باستذكار شيء من ماضي العراقيين، ماذا كان يعني استدعاء مسؤول في الدولة إبان حكم نظام البعث؟ وماذا يعني أن يطرق أحد الـ (رفاق) باب الدار مبلغا أن؛ (فلان يتفضل يمنا بالفرقة)؟ ومايعقب هذا التبليغ قطعا لم يكن تكريما او احتفاءً، كما أن الغرض منه ليس الترفيع او العلاوة، إذ تنتظر المسكين دهاليز وظلمات قلما يخرج منها سليما معافى، وان خرج فلإيصال رسالة للذين في الخارج عن هول مارأى وماحصل له، وبهذا يكون درسا لهم في تفادي كل ما من شأنه التقرب من الجلاوزة وأزلام النظام. والحمد لله الذي منّ على العراقيين وزالت (الغمة من هالأمة).

 فمنذ عام 2003 لم يعد الاستدعاء يخيف أحدا من موظفي الدولة ومسؤوليها، سواء أمقصرا كان في واجباته ام لم يكن! إذ بات طبيعيا ان تشرق الشمس على العراقيين بنشرات اخبار يومية، يتصدرها نبأ صدور عدد من مذكرات استقدام او استجواب بالجملة، بحق وزراء ونواب ورؤساء وأعضاء مجالس محافظات ومديرين عامين، والبقية حتما تأتي. بعد ان باتت لعبة سحب الثقة (أعتگ من لعبة جر الحبل)، فمحافظات الإقليم كانت في وقت مضى تسحب صوب الشمال، وآخرون يسحبون صوب الجنوب، ومن الأنبار هناك من يسحب (غربي) ومن ديالى (شرجي) ومن المحتمل ان يستحدث أحد الشرفاء الـ (فلتة) جهة خامسة وآخر يبتكر سادسة، وهم كلهم موهومون، إذ يخالون الثقة حبلا مطاطيا يستطيل ويقصر حسب الطلب والحاجة والمصلحة والنية. الأمر الذي  أوصل الفرد العراقي الى قناعة بعد يأس ان الثقة مصطلح ديناصوري، يتعذر وجوده في القرن الواحد والعشرين في رقعة جغرافية كالعراق، هذه الرقعة التي كانت مهد الحضارات، وشهدت ولادة باكورة العلماء، وأسست فيها أولى الجامعات في العالم.

 اليوم وبفضل ساسة أنصاف الكُم، او بمصطلح أجمل بلهجتنا العراقية؛ (نص ردن) أضحت هذه الرقعة من الكرة الأرضية أكاديمية عليا، يتخرج منها السراق بشهادات وامتيازات وكفاءات عالية، بفنون السرقات والتزويرات وألوان الكذب والخداع، بتزكية من المافوق، وتأييد من المادون، وتبريك مما بينهما، متذرعين بحجج دامغة، متدرعين بأغطية مستجدة صنعوها على مقاساتهم، منها أولا الدين، وثانيا الحصانة والمنصب، وثالثا الكتلة والحزب، ورابعا الطائفة والمنسوبية (غير المحسوبة) والمحسوبية (غير المنسوبة) ويطول العد والحساب إلى ما لاتحمد عقباه. وعلى مايبدو ان الموضات الحرباوية والموديلات المتلونة، هي اللباس الذي يرتديه الساسة بانتقاء ذكي، فهي ليست لتغطية بهلوانياتهم على الساحة السياسية للبلد فحسب، بل أنهم سخروها في استباق المساءلات باستحضار الإجابات بقوالب جاهزة، حتى أنهم حصروا من يستجوبهم بخانة الأسئلة المتفق عليها مسبقا، ولايجيزون له الاسترسال والتشعب والتفرع بها، ولم يقف التأثير على صيغة الاستجوابات وطريقة طرح الأسئلة عند هذا الحد، بل طوعوا نتائجها والقرارات التي تتمخض عنها وفق ما يرتأون، ولنا في ذاكرتنا مايسجل هذا بالصوت والصورة والرائحة والطعم.

أما المصوتون طامة برلماننا الكبرى، فهم يرفعون النقاط عن الحروف ليزيدوها ضبابية، وعليهم تقع مسؤولية الانحراف عن جادة الصواب والعدل، إذ أن تصويتهم يخلط حابل الاتهامات بنابل التملصات، ويدير بوصلة الحقيقة صوب التمويه، فتضيع حقوق، وتتبدد استحقاقات، وتختفي سرقات، وتمحى ذنوب، وتبيضّ وجوه سود، وتسودّ صفحات بيض، فيخيم الباطل بثقله على البلاد برمتها، وينزوي الحق خائفا مذعورا في أركان برلماننا العتيد، فيما ينادي رؤساؤه المبجلون بدوراته الأربع: “قل جاء الباطل وزهق الحق إن الحق بات زهوقا”.

عرض مقالات: