في ارض الرافدين نمت اول سنبلة قمح ليعيش الانسان ويستقر وفي نهريها ركب الانسان اول زورق أسهم في الاتصال الاجتماعي والتجاري، وفي بلاد سومر اخترعت الكتابة لتؤكد حقيقة التاريخ. وبدأت عملية التدوين التي غيرت وجه التاريخ وتأصلت المعرفة وانتشرت الافكار وظهرت المبادلات التجارية والتعاملات الانسانية. ومن هذه الارض بزغت شمس التشريعات والقوانين المنظمة للحياة بكل تفاصيلها.
من المعروف ان ظهور المجتمع أقدم تاريخيا من تشكيل الدول كمؤسسة، كون الدولة نشأت في خضم التطورات الاجتماعية وبروز الانقسامات المجتمعية والطبقية، مما ادى الى صيرورة الدولة كتعبير عن مصلحة طبقة اجتماعية محددة، وفي مرحلة ما قبل نشوء الدولة كانت المحددات التي تنظم العلاقات بين الافراد والجماعات تتمثل بالتقاليد والاعراف التي ترسخت في البنيان الاجتماعي مما يعرض الافراد الى المحاسبة والعقاب الاجتماعي.
بعد تأسيسها نتيجة للصراعات الاجتماعية الطبقية اصبحت الدولة وحدها المسؤولة عن حماية المجتمع وهي التي تنشأ المؤسسات الناظمة للحياة والمجتمع، والتي تقنن العلاقات بين الافراد والجماعات.
ان انشغال الانسان العراقي القديم بموضوعة الحق ونظرية العدل ومحاربة الظلم وحماية المظلوم، وكذلك تعدد الحاجات نتيجة التطورات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ادى الى ظهور الرغبة الجادة والحاجة الملحة الى ايجاد التشريعات القانونية التي تنظم العلاقات بين ابناء المجتمع، وتعد تلك التشريعات بحق اول جهد انساني ظهر في تاريخ البشرية بصورة مطلقة، وانها جاءت تعبيراً عن عقلية ووعي الانسان العراقي في تلك المرحلة الموغلة في القدم بأهمية تحقيق العدل وصيانة الحقوق بالرغم من ان بعضها كانت تخالف العقل البشري، كونها انجازات بشرية اولية لم يسبقها عمل بشري بهذا الاتجاه، الا ان الامر المهم هو تأكيدها على اهمية العدل ومحاربة الظلم والانتصار للحق وترسم ملامح الحياة السوية والتأسيس للعلاقات الانسانية الايجابية، هذا من جانب ومن جانب آخر، ان المقصود العقائدي كان واضحا في شرائع العراق القديم كونها تستمد اصولها من الآلهة باعتبارها المصدر الرئيس للعدل والتشريع كما نراه واضحاً في مسلة حمورابي وهو يتسلم الشريعة من اله الشمس، وان اختيار إله الشمس فيه الكثير من الرمزية العالية كون الشمس تعبر عن الوضوح وتمثل الرؤية وتفتح الظلمة والعتمة.
ان الاصل في البناء الاجتماعي والتطور الحضاري وتنمية الحياة لأي مجتمع هو اقامة العدل وتحقيق الحق والى ذلك تنبه الانسان في بلاد الرافدين واهتدى الى صياغة القوانين التي تنظم العلاقات بين الافراد والجماعات في المجتمع السومري، فنجد الملك اوركاجينا ملك مدينة لكش والذي يعد اول مشرع في تاريخ البشرية. وتشير المصادر التاريخية الى اقامة العدل وأسس لنظام اداري وطرق جباية الضرائب وانشغاله بالإصلاحات الاجتماعية ومحاربة الظلم، وفي سلالة اور الثالثة شرع ملكها اور نمو القوانين المستندة الى مبدأ التعويض بدلا من العقاب، ونجد ان المبدأ في تشريعات مملكة اشنونا وكذلك في قوانين ملك ايسن في اسسها تشبه الى حد ما المنهج الذي وضعه حمورابي "مقدمة محتوى القوانين- خاتمة" بعد ان حقق الملك حمورابي وحدة البلاد اتجه الى البناء والاعمار وتشريع القوانين، وكان هدفه في ذلك مركزة سلطة الدولة على امة تضم مجاميع عرقية تتميز بتباين وتنوع قوانينها وعاداتها وتعدد آلهتها وتطبعها على الخصوصية.
ان شريعة حمورابي تعد بحق اهم التشريعات ليس في بلاد وادي الرافدين فحسب، بل على مستوى الحضارة البشرية، كونها تميزت بالتنظيم والصياغة والترتيب وأنها نسبياً شاملة لأحوال المجتمع رغم بعض السلبيات في بعض المعالجات. ان اهم ما يميز شريعة حمورابي وجود بعض المبادئ القانونية التي توجد في القوانين البشرية المعاصرة مثل مبدأ القوة القاهرة والاساس في ذلك ان الملتزم لا يعفى من تنفيذ التزاماته الا إذا أصبح هذا الالتزام مستحيلاً بقوة قاهرة، كما اشارت الى ذلك المادة (48) ونجد في المادة (53) مبدأً معروفا في أصل القوانين المعاصرة والذي يعبر عن مبدأ عدم جواز التعسف في استعمال الحق الضروري. ان الشيء الملفت للنظر ان بعض مفردات شريعة حمورابي تتطابق مع بعض الشرائع السماوية كالعين بالعين والسن بالسن، لكن هناك ثغرات وتناقضات والرغبة البدائية في إنزال العقاب الشديد وكذلك مبدأ اختلاف العقوبات بالنسبة لمراكز المجني عليهم الاجتماعية، وفي المحاسبة لبعض المهن كمهنة الطب ومهنة البناء" وكذلك المسجلين في الجيش الذي اسسه حمورابي، واخيرا فان مجموعة قوانين حمورابي تتألف من (282) مادة قانونية ونحتت على لوح طيني يظهر حمورابي وهو يتسلم القوانين من آلهة الشمس المعبرة عن الوضوح والرؤية.
---------
(1) طه باقر "مقدمة في تاريخ الحضارات" ص254- 282.
(2) جورج رو "العراق القديم" ترجمة حسين علوان ص250.

عرض مقالات: