يعاني إسناد الوظيفة العامة في بلادنا خللا وفوضى كبيرين. ونشهد كل يوم مؤشرات على تضخم الجوانب السلبية لذلك منذ ٢٠٠٣، جراء التخبط والعشوائية وسوء الادارة واستفحال الفساد، واخضاع التوظيف الى المحاصصة والمنسوبية والمحسوبية والرغبة في تجميع المريدين والمناصرين.
وتفاقم الامر بعد تحويل الوزارات ومؤسسات الدولة المختلفة الى "حيازات خاصة" لهذا الطرف او ذاك، وشيوع بيع الوظائف، وصعود منسوب المراهنات على بعضها لتبلغ اقيامها مليارات الدنانير. وخلال ذلك ساد بالطبع غياب معايير النزاهة والكفاءة والمهنية ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
وأفضى هذا وغيره الى ترهل في مؤسسات الدولة، وتضخم في إعداد المسجلين كعاملين فيها من دون اداء عمل حقيقي، وتفاقم البيروقراطية. والحصيلة هي عجز هذه المؤسسات عن اداء دورها في خدمة المواطن، خاصة في ما له صلة مباشرة بحياته اليومية، كذلك في توفير الأمن والاستقرار، واعادة بناء الوطن وإعماره، وإطلاق عملية تنمية حقيقية دائمة وشاملة ومتوازنة.
ومن المفارقات في هذا الصدد وجود عدد كبير بل وهائل من المواقع القيادية في مؤسسات الدولة يدار بالوكالة. وهذا هروب متعمد من استحقاقات مطلوبة ومعايير يجب التقيد بها، كما انه يجسد سعيا متعمدا الى تحويل تلك المواقع، خاصة منها ما يعرف بالدرجات الخاصة، الى "بقرة حلوب" لمضاعفة المنافع والمكاسب الشخصية.
ويتوجب القول هنا ان الانتهاء من هذا الملف ليس مطلوبا بأي ثمن، فالأساس كان وما زال حضور المعايير عند الاختيار واسناد الوظيفة العامة بعيدا عن المحاصصة و" تكريم " الفاشلين والفاسدين.
وفِي هذا السياق أكدنا مرارا اهمية ولوج طريق الاصلاح والتغيير، وبضمنه القيام بإصلاحات ادارية شاملة، وما يتطلبه ذلك من تغييرات هيكلية ضرورية، وتشريع لقوانين وأنظمة، وإصدار لتعليمات، ومراجعة لما شاخ منها ولَم يعد يتناسب مع الاوضاع الجديدة في البلد، ومع الحاجة الى بناء جهاز حكومي كفوء وفاعل، يتسم منتسبوه بالحماس وبالاستعداد للتجاوب مع تطلعات المواطنين، الى جانب احترام ارادة الناس وكرامتهم، ليس بالشعارات والأقوال بل واقعا وفي الممارسة العملية.
وضمن إجراءات الاصلاح الإداري وارساء مسألة إسناد الوظيفة العامة على أسس سليمة ومعايير واضحة، أفردنا حيزا كبيرا للحاجة الماسة الى تفعيل قانون مجلس الخدمة العامة بعد ان تم اقراره، والانتهاء من تشكيل المجلس ليباشر أعماله، ويضع أسس التعيين في مؤسسات الدولة ويراقب التنفيذ بحيادية وشفافية بما يوفر من فرص متكافئة للعراقيين، ويتيح لهم جميعا التنافس الحر على اية وظيفة في الدولة، من دون اي تمييز ومن دون منح اي اعتبار الى غير المواطنة والكفاءة والأهلية والنزاهة. وهذا ما ينسجم مع نص المادتين ١٤ و١٦ من الدستور العراقي.
ان من شأن إنجاز هذه المهمة ان يحقق جانبا من العدالة الاجتماعية، وان ينهي حالة الفوضى الراهنة في التعيينات وخضوعها للمساومات والبيع والشراء، وان يحد من الصلاحيات المطلقة للمواقع القيادية في الهرم الوظيفي، في التحكم برقاب الناس ولقمة عيشهم والاستغلال الأناني والضيق لاوضاعهم. وهو يأتي استجابة لحاجة يؤكدها الواقع العملي كل يوم، وتتجلى ضمن ما تتجلى في التدافع الحاصل في الوقت الحاضر على الدرجات الخاصة، وعلى استكمال التشكيلة الوزارية التي ما برحت ناقصة. وهذا كله يدفع الوطن والشعب ثمنه غاليا، ويترك آثاره السلبية على إمكانية تحسين حياة المواطنين وتحقيق الرفاه والتقدم لهم.
ان من يعرقل تحقيق مفردات الاصلاح، بما فيها تشكيل مجلس الخدمة، انما يسهم، شاء ام أبى، في إدامة اسباب معاناة الناس، والتمييز بينهم، وفي استمرار شيوع الرشى واستفحال الفساد وهدر المال، واضاعة الوقت الذي هو قطعا غير مفتوح، فيما المواطن يتطلع الى رؤية بصيص أمل في نهاية النفق.