تراجعت الحركة الفنية للرقص الشرقي تدريجياً منذ نحو أربعة عقود في بلداننا العربية التي عرفت هذا الفن وعلى رأسها مصر ، وذلك  تحت تأثير  طغيان موجة التشدد الديني الذي فرض سلطانه وابتزازه بدرجة كبيرة على روافد الثقافة والفن ومن ضمنها فن الرقص ؛ هذا في الوقت الذي بات فيه الرقص الشرقي ينتقل إلى بلدان اوروبية وغربية عديدة . و تعد الباحثة الإنجليزية وندي بونافنتورا التي عُرفت بافتتانها بالرقص الشرقي من أكثر من قدموا تقييماً مُنصفاً للرقص الشرقي ، فالسبب وراء انجذاب النساء الغربيات إليه يتمثل - حسب تعبيرها - في الأوراك المتمايلة كما التنويم المغنطيسي ، والتموجات المتلوية المتعرجة . وإذا جاز لي أن أعبّر  عن جوهر  فكرتها بشكل أدق من النص المترجم  مع إضافات موسعة من لبنات  أفكاري لقلت : إن الرقص الشرقي إنما تكمن جاذبيته فيما تملكه الراقصات من أوراك متمايلة ، وصدور ناهدة تحركهم بطريقة تجذب المتابعين الذكور نحو ادائها المصحوب بالإيقاع الموسيقي الذي تتناغم حركاتها عليه مركزين نظراتهم الثاقبة نحوها٠ وهذا بلا شك يُعد واحداً من أسلحة  المرأة الراقصة الانثوية الجريئة ، والذي كثيراً ما يضعف أمامه أعتى الرجال ، حيث تفجره  الراقصة الشرقية بجرأة تُحسد عليها أمام العشرات أو المئات من مشاهديها الذين يجلسون متسمرين على كراسيهم وكأنها أخضعتهم أسر قبضتها ، بشكل من أشكال التنويم المغناطيسي اللذيذ . وهي  إنما تفعل ذلك لما تجده هي الاخرى في ادائها ليس عملاً للارتزاق فحسب ، بل وباحساس من المتعة بوصفه خلاصاً للأنوثة  : إنه الترفع والسلطة معاً ، والرقة والقوة أيضاً . فبالنسبة للكثيرات من النساء المتعودات على إظهار الجانب اللطيف فهذا  من طبائع كل إمرأة ، وإذ تشكٌل أيضاً حركات الاوراك المتحدية  ، كما في الرقص الشرقي جاذباً كبيراً . ( راجع في هذا الشأن مقالها : المرأة الجوهر ، أبواب ، شتاء ١٩٩٥).

وفي مقارنتها الرقص الشرقي بفن الباليه ترى بونافانتورا أن الثقافات الغربية لا تقدم للنساء الرقص بوصفه عنصراً بالغ الأهمية في التعبير عن النفس ، ولا بوصفه النشاط الذي يتيح لهن أن يتحركن ليبرزن أنفسهن بحرية تامة ، كنساء أحراراً  بعيدا عن أي قيود اجتماعية بل  بطريقة تبدو لهن طبيعية ، ذلك بأن لغة الرقص الأرفع في الثقافة الغربية مازال يتمثل في فن الباليه الكلاسيكي الذي حضرت  معظم الفتيات إبان طفولتهن بعضاً من صفوفه . وتقول حرفياً : وأنا لا أزال أذكر بؤس ما انتابني من مشاعر فيما كنت أحاول تقليب قدمي والقيام بعدد لا يُحصى من القفزات الصغيرة التي تقطع أنفاسي . ربما لم أكن ملائمة لذلك ! أو ربما ببساطة ، لم أكن من صنف الرياضيين ، حيث الباليه نوع من رياضة الموسيقى . لكن مما لاشك فيه أنه حين تكبر الصغيرات ويصبحن على دراية بصورة المرأة والأنوثوية، وهي الصورة التي يطمحن إلى الاقتراب منها ، يجدن  أن نموذج الباليه أحد أكثر النماذج تنفيراً . فهو يقدمّهن ككائنات سماويات ، هشّات العظام ينبغي لذراع شركائهن الرجال أن تحملهن وتنقّلهن فوق المسرح . ويُفترض براقصة الباليه عند تأهيلها منذ طفولتها أو صباها أيضاً أن تكون نحيفة  إلى درجة فقدانها شهية الأكل ، حتى أن الناقد الفرنسي ثيوفيل غوتييه وصفهن في القرن التاسع عشر بالهياكل العظمية المتحركة .  ثم تختتم فكرتها قائلةً : وكان هذا في زمن شكله النسوي الأمثل أكثر شهوانية وحسية بكثير مما هو اليوم " .  فالنظام الضابط للباليه نظام عقابي إلى الحد الذي يُعرّض الجسد -خصوصاً في القدمين - للجرح والألم . والكثيرات منهن  كُسرت أ قدامهن أو جُرحت . لهذا تبدو لي راقصة الباليه  شديدة التلاؤم مع التقليد الفلسفي والديني المسيحي للغرب . " 

أما الرقص الشرقي فتصف بونافنتورا سماته المتفردة   : " … إنما يخالف الرقص الغربي بكل الطرق التي يمكن تخطر على بال . فهو ليس أرضياً فحسب ، حيث القدم موضوعة بثبات في مكانها ونقطة الجذب في أسفل البطن ، بل يعطي النساء الفرصة لاكتشاف الحركات في الحوض ، أي المكان الذي يجمع إلى حد الإثارة ، أعمق محرماتنا " .   

والباحثة إذ أبانت مخاطر وأضرار الرقص الغربي ، كما تقدم ذكره  ، توصف ما للرقص الشرقي من آثار علاجية فتشبهه بالشكل التمريني الذي يعمل من الداخل إلى الخارج ، فيوصل الرسائل إلى الاعضاء الداخلية للجسد بقدر ما يحركها ، وفيه -على حد تعبيرها-   نفع لعسر الهضم والتهاب المفاصل وآلام الظهر ، فالتحريك المتموج للعمود الفقري يساعد على تليينه . وبتمركزه حول الصدر فإن العضلات التي لا تتحرك تتقوى وتتناغم كما ان الدوران وحركات الاوراك المتسارعة كالوميض تجعل الحوض مرناً ما يساعد الراقصة على سهولة ولادة مولودها .  

وأضيف من جانبي : بأن الرقص الشرقي يجسٌد عيانياً أمام مشاهديه قدرة خارقة لمحترفته في إبراز  مفاتن جسدها الانثوي ، كما خلقه الله ،  وهو الأكثر تطوراً من الفن التشكيلي في إبراز هذا الجسد مما حاول أن يٌعبٌر عنه مشاهير الفنانين التشكيليين الاوربيين الكبار في لوحاتهم الفنية خلال عصر النهضة ، دون يبتغوا بذلك الإثارة  بالضرورة بقدر ابتغائهم التعبير عن افتتانهم بجمال المرأة الفتّان جسداً . وإن كانت ممارسة الرقص الشرقي في تقديري تتفوق على الفن التشكيلي بأدائه الحركي الأكثر تجسيداً لفتنة المرأة وقوامها الممشوق الجذّاب ، فما بالنا باستعراضه هذا الجسد بتلك الحركات ، وهو  ما تعجز الفتيات العاديات إظهاره - الجسد - لأسباب اجتماعية ، حتى ولو كن سافرات ، او يرتدين ملابس عصرية شبه مثيرة . وحسب تعبير الكاتبة اللبنانية جنى الحسن في مقال لها بهذا الشأن   :  أن الحركة الإنسانية للرقص الشرقي ، كما هي لدى نادية جمال التي تتلمذت على يد " تحية كاريوكا "  في القاهرة ، خلقت تكتيكاً فريداً قادرة على ممارسته حتى بعد بلوغها ما بعد سن الأربعين في بيروت ، لأنها أعتمدت في اسلوبها العديد من حركات نسائنا العربيات وأصبح رقصها نضجاً لإيقاعات جسدية فنية تمازجت مع أكثر النبرات الموسيقية المعقدة لبزق الموسيقار الكبير مطر محمد " . ( جنى الحسن ، الرقص على ضفاف المتوسط ، باحثات ، الكتاب الخامس ، ١٩٩٨ - ١٩٩٩ ) .  

ولعل ما يؤكد المكانة التي يحظى به الرقص الشرقي في عالمنا العربي ، رغم ما يواجهه من تابوهات متشددة ، تداخله في كثير من الأحيان بعالم السياسة على عكس رقص الباليه ، فكثير من محترفات الرقص الشرقي تم إقحامهن في أعمال الجاسوسية سواءً لصالح وطنهن أو ضده ، وذلك لما يملكه هذا النوع من الرقص من قدرة سحرية في جذب رجال السياسة من ذوي المناعة الهشة ، بل لا يتوانى بعض القادة العرب عن تنظيم حفلات خاصة من الرقص الشرقي  لكبار ضيوفهم كنوع من السخاء في كرم الضيافة ، والأمثلة على ذلك عديدة لكن لعل أشهرها سياسياً ما أقدم عليه الرئيس المصري الراحل أنور السادات بترتيب مثل هذه الحفلات خصيصاً لكبار ضيوفه ترقص فيها على سبيل الراقصة الشهيرة سهير زكي التي رقصت أمام شاه إيران والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ووزير الدفاع السوفييتي جريتشكو  . وسبق أن دعاها الرئيس عبد الناصر أن ترقص في حفل زواج إبنته منى . أما أشهر من رقصت أمامهم من ضيوفه فهي نجوى فؤاد في حفل خاص برئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن . 

وإذ تذكرني ما أفادت به بونافنتورا عما يلحق براقصة الباليه من أمراض بإفادة مطابقة عايشها أحد الاخوة الفنانين السوريين المقيمين في موسكو ردحاً من الزمن منذ العهد السوفييتي وقد رواها لي شخصياً أثناء زيارة لي للمدينة أواسط العقد الماضي حيث تجاذبنا أطراف الحديث بُعيد خروجنا  من أحد عروض الباليه على مسرح البولشوي.   وإن كان  المرء ليحتار حقاً في تقرير أيهما الفن الأمتع من جميع الاوجه الصحية والإبداعية الثقافية والروحية : هل هو الرقص الشرقي أم فن الباليه ؟  ففي تقديري أن لكل منهما مميزاته التي يفتقدها الآخر  ،  فإذا كان الرقص الشرقي اكثر حفاظاً على صحة المرأة والاكثر قدرةً على تفجير انوثتها الجميلة بقوامها المتفرد الذي لطالما تغزل به كبار الشعراء والادباء وعبّر عنه  الرسامون الكبار في أشهر لوحاتهم  ، فإنه ينبغي ألا ننسى أيضاً  أن رقص الباليه له قدرته الابداعية على تأدية نوع من الفن التمثيلي الرفيع المستوى بالرموز الفنية الإشارية المصاحبة للإيقاع الراقص الحركي ، أو ذلك الشكل الذي أبتدعه نوفير وأسماه " باليه الحدث " الذي يُقدم حبكة درامية حساب ما جاء في مقال الحسن المشار إليه آنفاً .  وهذا الدور الذي بتمير به الباليه ولا يجاريه فيه الرقص الشرقي مثلما لا يجاري  الأول هذا الاخير في إظهار مفاتن المرأة القوامية بما تحكيه من لغة جسد في شكله الجمالي أثناء اداء الراقصة  بكل ما في الكلمة من معنى ، ذلك بأن راقصة البالية عادةً ما تكون رقصتها تتسم بالجدية في الاداء والتمثيل والانضباط الصارم وعدم الخروج على النص ، ولا تشكل رقصتها استثارة للمشاهد بل إن جاز القول هي تتحدث بلغة جسد اخرى ذات فلسفة روائية راقية لا يفهمها إلا هواة أو عشاق هذا النوع من الرقص .  

مهما يكن ففي اعتقادنا ان النتائج التي تخلص بأضرار الباليه وفوائد الرقص الشرقي هي بحاجة لاخضاعها إلى مزيد من الدراسات العلمية الصحية والمراقبة ازاء راقصي الباليه والرقص الشرقي على حد سواء في تلك المزايا أو المفاضلة المتقدم ذكرها ، رغم ترجيحنا من الناحية المبدئية ، ما يلحقه الباليه من أضرار  ، وما يتمتع به الرقص الشرقي من فوائد ، بدليل أن كثيراً من الراقصات المصريات يعمٌرن إلى ما فوق سن الثمانين ، عدا استثناءات غالباً هن المصابات أصلاً بأمراض تفضى للوفاة المبكرة والتي ليس لها أي علاقة بممارسة الرقص . وإذا أثبتت الدراسات العلمية  صحة ما يلحق براقصي الباليه من  أضرار وإصابات بدنية ففي اعتقادنا ينبغي حظر هذا النوع من الرقص ، أياً يكن جماله الإبداعي والدرامي ، أو دوره في الثقافة الإنسانية الراقية ؛ ذلك بأنه حينما تتصادم مثل هذه الثقافة مع حقوق المرأة وتخضع متطلباتها إلى استعباد هو شكل من أشكال الاستعباد الجسدي سواءً عند تأهيلها أو أثناء ممارستها لهذا الفن والتضحية بصحتها وطول عمرها الافتراضي  من أجله ، فهذا يتناقض ليس مع حقوق الإنسان عامةً وحقوق المرأه خاصة ؛  بل ويغدو الاستمتاع به والاصرار على استمراره ،  تحت أي مبررات شتى ، أشبه بالاستمتاع الاناني اللا إنساني والذي  يتساوى مع الاستمتاع بمشاهدة مباريات مصارعة الثيران الاسبانية التي تقتل أو تهدد حياة الانسان المصارع والحيوان البرئ على حد سواء . 

عرض مقالات: