثيرة هي رؤى و أفكار و أغراض ووسائل عشرات من  تحالفات متباينة ، كثيرة،  انبثقت  من دون رزانة بين مختلف القوى السياسية على نطاق العراق كله ، بما فيه اقليم كردستان .

تفسيرات متغايرة كثيراً عن الحقيقة و الواقع،  مطروحة على الساحة السياسية و الإعلامية و الدينية ، أيضاً،  لكن حيثياتها بعيدة،  تماماً ، عن القيمة النسبية الحقيقية المتجمعة في تجارب الحزب الشيوعي العراقي . مما تولد لدى الشيوعيين العراقيين إرثا (فكرياً - تنظيمياً ) واضحاً في قضايا التحالف الوطني بعيداً عن الثيوقراطية و البيروقراطية

 التحالف الجديد

 في الزمان الحالي و منذ توسيع السلوك الاحتجاجي في انساق تظاهرات و تجمعات و اعتصامات ساحة التحرير، في كل يوم جمعة،  من كل اسبوع. تداخلت افعال  تيار مدني احتجاجي يقوده الحزب الشيوعي مع تيار احتجاجي اخر بقيادة التيار الصدري . بدأت الفعاليات المشتركة  بــ( تحالف تنسيقي) لقيادة التظاهرات،  ثم تطور الى سياق اخر حين حل موعد الانتخابات البرلمانية عام ٢٠١٨ وكان سياقه المعلوم ( تحالف انتخابي) ثم تمّ التسلسل التحالفي اللاحق ، متحققاً بعد نتائج الانتخابات بالترابط المشترك في تحالف كتلوي على نحو خاص في الوصل المشترك في    ( تحالف سائرون) .

كانت كل مرحلة من هذه المراحل الثلاثة مفعمة بكثيرٍ من النقاشات و الحوارات  داخل تنظيمات الحزب الشيوعي ، بقصد الوصول الى التمثل الكامل في قيادات و قواعد الشيوعيين،  عن الانتقال السريع،   نحو التحالف مع تجمع او تنظيم  ديني ...كما واجه التيار الصدري معاناة هويته الدينية و ( التجاوز) عليها بالتحالف مع الشيوعيين و المدنيين و العلمانيين و الديمقراطيين و غيرهم من انواع الشخصيات و التراكيب الفكرية و السياسية ( العقائدية) . كثير من الاتهامات و الأفكار غير المسبوقة حول تحالف سياسي غير مسبوق في التاريخ العراقي . كل من التيارين العلماني الشيوعي - الديمقراطي و التيار الصدري المنفتح و المتهيئ للنضال من اجل مطالب و حقوق الكادحين العراقيين أوجدا علاقة سياسية  مهدت السبيل لقيام تحالف اللزوم الجمعي .  صار المعنى التشاركي أمراً ممكناً ومحتماً . خاصة بعد ان قرر الحزب الشيوعي اجراء استفتاء داخلي سريع كانت نتيجته موافقة اكثر من ٨٢ في المائة   ساهموا في تأييد قيادة الحزب بالموافقة على التحالف الشيوعي - الصدري. 

لكن السؤال الرئيس الذي واجه الحزب الشيوعي وكوادره القيادية و القاعدية  بعد الاستفتاء الحزبي هو : هل يمكن ضمان التكافؤ و المساواة في الحقوق و الواجبات بين المتحالفين ..؟

ليس من السهولة الإجابة على هذا السؤال.

الجواب الحقيقي ينبغي ان يكون واقعياً ليس طوباوياً.

المعنى الرئيس الاول للواقعية، هنا، في هذه الحالة ان يكون المرء على معرفة تامة بالتربية الوطنية للتيار الصدري ومنهاجه  الاخلاقي المبدئي. على من يريد الجواب على مثل هذا السؤال ان يكون عارفاً بطريقة عمل التيار الصدري وأهواء قيادته الحقيقية ومرتكزات مخططاته التحالفية، كما ينبغي عليه ان يعرف العقل القاعدي في التيار الصدري ومدى  اندفاعه التحالفي مع الشيوعيين.

كل هذا يندرج تحت الامور الصعبة في بلد مليء بالغيوم السياسية، التي لم تنجب غير ميليشيات ومنظمات العنف والاختطاف والابتزاز والغدر وهي منظمات مسلحة تختفي وراء الدين او الطائفة...

 الحس الديالكتيكي

 من هنا يجد الشيوعيون العراقيون أنفسهم بحاجة شديدة جداً الى الاستنجاد بالفراسة  و الموهبة والعبقرية الشخصية و الى علم السياسة، للوصول الى وسيلة المعرفة الحقيقية لما يكسبونه هم من تحالفهم مع التيار الصدري،   و بنفس الوقت عليهم ان يعرفوا ماذا يكسب الصدريون من تحالفهم مع الشيوعيين .

من دون  ذلك يكون  مثل هذا التحالف  في اقل حالاته هو ضعف  الديمومة على الحركة ، كما يكون اقل نجاحاً في تكتيكاته و يجعل موقعه الاستراتيجي ليس متماسكاً.

 ماذا إذن ...؟

 هل يجب إهمال قدرات و إمكانيات تطوير التحالف الشيوعي - الصدري بعد صيرورته السريعة كائنا انتخابياً أولاً ، من ثم كائناً برلمانياً وبعد ذلك كائناً في حالة حركة داخل العملية السياسية تحت اسم مسموع في الوطن ، كله، : (سائرون ).

و سيظل هذا الاسم البشري، واقعاً بشرياً، ...، فتح الأبواب امام ضرورة اتفاق التحالف و المتحالفين ، جميعاً، على الالتزام بشرعيته الخيرة وبرنامجه الآني و الاستراتيجي و بضبط ( الإرادة العامة) في التحالف  و تطويره على أسس المصلحة المشتركة . كلما كانت (الإرادة العامة) مستقيمة متجهة نحو (المنفعة العامة) فان سعادة المتحالفين تتحقق بموضوعها و ماهيتها، حيث تنطلق من جميع المتحالفين لكي يطبقها جميع المتحالفين.  ببساطة يمكن القول: من دون (الإرادة العامة) فان عُقد التحالف تظهر، بسرعة، ثم تؤدي ، الحالة ، تدريجياً، الى التراخي في تطبيق و تنفيذ البرامج المشتركة.  عند ذاك، تصبح (الإرادة العامة) خرساء قابلة للتلف التنظيمي والى التباعد والافتراق بين الاطراف المتحالفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 5 /7/2019

عرض مقالات: