ان بطء اجراءات النظام الجديد و اهمالاته و قصور من تحمّلوا المسؤوليات التي تسببت بتوالي فصول الفوضى والحيرة والأجراءات المتناقضة وانواع الخلافات والصراعات سواءً بين القوى العراقية ذاتها اوبينها و بين الأقليمية والدولية، او فيما بينها على التوالي .  .  اوقع اوساطاً واسعة في متاهات حياتية و فكرية لم تفكّر بها او تتوقّعها، او لاتستطيع معرفتها، الأمر الذي شجّع فلول صدام و ورثتهم ومجاميع الأرهاب سواءً العراقية منها او التي اخذت تتوالى من خارج البلاد، من تنظيمات الأرهاب الأصولي الى القاعدة و داعش الى الأخرى المتنوعة، التي اخذت تطغي على قوى عارضت الأحتلال حينها و اخرى سعت الى مقاومته كرد فعل اوّلي طبيعي .  .

بعد ان تزايد اليأس من تصديق الوعود و الاكاذيب، و ازداد التمسك بالمقدس صانع الحلم، منذ تنصل الرئيس الاميركي بوش الاب عن وعوده للمنتفضين ضد الدكتاتورية في انتفاضة آذار 1991 ثم تركهم عراة امام ماكنة القمع التي انزلت بهم اجراءات دموية قاسية طالت عشرات الالوف، ثم : الحصار، الحرب الخارجية و الاحتلال، المحاصصة الطائفية العرقية التي لبس الفساد لبوسها و انطلق بشكل خطير .  .

ليتركّز التناقض بالنتيجة على الصراع بين نشوء دولة المؤسسات البرلمانية الفدرالية من جهة، وبين المعسكر المعادي لها المعتمد على المحاصصة الطائفية و الإثنية و الفساد و على الجريمة والأرهاب الذي اطال باعماله الأجرامية بقاء القوات الأجنبية حينها، ليتخذها ذريعة لمواصلة وتصعيد اعماله السوداء والدعوة لتحقيق غاياته، في ظرف فشل جهود إعادة بناء الدولة وقواتها المسلحة وقوى امنها وشرطتها، اثر حل مؤسسات الدكتاتورية، اضافة الى عدم كفاءة من تولّوا مسؤولية ذلك . 

وعلى ضوء تزايد التشوّهات وانواع التعقيدات والمخاطر آنفة الذكر، يرى عديد من المختصين وذوي الخِبَر، ان مواجهة التحديات القائمة لابدّ وان تجري بجهد و نشاط فائقين على محورين متلازمين ؛ محور المجتمع ومحور الدولة، اللذين يحتويان كل المحاور والنشاطات الفاعلة الأخرى. وعلى اساس مواجهة ركائز المجتمع المشوّه؛ منظومات مافيات الجريمة والسوق والسلاح، الغنية المدرّبة الممتهنة، التي راكمت تجارب وخبرات متنوعة وفّرتها لها حينها سلطة الدولة التي فقدتها و السلطات التالية، التي ولّدت داعش بتلاقي ارادات متنوعة غايتها الارباح الانانية و التحكّم، اضافة الى امتداداتها الأقليمية والدولية التي لاتستسلم بسهولة.

و يرون ضرورة تنويع طرق واساليب مواجهتها على اساس حساب التناقضات والمواقف المستمرة في التغيّر، واختفاء وظهور تناقضات جديدة افرزها عقد و نصف باحداثه الناجحة و الفاشلة منها، التي تتطلب بذل جهود دستورية و قضائية مسندة بقوة حكومية قادرة لدولة قائمة فعلاً و انهاء حالة اللادولة، الى التلبية العاجلة لمطالب القسم الاكبر من الاوساط الكادحة من اجل حياة انسانية  كريمة، على ان لاتكون على اساس عودة مجرمين وقتلة من فلول صدام و داعش و ميليشيات وقحة وغيرهم الى مواقع في الحكم .  .  من اجل حصر دائرة المجرمين فعلاً، في جهد لمواجهة نشاطات تهدف الى  تحويل العراق الى ساحة حرب دائمة ومستنقع دائم للجريمة والعنف والسوق السوداء والمخدرات  .  .  من جهة.

وعلى اساس، فهم ان سقوط صدام و تواصل الإرهاب قد فجّر الطاقات المكبوتة باشكال تعكس ردود افعال اوساط كبيرة وكونها وليدة الظلم والأقصاء والتشوّه الذي دام عقوداً من السنين، ردود افعال  تتدرج من العواطف المتأججة الرافضة ذات الطابع العدمي، اللاهوتي والرامي الى تعويض مافقد اوما فات عليه، الى الحيرة التي غالباً ما طغى عليها الذهول والقلق من ان ما جرى قد يكون امراً عارضاً وليس ثابتاً !

الأمر الذي ادىّ و يؤديّ الى ان تصيغ اوساط واسعة في ذهنها، صورة البديل وفق البحث عن حلول لمعاناتها اليومية و اجتهادها مما تراه ومن الموجود والمحيط بها او من الذي يُنتج لمحاكاة وعيها المشوّه القاصر الذي فُرض عليها من سيادة وذهنية اوساط القاع الذين لايزالون يحكمون، وسلوك القاع الأجرامي و العنف الذي فرضوه على المجتمع بسبب قصورهم ووحشيتهم وظلمهم، بعد اختفاء الطبقات والفئات الوسطى وحضورها وطموحها وتأثيرها الذي ادىّ الى تحويل المجتمع الى اثرياء متخمين شاكيّ السلاح برايات الطوائف ومعدمين محرومين عزّل من كل الطوائف . . 

والى تواصل صدامات الثأر بين مالكي القوة القدامى وحاشياتهم من الذين صاروا يرفعون الرايات الطائفية، وناشدي القوة المنوّعين الجدد، الذين اسرعوا للأنضواء تحت براقع المحاصصة ثم براقع معاداة داعش و المتمسكين بالمحاصصة عارضين امكاناتهم، للحفاظ على ماغنموه و ما يعملوه للحصول على غنائم جديدة اكبر .  .  من جهة اخرى .

في وقت تستمر فيه المعاناة والآلام بسبب الأرهاب الوحشي و الأرهاق والقلق بسبب انقطاع الماء والكهرباء والبطالة واستمرار غلاء الأسعار، التي تستمر في تكبيد الجماهير و خاصة الشباب من الجنسين خسائر مادية ومعنوية، فكرية ونفسية، رغم انجازات و تغييرات. يرى فيها محللون انها اضافة لكونها نتائج حكم الدكتاتورية البائد و داعش، هي من نتائج قصور مواجهة مجتمع الجريمة التي تطعمت بخبرات خارجية اضافية جديدة، و من اخطاء الحاكمين و فشل القسم الاكبر منهم و تزايد الفساد والمواقف الدولية المتغيّرة وفق مصالحها المتغيّرة تكتيكيا وستراتيجيا .  .

الأمر الذي يؤكّد بتقدير عديدين، ان التحوّل من مجتمع الدكتاتورية والجريمة والرعب الى مجتمع جديد ودولة برلمانية فدرالية حديثة، يتطلّب تحولات ثابتة بتحقيق مطالب الفئات الاوسع اولاً، و على ضوء الواقع المعاش و  حركته، تحولات صارت تتطلب البدء الفوري بتقديم المسؤلين الفاسدين الكبار الى القضاء العلني كما تطالب الاحتجاجات الجماهيرية المتواصلة، و انزال اقصى العقوبات بهم و تعويض المتضررين، على اساس  الحفاظ و تطوير و تقوية حكم المؤسسات الدستورية .  .

التي تتطلّب القيام باجراءات استثنائية يُتّفق عليها ويصادق عليها دستورياً بعد تطوير الدستور استنادا على روح صياغته، ويجري تضمينها بالملموس في قوانين الزامية، و على رأسها قانون حماية الهيئات المستقلة من نيران المحاصصة  .  . من اجل التقدم على طريق التحوّل المدني، اجراءات تحتوي على شدة دفاعية في مواجهة العنف الدموي المجنون الذي تتبعه انواع العصابات و الميليشيات بانواعها و حلّها و تجريدها من السلاح و حصره بيد الدولة.

وعلى اساس اصلاح النظام القانوني واحترام استقلالية القضاء .  .  في مجتمع عليل تشوّه، يطالب افراده بالأخذ بيده وحمايته وقيادته، وباشراكه وتوعيته بان الدولة ومؤسساتها من حقّها ان تدافع عن نفسها، وتفرض هيبتها انطلاقاً من كونها، جاءت بتصويت الشعب، وان الشعب لن ينتخبها ان لم تحقق له مطالباً على طريق الأمان والرفاه .  . 

ويتطلّب مكافحة شبكات الجرائم المنظمة بيد من حديد : جرائم القتل على الهوية، الأختطاف والأبتزاز، السرقات الكبيرة والنهب المنظّم .  . الشروع ببناء اجهزة متخصصة لمواجهة كلّ حقل اجرامي سواءً من وريثي اجهزة الدكتاتورية البائدة و داعش و الجدد بعد سقوطهما ( المقاولات، عقود الملكية المنقولة وغير المنقولة، شبكات ضباط امن الدوائر، المخدرات و الدعارة التي كشف نوّاب تقاسم الميليشيات ارباحها من النوادي الليلية و المواخير) والعمل على تفتيتها بكل الطرق ووفق خبرات المعاهد الدولية لمكافحة المافيات وبرامجها ووحداتها الخاصة، اضافة الى دور ووسائل الأصلاح .  .  مكافحة تجارة الرقيق الأبيض وتهريب السلاح والنفط، والتوصّل الى عقد اتفاقيات على الصعيد الأقليمي والدولي، لتحريم تلك المتاجرات الأجرامية، و تحريم اتخاذها كوسائل للتأثير على عمليات حل الخلافات الأقليمية والدولية ومن اجل اطفاء بؤر التوتر، ووضع صندوق من الدول المتضررة اساسا لتمويل نشاطات المكافحة والأصلاح في تلك الحقول. 

ومن اجل ذلك يؤكّد العديد من الخبراء والمراقبين، على الأهمية الفائقة لتسليم الملف الأمني الى مستقلين وطنيين كفوئين و نزيهين ممن هم بعيدين عن تحكّم التأثير الخارجي و خاصة الأميركي و الإيراني .  . ويؤكدون ان مستلزمات الملف المذكور، اضافة الى انها عسكرية اقتصادية اجتماعية، هي سياسية، امنية، فنية ودبلوماسية . .

وسعياً على ذلك السبيل، يؤكّد عديدون على الضرورة الفائقة للاصرار على الجهود الرامية الى بناء الموقف الوطني وزيادة ثقله، واتخاذ السياسات والمواقف الساعية الى حل المهام الوطنية (العراقية)، التي يفرضها منطق ان الشعب صوّت للحكومة على ذلك الأساس الدستوري. الأمر الذي يتطلّب مبادرة كبار مسؤولي الدولة الى توضيح ماهية المصلحة الوطنية في القرارات التي تصدر بشأن قضايا شائكة، قد تثير حساسية او التباس.

                 وفيما يتطلب الواقع تعاون الجميع من اجل عودة الروح وانعاشها في البلاد، والنجاح في مهمة جمع اشلاء الذات البشرية بعد ان أُجبرت على الركون و(قبول) سلوك الظلم بحقها وكبت التحديّ، الذي تحوّل و يتحوّل الى انفجارات اجتماعية شجاعة نفّست ولم تأتِ ببديل للاسف، بعد ان تراجع الفكر الأجتماعي امام حد الظلم الطاغي المنفلت وحجم تكنيكه الفائق، وحافظ على حدود للوجود تتجمّع حول الأنتماء للأهل والعشيرة والدين و الطائفة والقومية، بدرجة مستوى حمايتها للذات البشرية من تلك المخاطر .  . (يتبع)

عرض مقالات: