حين يحل شهر ديسمبر من كل عام ، نجد من أوله فرقة ادبية - شعرية  تُمارس ( مهنة ديسمبرية) مكررة . مهنة الكتابة اللجاجة ، عن شيء من اشياء شعر السياب المنشورة سابقاً ، في غالبها ، سواء في حياة الشاعر او بعد رحيله في ٢٥ /١٢/١٩٦٤ لكن الشعراء و النقاد والكتاب الديسمبريين يتجاهلون  البحث العميق في إرث الشاعر و في انقلابات حياته وصراعاتها ، التي ما زالت بحاجة الى مصابيح النقد و البحث العلميين لإضاءاتها . 

نعم .. نجد بتلك المقالات محاولة عاجزة عن ولوج الأدب العربي ، الشعري، الضخم ، المنجز من قبل الشاعر بدر شاكر السياب . 

يوم امس قرأت  مقالة على الفيسبوك عن  الشاعر العراقي بدر شاكر السياب  و بالذات عن قصيدة المطر . المقالة ليس فيها صحة جيدة ،   لذلك  وجدتها من صنف لا يلفت اليها الأنظار او الرغبة بالقراءة .  وجدت المقالة بكل سطورها لم تستيقظ على شيء ٍ سياسيٍ جديدٍ بفجرٍ ديسمبريٍ جديد ، ديسمبر الكومبيوتر و الانترنت و البحث المكَوكَل ، بالعربية وباللغات العالمية كلها، وجدت انها  لا تلفت اي انتباه لدى القرّاء الجادين لأن  ليس بين سطورها اي أثر من آثار   التحليل النقدي و السلوك الأدبي الحضاري   لإشعار بدر السياب . ليس  في هذه المقالة اي  محاولة جادة  عن أي وجه من  أوجه الارتباط ، الفردي  او الجماعي،  بين الشاعر و المجتمع ، بين الشاعر و طبيعة الناس بالمجتمع ، بين سلام الناس و آمالهم  بما يجعل الأجيال الأدبية ، الحالية و اللاحقة  ، في حالة من التحدي لمعرفة التاريخ   الشعري العراقي مقترناً بأنشطة الراحل بدر شاكر السياب، خاصة وان  كل صاحب دراية شعرية في العصر الحديث  يعرف ، تمام  المعرفة ، ان بدر السياب هو راعي التجديد في الشعر العربي وان مبادراته الرائدة ، منذ أواخر أربعينات القرن الماضي  قد جعلته و جعلتنا ، نحن الأدباء العراقيين،  نحس احساساً متفوقاً بالسمو الشعري و الرفعة الشعرية بهمة و إنجازات احد شعراء العراق . 

حين انتهيتُ  من قراءة المقالة المنشورة على صفحات الفيسبوك  وجدتها تحمل اسم شاعر من الشعراء العراقيين  ممن يمارس الكتابة الصحفية ، ايضاً.

لم يراقب هذا الكاتب نفسه و لم يرصد اعتدال او عدم اعتدال ما قدمه لقرائه من أفكار  عن شعر السياب . في الحقيقة انه لم يقدم ( افكاراً) بل قدم فكرة واحدة  تخلو من  إقرار عميق عن دورها و عن أهميتها . لو ان هذا الكاتب اتخذ من ديسمبر مناسبة للتذكير بالسباب ولو بفكرة واحدة جديدة من شعره و مجهوده في التحرر الشعري او في التنبؤ الشعري لربما كان يفعل ما هو حسن و مناسب  ولابد إذن بعد ذلك ان ينال استحقاق الشكر و العرفان  . 

لم يكتب احد من هؤلاء عن النتاج الشعري السيابي الضخم ، الذي ظل ( يتيماً) في العراق و في طول الوطن العربي و عرضه . يصول فيه لصوص دور النشر العربية في القاهرة و بغداد و لبنان و غيرها اذ لا يحترمون الكلمة ولا يحترمون حقوق قائلها او كاتبها او شاعرها. صار هناك الكثير ، في عصر الفوضى العربية، يقومون بنشر دواوين الشاعر بدر شاكر السياب من دون القيام بواجب دفع حقوق النشر والتوزيع ، غير ان هؤلاء اللصوص يريدون العيش و الثراء على حساب الارث السيابي اليتيم ، الذي لا تدافع عنه دولة و لا مؤسسة

يظل عجبي ، كل عجبي، بأولئك الكتاب الذين  يجدون ان حظهم الشعري و النقدي هو الانتماء الى شاعر ميت. الشاعر الميت لا يستطيع الدفاع عن نفسه و ربما وارثيه لا يستطيعون ، ايضاً. هكذا تضيع الحقوق في بلاد العرب ضائعة مثل اي هبة مجانية يعلنها واحد من اصحاب البساتين   عن مجانية قطف التين من بستانه والتمتع بأكله من دون ثمن .  ذات مرة من المرات عام ١٩٨٢ كلفني نسيب الشاعر السياب ، الاستاذ فؤاد عبد الجليل،  بالتحدث الى مدير عام ( دار العودة) وهي دار النشر الوحيدة في لبنان ، التي استعبدتها عادة نشر  المؤلفات الشعرية للشاعر السياب  . فاتحته بالفعل اذ كانت تربطني معه علاقة صداقة متينة  باعتباره ناشراً لبنانياً وباعتباري ناشراً عراقياً.  بعد ايام قليلة ، قدم لي اعترافاً مكتوباً ، قدمته بدوري الى الاستاذ فؤاد ، الذي لجأ الى وزارة الاعلام العراقية بتلك الفترة لاستئصال الحقوق من دار العودة  التي أعلنت ان مجموع حقوق نشر دواوين بدر شاكر السياب هي ٨٠٠ دينار عراقي ، بما يعادل ، آنذاك، حوالي ٣٠٠٠ دولار .  كان هذا الاعتراف  قد كشف لي عن عينين باردتين حيث لم تعتمد تلك الدار في حساباتها على أي قاعدة حسابية تأسيسية لأن هذه الدار كانت قد نشرت جميع اعمال بدر السياب،  لعدة مرات ، خلال ما يقرب من عشرة أعوام متتالية  .

نفس عملية السلب شملت مؤلفات الدكتور علي الوردي  فقد  كلفني ، بنفس الفترة تقريباً، الصديق الدكتور ( الطبيب) حسين الوردي بالتوسط و المتابعة مع دار نشر لبنانية - بريطانية كانت قد نشرت  عشرة مؤلفات لأبيه ، عالم الاجتماع ، الدكتور علي الوردي بهدف الحصول و لو على جزء معقول من  حقوق نشرها. قمت بمهمة الوساطة فعلاً وقد أجابني  صاحبي دار النشر اللبنانية – البريطانية ان مجموع الحقوق ، حتى ذلك الحين، بلغت ٧٠٠ دولار تم دفع ٢٠٠ دولار منها الى الدكتور الوردي نفسه حين كان بزيارة طبية الى عمان قبل رحيله . قدمت التقرير او المعلومة الحسابية الى ولده الدكتور حسين فأعلن عن رفض بات لحقيقة الحسابات المذكورة . أيدته بهذا الرفض ، ثم اخبرني ان جميع ورثة الوردي عازمون على اللجوء الى القضاء .  

كثير من الكتاب  الساذجين يظنُّون أنفسهم شعراء موهوبين وان أشعارهم متأصلة  باللغة،  التي يكتبون فيها وربما يظنون اكثر من هذا الظن . ربما يعتقدون انه حان الوقت لتدريس أدبهم و أشعارهم ، المكتوبة عن السياب،  في كثير من المدارس و الجامعات العراقية ، خاصة بعد انتشار ظاهرة تأسيس الجامعات الأهلية غير الخاضعة فيها الدراسات و المحاضرات الى معايير العلوم الأدبية . 

أقول ،  أولاً ، ليس هذا ( الشاعر - الناقد) هو اول من يكتب ، بسذاجة، عن بدر شاكر السياب . كثيرون من مستواه قاموا و يقومون بإجراء جرد ساذج وتقييم ساذج لإنجازات الشاعر بدر شاكر السياب من دون محاولة التخلص من سذاجتهم ، منذ بداية مقالاتهم الى نهايتها . ليس بمثل تلك الكتابات اي منظور تاريخي و لا حتى اي منظور افتراضي

استخدمتُ ، في ما سبق من الحديث، كلمة (ساذج و سذاجة) لأنني وجدت بهذا الاختيار شكلاً من أشكال  تجاوز العرض و الحوار اللذين قد يسيئان الى المعروض و المتحاور عليه . 

اقول ، بصراحة، ان ليس في  المقالة المشار اليها و لا في غيرها من  مقالات ( السذاجة) أو مقالات  ( المجاملة) اي فكرة شعرية طيبة او جديدة ، انما توجد أفكار جانبية  تزعم  ريادة  بدر شاكر السياب في الشعر الحر  وهو امر  مكرر ، كما في القول ان  كوكب الارض  يدور حول الشمس . بل بإمكاني القول ان بعض الشعراء يكتبون مقالات عن بدر السياب ليس فيها غير أقوال و مصطلحات عمومية،  ليس فيها اي تحدي من التحديات الشعرية الواقعية و ليس فيها اي اكتشاف شعري جديد  و ليس فيها اي أطروحة ممنهجة عن شعر ما قبل السياب او ما بعده . باختصار اقول ان مثل تلك المقالات تستهدف أولاً و اخيراً ليس تعظيم شاعرية بدر نفسها، بل  محاولة في تعظيم شاعرية كاتب المقالة نفسه.  تستهدف ، أولاً و اخيراً، ليس رفع مكانة شعر بدر السياب ، انما لرفع مكانة شعر كاتب المقالة او نثره . اًنها محاولات تبدو فاضلة او تبدو انها نزعة طبيعية ، لكنها لا تخلو من نوع من انواع الانتهازية يمكنني  ان اطلق عليها اسم : ( الانتهازية الشعرية) . بمعنى ان كاتب المقالة المصطنعة ، المكررة لأقوال عن شعر السياب او عن حياته او عن معاناة أمراضه مهما كانت بارعة فأن قصد كاتبها هو الظهور  بمظهر العارف بالتجديد الشعري و العارف بقوة أشعار بدر السياب ، التي أوحت لمن جاء بعده نور الخلاص من عتمة الشعر العربي و قيوده بتلك الفترة من فترات  وجوده المقيد

الانتهازية الشعرية تكشف لنا و أمامنا شيئاً واحداً فقط ليس غير . الشيء الواحد هو حقيقة ان مئات المقالات تملأ الصحف و المجلات عن بدر شاكر السياب ليس فيها جمال و لا ابتكار و لا امتياز و لا موهبة . هؤلاء الانتهازيون  في الشعر العربي، المتاجرون ، من دون استقامة ، بمواهب السياب نفسه

كذلك فان  ( الانتهازية الشعرية) لا تفعل شيئا بمجهوداتها غير تكرار بعض الحكايات عن  الشاعر العراقي المجدد لأصول الشعر العربي . انها حكايات مقتبسة من  فولكلور  شناشيل ابنة الجلبي او من قصيدة أنشودة المطر او من  أساطير متعددة عن ولادة الشاعر في قرية جيكور او من دراسته اللغتين العربية و الانكليزية في كلية التربية ببغداد او من زواجه من السيدة إقبال او وفاته في الكويت كل هذه المعلوماتية السيابية غدت متوفرة بمختلف الأساليب المتناقلة بين مختلف الأجيال الشعرية .  

اللامبالاة  بجوهر المناسبة الصارمة 25 – 12 – 1964  في رحيل الشاعر السياب ما زالت مصممة بدورها السلبي المتهافت ، لا ينتج منها غير ألكم الأكبر من ( الانتهازية الشعرية ) لأن القليل  جداً من الباحثين السيابيين يحاولون الغوث في الأبجدية الشعرية السيابية ، لكن ليس من دون قفز بعضهم فوق منجزات بدر الشعرية .  في يوم وفاة الشاعر كنت سجينا في نقرة السلمان مع آلاف السجناء الاخرين.  ظهرت سيماء الحزن على اكثرنا ، لكن حدث نكوص عن مواكبة رحيله لأن اغلب السجناء كانوا يعتقدون انهم ضحايا أصحاب بدر شاكر السياب من البعثيين و القوميين. كان سجين واحد فقط ( عبد القادر العزاوي)  قد انتحر بطريقة غريبة استطاع الأطباء السجناء من انقاذ حياته.  

كان بدر شاكر السياب قد بذل جهداً كبيراً في حياته من اجل ان ترتقي القصيدة الشعرية العربية الى مستوى أكثر تطوراً وأكثر تنظيماً وأكثر مواكبة للقصيدة العالمية ، حيث تغلبت عليه حالات كثيرة من فوضى الحياة و من التقلب السياسي والأيديولوجي ومن معاناة القلق الشديد ومواجهة المرض الشديد الذي أودى بحياته بعمر مبكّر . كل هذا يستوجب مواصلة البحث عن كل جزيئات حياته و افعاله وإنتاجيته ، الى حين يتمكن القرّاء و الشعراء و النقاد ان يفهموا كل مواقف اجتهاداته و معرفة عالمه الشعري و نضاله في حياته . 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 20 – 12 – 2018

عرض مقالات: