تعاني بلادنا من ازمة اقتصادية ومالية هي حصيلة النهج والسياسات المتبعة منذ عام ٢٠٠٣، وهي تشتد او تخف وطأة تبعا لتوفر السيولة النقدية، التي تأتي في الاعم الغالب من تصدير النفط الخام وتشكل دخلا غير مستقر.

لقد افتقدت بلادنا الإدارة السليمة للموارد المالية في الفترات التي تحسنت فيها واردات النفط، بفعل ارتفاع أسعاره وازدياد كمياته المنتجة والمصدرة. فلَم يجر توظيف العوائد في مشاريع وخطط تنموية، توفر دخلا للدولة وفرص عمل للباحثين عنها. هؤلاء الذين تزداد اعدادهم فيما لا يجدون ما يسد الرمق،فكان الخيار الوحيد امامهم هو الاحتجاج والتظاهر للضغط على الحكام المتنفذين، الذين حرصوا كثيرا على تنمية مواردهم الشخصية واحزابهم وكتلهم وتياراتهم على حساب فقر وجوع ومرض ملايين العراقيين، خاصة من ذوي الدخل المحدود والكادحين والفقراء والكسبة والعمالة غير المنتظمة.

وفشلت الحكومات المتعاقبة ومعها ذوو الاجندات الخاصة المدججون بالسلاح والمتماهون مع مشاريع خارجية، في توفير بيئة سياسية وامنية وتشريعية مناسبة لانطلاق عملية استثمار حقيقي وجاد، سواء للرأسمال الوطني ام الخارجي، في مشاريع إنتاجية صناعية وزراعية وخدمية، تشكل الركائز للنهوض وبناء الاقتصاد المتنوع والمتعدد المداخيل.

ورغم المناشدات العديدة من سياسيين ومتخصصين عراقيين وأجانب، لم تبادر الحكومات المتعاقبة الى تشكيل الصناديق السيادية، التي تحفظ مصالح ليس الجيل الحالي فقط، بل والاجيال القادمة، وتعمل على تنميتها عبر مشاريع منتجة ومجدية اقتصادية.

وهناك ايضا التحفظات والملاحظات الجدية، الاقتصادية والفنية، على التراخيص وعقود النفط والعقود مع شركات الهاتف النقال، والتي أدى اهمالها ولا يزال الى ضياع مليارات الدولارات، سواء في العراق ككل او في إقليم كردستان.

ان ما نشهده اليوم هو حصيلة هذا كله، مضافا اليه غياب خطط التنمية، والنهب الذي تعرضت له أموال الدولة وعقاراتها،وتفشي الفساد على مستوى المؤسسات والافراد، وفشل وتلكؤ المشاريع التي اهدرت عليها مليارات الدولارات، وكان بعضها وهميا، ومنها مشاريع الكهرباء. كذلك إبقاء أبواب العراق وحدوده مفتوحة بضغط من أحزاب ومليشيات، لادخال البضائع بالشكل غير الشرعي الذي اضر كثيرا بالمنتوج الوطني الصناعي والزراعي.

وساهمت جرائم الإرهابيين وتداعي هيبة الدولة وسلطة القانون والانفلات الأمني وتغوّل المجاميع السياسية المليشياوية، وحديثا تفشي وباء كورونا، وانخفاض أسعار النفط عالميا،في مفاقمة ظواهر الازمة الاقتصادية والمالية وتداعياتها، وحدّة التوترات الاجتماعية، وتردي حياة ومعيشة غالبية أبناء الشعب. ومن ذلك ازمة تامين رواتب الموظفين والمتقاعدين رغم اعتماد الاقتراض الداخلي والخارجي، وفقا لقانون الإقتراض الذي اقره مجلس النواب (حزيران ٢٠٢٠).

ونؤكد هنا من جديد ان طريق المعالجة لا يمر قطعا عبر حرمان ملايين الموظفين والمتقاعدين وعوائلهم من رواتبهم او تأخيرها، ولا عبر الاقتراض الداخلي والخارجي وزيادة مديونية العراق وما يترتب على القروض من فوائد. فهذا بحسب كل المتخصصين يفضي الى الانهيار ورهن البلد واقتصاده الى الدائنين.

ان من غير السليم ابدا الاعتماد على الاقتراض الداخلي او الخارجي لمعالجة العجز المالي. فهناك وسائل اخرى بديلة، منها ترشيد الانفاق العام ووقف الهدر على مختلف الصعد، والتصدي الفاعل للفساد واسترجاع الأموال المنهوبة والمسروقة داخل وخارج الوطن، وتفعيل جباية الضريبة التصاعدية،وجمع موارد عقارات الدولة، ووقف الهدر والتلاعب بواردات المنافذ الحدودية والكمارك، وتطبيق قانون خفض رواتب الرئاسات والوزراء والنواب والدرجات الخاصة، وإيجاد بيئة سياسية وامنية مناسبة للاستثمار والبناء، والتخلص التدريجي من ترهل جهاز الدولة،وإعادة النظر في الصرفيات غير المبررة على الجانب الأمني والعسكري، والاستثمار الأفضل لموارد النفط باتجاه خلق اقتصاد متوزان فاعل،وإعادة النظر بالتراخيص النفطية وعقود شركات الهاتف النقال، وقبل كل هذا وذاك فرض سلطة القانون وحل المليشيات وإيقاف تمردها على الدولة ومؤسساتها.

ولقد قُدم الكثير من المقترحات البناءة الى الحكومات السابقة والحالية، وحان الوقت لاعتماد سياسة اقتصادية ومالية بديلة لمشروع اقتصاد السوق المنفلتة، سياسة في صالح غالبية أبناء الشعب وليس مصلحة الأقلية المتحكمة اليوم بكل شيء، والتي فشلت تماما في ادارة موارد البلد وإطلاق تنمية مستدامة. وهذا يتطلب إرادة وعزما سياسيين، وكتلة بشرية فاعلة داعمة للتغيير السياسي ورافعة للنهوض، بما يضع بلدنا على السكة الصحيحة للبناء والاعمار والاقتصاد القوي المتنوع والتنمية.