تحل بعد غد الذكرى السنوية ليوم ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩، ذكرى الصفحة الناصعة المجيدة في تاريخ بلادنا المعاصر.
في هذا اليوم الخالد خرجت جماهير شعبنا في أروع ملحمة تحدي للقوى المتنفذة الحاكمة، ومنظومة المحاصصة والفساد، وشاركت فيها شرائح وفئات وقوى اجتماعية مليونية متنوعة، وبرز فيها على نحو كبير وجلي دور الشباب والطلبة والنساء.
وحظيت الانتفاضة بالالتفاف ودعم شعبي قل نظيرهما، وكان للنقابات والاتحادات العمالية والمهنية تأثيرها الكبير عبر المشاركة ورفع المعنويات والمؤازرة.
الانتفاضة اجترحت الماثر والبطولات وقدمت الشهداء والضحايا، ورفعت مطالب عادلة ومشروعة لتحسين الأوضاع المعيشية والخدمية، ولاحقا تطورت الى شعارات سياسية عبرت عن معاناة غالبية العراقيين وتطلعهم الى حياة افضل، راسمة معالم وخارطة طريق الخلاص والانعتاق من قبضة المنظومة الجاثمة على صدر الشعب، والتي سببت له كل هذا الأذى والحرمان والنكبات والمآسي على مدى ١٧ عاما عجاف.
في مقابل سلمية الحراك، كان هناك عنف وقتل عمد وهمجية وقسوة، ورغم اجبار الحكومة المسؤولة الأساسية عن ذلك على الرحيل، بقي من قام بذلك، أمرا وتنفيذا، طليقا حتى الآن ولَم يقدم الى القضاء العادل للقصاص منه، ليكون عبرة ودرسا لمن تسول له نفسه سلوك ذات الطريق وارتكاب جرائم وحشية بحق المنتفضين السلميين. كما لم يكشف عن مصير المختطفين والمغيبين.
ان عوامل استمرار الانتفاضة قائمة وان الكثير من مطالب المنتفضين لا تزال اليوم حاضرة، والمعاناة تتفاقم وتتشعب، فيما نشهد تدهورا ملحوظا في الأوضاع السياسية والاقتصادية والمالية والمعيشية، وفوضى السلاح واضطراب الوضع الأمني وانفلاته. وهو ما تجسد في عدد من الاحداث التي ذهب ضحيتها مواطنون أبرياء، كما حصل في جريمة الفرحاتية، وفي ما سبقها من اغتيالات ومطاردات للناشطين ومساع محمومة لتكميم الافواه وحرق المقرات، واخرها مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد. وما رافق كل ذلك من تهديدات علنية اطلقتها قوى وجهات منفلتة خارج القانون، موجهة إياها الى من يختلف مع سلوكها وطريقة تفكيرها، وما تريد ان تفرضه من أنماط سلوك على الافراد والمجتمع.
ورغم ان الخطاب الحكومي وبرنامج الحكومة قد حمل الكثير من الوعود بتنفيذ مطالب الانتفاضة، فان الواقع يؤشر ان العديد من تلك الوعود ظل وعودا ولَم يتحول الى واقع معاش، في وقت اخذت فيه عوامل وأسباب تأجج الانتفاضة تتفاقم في العديد من جوانبها.
ان مؤشرات عدة تدلل ليس فقط على عدم رغبة منظومة المحاصصة في المراجعة والاستجابة الى المتغيرات وما افرزته الانتفاضة من معطيات، بل وعلى سعيها بكل الطرق والوسائل الى عرقلة عملية ولوج طريق التغيير الحقيقي. ومن ذلك عدم تهيئة الشروط والظروف الواجبة لاجراء انتخابات مبكرة وعادلة، وتغيير المنظومة الانتخابية بما يحقق ذلك. ونشهد إصرارا على تبني قانون انتخابات يؤبد سلطة الفاشلين والفاسدين والمتحاصصين، فيما تبذل جهود عبر إمكانات الدولة العميقة وغيرها للالتفاف على شعار المنتفضين في ان تكون الانتخابات رافعة للتغيير المنشود. ان سلوك المتنفذين هذا يمكن ان يقود البلاد الى منزلقات خطرة، ويفتح الأبواب على مختلف الاحتمالات بما فيها السيئة.
ان ٢٥ تشرين الأول ليس مجرد مناسبة لاستذكار الشهداء والتضحيات الجسيمة، وانما هو أيضا لحظة للاصرار ومواصلة العطاء لانعتاق الشعب من قبضة المنظومة الفاسدة والمتنفذة. انه مناسبة للتحدي وتجديد الثقة بان الجماهير قادرة على انتزاع حقوقها، وهذا ما يتطلب الاستفادة من العبر والدروس التي افرزتها الانتفاضة وردم الثغرات وتوحيد الصفوف ووضوح الشعارات والتعبئة الواسعة لتحقيقها وتشكيل قيادات سياسية جماهيرية من المنتفضين الحقيقيين.
كل هذا وغيره، مطلوب لتحقيق الاختراق والتقدم الى امام على طريق التغيير والخلاص من منظومة المحاصصة والفساد، وبناء حياة جديدة يستحقها أبناء شعبنا، وفتح الفضاءات لمستقبل واعد ترفرف فيه رايات الحرية والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية.