لا تمر الوقائع على الانسان يانعة ، دائماً،  و لا   يكون ورقها  اخضر ، على الدوام.  الصعاب هائلة أو  كثيرة امام كل إنسان ، خاصة الانسان العراقي ، كما لا يوجد طريق في مسيرته ، بلا  دجى ، خاصة اذا ما كان طريق المسيرة مليئاً بالسياط  البعثية الأشد سواداً   وإذا كان  قلب المظلوم   متيقظاً امام حاكم،  ظالم  ، في زمانٍ ضامرٍ مليءٍ بضحايا الحروب والاعتقالات والاغتيالات  والانتحارات  .  

صارت انفاس احد أصدقائي العراقيين في هولندا واسمه (رحيم  خير الله ) متزلزلةً بالفرحِ و السرور،  فقد عاد الدهر ، من جديد  كي لا يضاهيه فرح ،  ملون،  ثمين،  آخر،  لأن ابنه الأصغر سيضع على صدره ، في يوم قادم  من الأسبوع القادم  ، إشارة بهية توجه الجميع الى ان اسمه ( هاني رحيم  خير الله ) قد  اصبح مسبوقاً بكلمة    (دكتور ) . هذا الأسم  العراقي صار  محمولاً  بكل المستشفيات الهولندية ، حيث يكون هاني بن رحيم ،  بارقاً من بيارق أطباء هذا العام ، متخرجاً من كلية الطب الهولندية في جامعة لايدن .

هكذا انفجر السرور و الحبور بوجه صاحبي . حلم  جديد من أحلام نهر دجلة يغدو حقيقة واقعية في مدينة لاهاي الهولندية .بورك السرور العراقي  الناطق بالحق و الاستحقاق ،  وبورك  العِلمُ الهولندي الساكن بالاختبار و الاجبار.

ربما تكون احلامنا خيراً ، ربما تكون شكوى ، وفي مرة اخرى تكون الاحلام رغبة الخلاص من بلوى،  وأحياناً تتجسد في نظرة .  لكن احلام الانسان الشيوعي، دائما،  هي (بشرى) ،   بالرغم من  ان الطريق الشيوعي ، صعب و طويل ، وعلى جانبيه صواب واخطاء في اليقظة وفي حالة  النوم و في مزاج الانفعالات  داخل تفاعل  العوامل الطيبات .صفّق الأب (رحيم )لأبنه (هاني)..  تلقى الأبن الوفي ، توصية الاب:

  •  كن نصيراً عميقاً للفقراء .. كن طبيباً لكل مريض ..جهز حملتك ، من الآن، كي تركل ، بعلومك  كل أنواع الامراض..  حقق يا بني احلامي  . 

منذ زمن العقود الخمسة الماضية من سنوات شروق الشمس العراقية القاسية،  في حرارتها  و في عطائها ،   تيسرت منحة شعبية ، تربوية،   في مدينة عمالية - كادحة اسمها البصرة ،  حيث ولد  عام 1954  بدر من بدورِ الأخلاقِ الرفيعةِ و الاريحية العالية،  إذ صار الشاب ، الكادح ،  الوسيم  ، العليم ( رحيم خير الله  )  بدراً مناضلاً  ، داخل  أفق النضال الوطني  و تحت راية الحزب الشيوعي العراقي،   خلال فترة  سبعينات القرن العشرين ، حال ، استشرافه حلقات و منابر (اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية)  ،  المقرون بامتداد جاذبية الاقحوانة الطلابية في ساحة السباع عام ١٩٤٨  .

نشأ  ، هذا الشاب   بين موجات  شط العرب في البصرة و دجلة بغداد و فرات الناصرية   متحمساً  للنضال و مستعداً  للتضحية ،  مُذ كان  يعيش كادحاً في ايام  ملمات الحياة القاسية و معضلاتها بالبصرة   ، في محلتي الرباط و الخندق،   ثم في محلة (الجمهورية)  ذات الفقر و البلاء ، بمدينة لا تنعش الا الفقير  بالقليل من اليسير ،  الكسير،  في خبزها اليومي ، بما يسد الرمق ،   في كوخ من أكواخ الناس الكادحين او في بيت صغير من بيوت يدخلها ضوء شمس مدينة لا ترى (الهلال) في الليل  ،  لكنها  مدينة مهذبة لا تخشى العزم و العواقب ، تسمى  ( البصرة  ) حيث فيها مضيئات   الأفكار الحرة بدءاً من  محلة  ( العشار) المعروفة   ميادينها بأجود البيان و  ساحاتها بأرقى المعاني . فرشتْ نفسها ، ذات يوم،  أمام  مناضل متفجر بأفكار الحرية و الشيوعية،   اسمه (يوسف سلمان يوسف) فاعجب بها  . كان  له فيها، بيت  عائلي ، بسيط ، وروض اخضر واسع يردد ، سراً و علناً ،  ( وطن حر و شعب سعيد).  وصل صدى هذا القول و المقال الى الشاب (رحيم خير الله )  مبشراً إياه  بسرور الانتماء الى فضيلته الكبرى بنيل الشرف العظيم ، شرف عضوية الحزب الشيوعي و الانغماس ، كلياً ، في هوى  النضال الشيوعي  ، حاملاً شعلته الى الأبد.  .

صار الشاب ( رحيم)   متحمساً للنضال ، نجماً من نجوم السعد ، ،متأهلا ً ان  يرتقي الى دنيا عضوية   الحزب الشيوعي  ، و النضال تحت راياته،  مهما كانت تضحياته . كان هذا الشاب الكادح  يحلم ان يكون (طبيباً)  يعالج  المرضى الفقراء  بالمجان . ظلت انفاسه تتصاعد و تتنازل في امتحانات  المرحلة الإعدادية، التي تؤهله الدخول الى كلية الطب إذا ما نال درجات الامتحان الكاملة ، من دون نقصان  .  غير ان نتائج الامتحان  لم تزف له بشرى الصعود الى (كلية الطب)  ، ليتخرج منها (طبيباً) محققاً حلم طفولته الأول  ، فقد كانت درجاته لا تؤهله الا ان يحمل لقب (معاون طبي)   لإطفاء نيران الأمراض في اجساد الناس  الفقراء  و الأغنياء. بذات الوقت تنادى  بفكره  وتهادى  بعينيه  نداء شيوعي اصيل هو : كيف تكون شيوعياً أحسن ..؟ 

تحرك الرصين بقلبه ،  الحزين  بضميره، منذ ذلك اليوم ، كي يجعل مبادئ الشيوعية درراً  سلوكية ثمينة  وأن يكون المناضل الشيوعي  إنساناً ماجداً ، متخلقاً، حريصاً على خدمة الشعب و التضحية في سبيله .

في طرفة عين أنهى دراسته بمعهد الصحة العالي  بمنتصف السبعينات الماضية  . ما أتيح لموهبته  الصحية ان تنتظم بمدينته ( البصرة)  انما ،  في قرية من قرى أهوار الجبايش، بمدينة الناصرية  . انتظم فيها مسروراً بلجنة حزبية شيوعية قيادية ، كان فيها رضيع أفكار  اتحاد الطلبة و الحزب الشيوعي ،  مغتبطاً بجاذبيِةِ نضالهما بالرغم  من اقتران النضال المعارض  لسلطة  ذاك الزمان  بالقمع البوليسي ، الوحشي، تحت اوهام وادعاءات الحزب الحاكم  بكونه حزب البعث والحريّة  و الاشتراكية

كان وجود الشاب الشيوعي ، (المعاون الطبي)  في أهوار الجبايش لا يخلو من سرور  فقد اصبح بمشاعر إنسانية متكاملة تدفعه الى توعية إنسان عراقي من نوع خاص  ، إنسان الاهوار ،  الأكثر صبراً و بؤساً في مسافات بعيدة ممتدة ، بقسوة بالغة ، بين المدينة و الريف ، وصولاً الى خير المياه في قلب الاهوار العراقية ، حيث قاع المجتمع وآخر محاريبه  .  كان مليحاً بطبعهِ وكريماْ في مضامينِ علاقتهِ بالناس الآخرين وموهوباً بمعالجة أمراضهم و العناية الاخلاقية المهذبة بواقع حالهم وأوضاعهم المزرية ، حتى استطاع كسب محبتهم و احترامهم  ، صار منهم طرفاً ، لا يستغنى عنه،  من أطراف حياتهم .

ابصر بزمانهِ ذاك ، حرب الغلو الجاهلية ، الحرب العراقية – الإيرانية،  متحولاً فيها إلى معاون طبيب لمداواة الجنود ، المساكين، الجرحى، من الذين لا يرشفون رقيهم الا بصوت مدافع الموت و لا يحلمون بمنامهم الا بجنونٍ الحكومة الدكتاتورية العاجزة   . تضمنت علاقة الجندي الشيوعي  مع الجندي الفلاح ابن الفلاح  القادم من ريف الفقر و الصبر

أنهى  ( رحيم أبو زينة)   شرور الحرب و المرحلة العسكرية،  كلها،  محاولاً  ان يروي عطشه الشيوعي  الى الحرية المفقودة ، تماماً،  ببلاد الرافدين  .  افصح لنفسه انه قد وقع في وغى الحب و الغرام ببديعة زمانه ، (هناء جبار رومي).  سيدة في غاية الحسن و الجمال فأهداها بصره وبصيرته وذاب في معاني زواجه منها سريعاً . اختارها ان تكون اماً لورثته لأنها متعلمة ( خريجة معهد الإدارة) ومثقفة ونقيبة صابرة  باحتمال المتاعب . كانت خطوة الزواج ، خطوة باهرة ، شعت بالحمد و الجلال ذهباً و زمرداً و عقيقا ً فاضت فيها الانوار ، تحت ضوء الشمعة الشيوعية الموقدة سراً بعيداً عن انظار القوة البوليسية البعثية. مضى  زواجهما في طريق النمو العائلي و الزيادة ، إذ  أنجب زواجهما  ،  أربعة أطفال ، هم كل من:  زينة و نور و هاني و بدور.  كان الشيوعي ( رحيم)  يبحث عن كل وسيلة للخلاص من القهر و الغمام  لمساعدة  ذريته النجيبة و تمكينهم  من تحقيق حلمه وأحلامهم،  بأن يكونوا (أطباء) بالرغم من انهم ،جميعاً ، شبّوا بمدارسهم على محبة المتنبي و قصائد عمر ابن ابي ربيعة وأشعار محمد مهدي الجواهري . كما كانوا على وحي والديهما و تنبؤاتهما بتغيير العالم ، الى عالم افضل،  يمكن لجميع أبناء وبنات رحيم أبو زينة  ان يساهموا في عملية التغيير، الكوني والإنساني، مثلما قال معلم الشيوعية الأول كارل ماركس أمام رفاقه من الزوار و المستمعين:  كونوا أطباء اكثر حكمة و عطاء . 

ابو زينة كان صامتاً صبوراً في بغداد مثل اغلب العباد.   يعيش شيوعياً في السر ، بعيداً عن أبصار الأجهزة الأمنية النشيطة. استوفى جميع إمكانيات القدرة على ان يظل بياضاً ناصعاً ضمن السواد الأعظم من العراقيين وهم يغلقون أبواب بيوتهم  على الصمت ، طالما كان نظام الحكم الدكتاتوري يخترع  المزيد من وسائل و أساليب القمع البوليسي .  استطاع الشيوعي  رحيم  خير الله (ابو زينة) حين اجاد عمل العيش ، من خلال العمل الفني بمهنة المصوغات الذهبية،  الموروثة لدى عائلته من الآباء و الأجداد .

 بعد مغادرة  احد اخوانه ( حكيم) طالباً اللجوء بإحدى الدول الأوربية – إيطاليا -  ممنوحاً له قرار اللجوء  ببياض مبادئ حقوق الانسان و مشتقات الحرية و الديمقراطية كافة . أخذ معنى اللجوء السياسي او الإنساني يتوسع بداخل الشقيق الأكبر (رحيم)  ، يوماً بعد يوم ، و كلما ازدادت خبائث القمع البوليسي  في الدولة البوليسية فأن قلبه وقلب زوجته  قد انصرفا  خوفاً على أبنائهم الأربعة ، المولودين بمجتمع  الظلم والدكتاتورية في بغداد،  المحاصرة بالجيش الشعبي و بسياسة الخنوع لمشيئة الحزب الحاكم الأوحد ،  التي لا يأتي منها غير انهمار الدموع و تكسير الضلوع .

على ضوء نجمة الثريا استطاعت العائلة الرحيمية – الرومية – الشيوعية  بعلم معهود  ودراية حكيمة  وعفاف تام ، من مغادرة الوطن الى ارض اللجوء ،  حيث الدولة الهولندية باستقبالهم ،  بعد اجتياز الطرق الصعاب و الوصول الى الحرية ، للعيش في حي من احياء مدينة لاهاي،  يغطيهم  شجن الكرامة الانسانية وتذكار الحرية والديمقراطية

كان الأطفال الأربعة موفقين أنفسهم بطلعات دراستهم في المدارس الهولندية  ،حسب مستويات ما وصلوا إليها في  دراستهم بالمدارس العراقية .  كانت ابنته البكر زينة متفوقة بدروسها بالمدرسة الابتدائية ببغداد . صارت متفوقة  ايضا بالدراسة الهولندية . عادت العائلة ، جميعها، الى تحقيق احلام رب الاسرة (رحيم  خير الله) في ان يكون طبيباً يعالج أبناء شعبه الفقراء، بعد أن اصبح شيوعياً جيداً . لزم هذا المناضل والتزم  مبادئ حزبه،  الحزب الشيوعي، إذ ظل منتظماً فيه ، بعد ان اجبر الحزب على تضييق ساحته في زمان النظام الدكتاتوري المظلم .

في هولندا انتظم ، أيضاً، منفتحاً على الجديد من الواجبات و المهمات ، حسب تخطيطات المنظمة الحزبية الشيوعية العراقية في هولندا،  لخلق الطاقات العراقية مقتدية  بالتجربة البورجوازية  الهولندية ،  الديمقراطية ،المتقدمة،  في توفير البنية التحتية على أسس العلم و التكنولوجيا و بطرائق تجريبية علمانية .  

بالعيون والأفئدة مطلوب من المنظمات الشيوعية العراقية ، في لاهاي وباريس ولندن  وبودابست واستكهولم وفي جميع البلدان المتقدمة،  ان تربي الأولاد و البنات باستيعاب البراهين و الأدلة و الوسائل ،  التي أنزلتها الشعوب الأوربية في ساحات تجاربها العملية  لتكون  جينة من جينات التقدم الاجتماعي و الاقتصادي والسياسي و السيكولوجي والإنساني ،  القائمة على الحوليات المبدئية الضرورية في عملية البناء و التقدم . هكذا هي وسيلة الشيوعيين العراقيين في الدول الأوربية . يتعلمون كل امر وهّاج ، حتى من الطبقيين الرأسماليين ، من اجل تقريب كوادر البناء الجديد من الزمان الجديد

أنشدته ابنته البكر ( زينة) هديتها إليه بأن تكون (طبيبة)  عام ٢٠١١ . عاد الى الأب ( رحيم خير الله)  حلمه  من جديد ليجد ضالته بمهنة الطب . بالحس و الإدراك الفطري وجدتْ الابنة الثانية (نور)  ان خير كرائم الهدايا تقدمها الى ابيها الشيوعي الحالم في طفولته أن يكون (طبيباً)  هي ان تكون (صيدلانية) خبيرة ، بمستوى الماجستير في براعة العمل الصيدلاني .  

 امتد الذراع الثالث في هذه العائلة ، الشمعة،  ذراع الابن النشيط و الموهوب (هاني رحيم)   ان يكمل دراسته الطبية.   نال ، هذا الأبن الوفي ، المثابر،  في اليوم السادس و العشرين من أكتوبر ٢٠١٨ ميسم التخرج ، الأبيض ، الجميل من كلية الطب بجامعة لايدن .  منتظراً ان يراه ابوه بعد حين من السنين طبيباً عراقياً (اختصاصياً) بارعاً بالمملكة الهولندية

اما اخر عنقود الرفيق الشيوعي رحيم  خير الله  واعني حجته في الذكاء و الاصغاء ،  ابنته  النشيطة ( بدور)  فإنها ما تزال تقطر حسناً وتصرفاً فائق الروعة  لإكمال دراستها في علوم السيكولوجيا ، حيث تتهادى حكاية تخرجها بالعام القادمبذلك تتحقق أحلام الشيوعي رحيم  أبو زينة في ان يحمل لقب (أبو الأطباء) واحلام زوجته بأن تحمل لقبها المكمل  (ام الأطباء).

بهذه الصورة  النبيلة ، الفاضلة ، استطاع الرفيق رحيم ( أبو زينة) ان يكون شيوعياً من نوعٍ متميزٍ ، من نوع جيدٍ، تخلص من كل الكوابيس لكي يكون قلبه قويا ً في المساهمة بصناعة الكوادر العراقية المستقبلية . استطاع هذا الرجل  ان يكرّم نفسه بنفسه وان يرفع  طوابق عمارته العائلية الى اعلى  الأحلام المتحققة بأرض الواقع البصير من عراق الضمير . تلك هي محاسن أفكاره الرصينة التي حركت مقاماته الشيوعية في كيفية ان يكون شيوعياً أفضل في بلاد الغربة و الشتات  ..!

 تظل حكاية  الشيوعي العراقي أبو زينة،  مثل حكايات آلاف الشيوعيين المنفيين في ارض العالم ، كله ، من باكو الى استراليا وبكين وامريكا. أنها  حكايات  المودة والتعاطف بين الشيوعية والوطنية،  حكايات الحب بين الفرد و العائلة،  بين الاشتياق والفراق،  بين المفر و المقر ،  بين الكلام و العمل. كما  يظل صديق المحاسن  أبو زينة في ظاهر السرور ، أبداً،  وفي مستكن الشوق الى الوطن وفي مثابة الإخلاص الى ثمرة المروءة و الاخلاق و الاوصاف  الشيوعية  ،كي يظل منتسباً الى الوطنية العراقية  العالية.

**********

بصرة لاهاي في 25 – 10 – 2018

عرض مقالات: