شهد العالم في السنوات العشر الاخيرة تحولاً في السياسة العالمية بعودة اليمين المتطرف واحتلاله مقاعد برلمانية ، وصار بعض منه يُدير الحُكم، مثل رودريغو دوتيرته في الفلبين ،جاير بولسونارو في البرازيل ،نارندرا مودي في الهند، أوربان في هنغاريا ،ياروسلاف كاشانيسكي في بولندا، ودونالد ترامب في اميركا.

ظاهرة العولمة الليبرالية التي نعيشها اليوم، وهي شكل جديد للرأسمالية، تزداد تناقضاتها باستمرار، ويتكاثر فيها الاثرياء بسرعة قياساً الى بدايات الثمانينات من القرن الماضي. وفي مقابل ذلك لا تحصل الطبقة العاملة على اجور عادلة بسبب سياسة التقشف والمزيد من التشديد في عدم المساواة الاجتماعية. ويُصاب مفهوم التضامن هنا وهناك وبتفريغ معناه الحقيقي كي تحل الدعاية للفردية محلها.

بدايات ذلك كانت في الفترة التاتشرية (نسبة الى رئيسة وزراء بريطانيا الاسبق مارغريت تاتشر) حين وطدت اقدام الليبرالية الجديدة في هجومها وادعائها انها تحمل الديناميكية.

وفي الآونة الاخيرة انتزع اليمين مقاليد السلطة سريعاً فوضع القضاء وحرية الصحافة والمنظمات الاجتماعية تحت سيطرته وأخذ يهاجم جوهر الديمقراطية. ولم ينتبه البعض الى الخطر المحدق القادم ووقف متفرجاً دون اعادة تنظيم صفوفه. وانعكست نتائج ذلك في ظروف العمل السيئة وبشروط مجحفة وتعرض فيها الاجانب والاقليات والنساء الى مضايقات مبرمجة مع عداء واضح للثقافات الاخرى. ، واصبح اليمين المتطرف يبرر الاوضاع الاقتصادية السيئة بالادعاء انها بسبب الثقافات القادمة من الخارج بهدف تعميق السخط والغضب ليتصاعد عند الطبقة المهمشة وبأدوات تعمل على توتير الاوضاع والسيطرة عليها لمصلحة الاغنياء وعلى حساب الفقراء والطبقة الوسطى. وهذا مانجح فيه ترامب اثناء حملته الانتخابية، فجرى انتخاب طبقة من (الاقتصاديين) تمزج بين اقتصاد الليبرالية الجديدة وسياسة الهوية القومية لصالح اليمين المتطرف.

والظاهرة هذه دخلت اوربا نتيجة السياسات الاقتصادية المتبعة منذ سنوات وأخذ اليمين المتطرف يحتل مقاعد برلمانية. ففي الانتخابات البرلمانية الرئاسية الاخيرة عام 2017 في فرنسا تمكنت ماريا لوبن من الحصول على ثلث المقاعد البرلمانية.

في العام نفسه تمكن حزب الحرية اليميني الشعبوي  في هولندا المتمثل بزعيمه غيرت فيلدرز ان يحصل على المركز الثاني ،وحصل حزب البديل من اجل المانيا على نسبة 12،6في المائة في البوندستاغ، علما انه الحزب اليميني الشعبوي الذي دخل البرلمان لاول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، والمعروف بمواقفه ضد الاجانب الوافدين.

وأنزلقت أيطاليا أيضاً حين حصل حزب "رابطة الشمال" على 17،4في المائة من الاصوات في انتخابات عام 2018، وكذا الحال في سويسرا التي حصل فيها حزب الشعب اليميني على 30في المائة من الاصوات عام 2015.

ولقد أصبح صعود اليمين المتطرف الشعبوي خطراً دون شك، خاصة عندما يغدو جزءاً من السلطة.

ويُثار السؤال عن كيفية تمكن هذه الاحزاب من النجاح في كسب اصوات الناخبين وماهية السياسة التي ينتهجونها لتنفيذ مآربهم!

لقد تمكن رئيس حكومة هنغاريا الحالي فكتور أوربان من الوصول الى السلطة عام 2010 عن طريق تغيير بعض القوانين ومنها ما يتعلق باستقلالية القضاء، وتعاونه بشكل كبير مع (الحركة من اجل هنغاريا افضل) وعزل قوى ليبرالية اقتصادية وتقليم المشهد الثقافي .

وعبر بارتوس ريدلينيسكي بصراحة عن رغبته ان تكون (بودابست في وارشو)، وهو الذي اصبح في ما بعد رئيس وزراء بولندا. ورغم ادعائه بعدم تصنيف حزبه PIS ضمن اليمين المتطرف، فان مواقفه معروفة في عدائه ضد الاجانب ونزعته العنصرية. ويتألف حزبه من القوميين والفاشيين الجدد. ويتقارب الموقفان البولوني والهنغاري في الادعاء بوقوفهما ضد الليبرالية الجديدة واستطاعا ان يجدا اصداء لهما عند الطبقات الفقيرة والتلاعب بمشاعرهما واستدراج اصواتهما في الانتخابات .

ويدعي اليمين الراديكالي في النرويج ان المجتمع يعاني من مرض سببه الخطر المتمثل في هجرة الاجانب وكقطب صراع يهدد الهوية النرويجية، بدل التبرير المنطقي من خلال التوزيع غير العادل في المجتمع النرويجي للثروات.

وأنحدر حزب الشعب النمساوي بقوة الى اليمين تحت قيادة رئيسه سباستيان كورس. وبعد تحالفه مع حزب الحرية النمساوي تشكلت الحكومة الحالية في عام 2017 ببرنامج شعبوي انجذبت اليه الطبقة الوسطى وما يقع تحته من الموظفين والمستخدمين.

ويمارس حزب الحرية دعاية التخويف من التراجع في المجتمع النمساوي موظفاً ذلك بطريقة متناغمة ضد المهاجرين، نتيجة عدم الرضا الحاصل في المجتمع الرأسمالي المتأزم، والذي أصبح لايناسب عامة الناس.

وصار واضحا دون اي لبس، ان هزيمة اليمين المتطرف تتطلب إعادة التفكير في الاستراتيجيات من دون السقوط في فخ الخدع، وأعادة قيادة العمل الجماعي في جبهة عريضة متحدة يسارية ديمقراطية تكافح ضد الليبرالية الجديدة الخانقة للديمقراطية.

عرض مقالات: