الاجتياح الروسي لأراضي أوكرانيا واستمرار العمليات العسكرية أعاد الى الواجهة من جديد التبان في الرؤى والمواقف بين أحزاب ومنظمات اليسار في العالم، بشأن طبيعة الحرب ومسؤولية الأطراف المشاركة بشكل مباشر، وتلك التي عملت طويلا على تصعيد الصراع وايصاله الى لحظة الصدام الجاري. وقبل الدخول في التفاصيل بودي الإشارة الى ان ما اعنيه بقوى اليسار الجذري يشمل الأحزاب الشيوعية وأحزاب اليسار الماركسي، وقوى اليسار الأخرى التي تعمل ضمن أمور أخرى على تجاوز النظام الرأسمالي، وإقامة بديل له، وهذا التوصيف لا يشمل معظم الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية وقوى الوسط الأخرى، التي تصفها وسائل الاعلام العالمية التقليدية باليسار.

 ان التباين الذي نعيشه في مواقف اليسار بشأن الموقف من الرأسمالية والحرب ليس جديدا، وليس وليد الاختلاف بشأن الحرب الجارية اليوم، وبعيدا عن العودة للمسار التاريخي، الذي ارتبط بالحرب العالمية الأولى، سأبدأ من الصراع الذي خضناه، كناشطين شيوعيين ويساريين بشأن الموقف من حرب "تحرير" الكويت عام 1991، والغزو الأمريكي للعراق في ربيع عام 2003.

 يومها كان بالإمكان حصر التباين بين قوى اليسار في تيارين، اقلية دوغمائية تستند الى جمود فكري، كانت تتفق معنا في رفض الحرب، ولكنها كانت ترفض مطالبتنا بأسقاط الدكتاتورية، معتبرة الربط في نضالنا بين رفض الحرب واسقاط نظام صدام حسين خطأً، فهذه القوى كانت تعتبر النظام العراقي معاديا للإمبريالية، عملا بمبدأ "عدو عدوي صديقي"، وهو وهم لا زال بعض قوى اليسار متمسكا به، بعيدا عن طبيعة الأنظمة وسياساتها الاستبدادية وملاحقتها لأحزاب شيوعية ويسارية في أكثر من بلد.

 ان الجديد في الأمر هو اتساع التباين هذه المرة، وحدوث تغيرات وانتقالات في مواقف هذا الفصيل اليساري او ذاك. وفي تقديري فان هذا التباين والحراك في مواقف اليسار  يعود  ، ضمن أسباب أخرى، الى ان الصراع يجري داخل أوربا، وليس في بلد من بلدان الأطراف مثل العراق، بالإضافة الى ان احتمال توسع الصراع وتحوله الى كارثة عالمية لا يزال قائما، على الرغم من تأكيدات الولايات المتحدة وحلفائها عن عدم رغبتهم في الدخول بحرب مباشرة مع روسيا، ليس لانهم، حمائم سلام، بل لعلمهم ان مثل هذه  الحرب تهدد بقاء واستمرار الرأسمالية، فضلا عن سعيهم الحثيث لتوريط روسيا في حرب طويلة الأمد وتدميرها اقتصاديا، عبر حزمة من العقوبات  والإجراءات السارية الان والتي بدأت اثارها بالظهور.

 ويمكن الإشارة الى ان تعدد مواقف اليسار من الحرب الحالية يعود أيضا الى انها تجري بشكل غير مباشر بين مركزين للهيمنة الرأسمالية هما روسيا والتحالف الغربي بزعامة الولايات المتحدة، وكذلك الى الأسباب الروسية المعلنة للحرب، والتي تتضمن بين أسباب أخرى رؤية قومية رجعية تفتح شهية القوميين المتطرفين من انقرة الى تل ابيب.

 ومن الضروري أخيرا ان نشير الى الخصوصيات الوطنية والمحلية لقوى اليسار، والتي تلعب دورا في تحديد موقفها النهائي، ارتباطا بنضالها اليومي ضد أنظمة مختلفة، وفي ظل توازنات إقليمية ودولية متغيرة، فنرى ان بعضها ينجر وراء موقف الشارع، بدلا من بلورة رؤية منهجية صحيحة، واخرى اثرت الصمت والانتظار على أساس حسابات تخصها

 وللوقوف على التباين في مواقف قوى اليسار الأساسية في أوربا وتأشير طبيعته، لا بد من محاولة تناولها استنادا الى مواقفها المعلنة بالقدر المتوفر لدينا، وبالتأكيد فان العرض التالي ليس نهائيا، فنحن إزاء حدث يتغير بشكل يومي، والعرض أيضا لا يغطي مواقف الجميع، ولكنه يؤشر الاتجاهات الرئيسة.

 نقاط مشتركة

 بهدف التكثيف فان غالبية البيانات المشتركة والفردية الصادرة من الأحزاب الشيوعية وأحزاب اليسار ركزت على جملة من المشتركات أبرزها الدعوة لأنهاء الحرب الدائرة، واعتماد التفاوض والحوار وسيلة رئيسة للوصول الى حل سلمي.

تحميل الولايات المتحدة وبلدان حلف الناتو والاتحاد الأوربي مسؤولية التصعيد ومحاولة تطويق روسيا الاتحادية، وعدم التعامل الجدي مع مخاوفها الأمنية. والمطالبة بانسحاب القوات الروسية، وإدانة اعتراف الرئيس الروسي بما يسمى بـ "الجمهوريات الشعبية"، وجعلها غطاء لاجتياح قواته للأراضي الأوكرانية، استنادا الى خطاب قومي ، وتحميل الاتحاد السوفيتي السابق ولينين والبلاشفة مسؤولية خلق الممهدات للصراع الحالي.

 بيان مشترك

  يمتاز البيان الذي نشر في موقع SolidNet.org  ، بكثرة عدد الأحزاب الموقعة، حيث وصل عدد الأحزاب المنظمات الموقعة الى قرابة 28 حزبا ومنظمة، ويعتبر الحزب الشيوعي اليوناني ابرزها، الى جانب الحزب الشيوعي ألأوكراني، الذي تتعرض بلاده لمخاطر الاحتلال، والحزب الشيوعي النمساوي، والحزب الشيوعي الكردستاني، فيما غاب عن البيان توقيع الحزب الشيوعي البرتغالي وأحزاب أخرى مهمة أخرى كانت في العادة ناشطة في اطار الموقع، وهو امر يؤشر تباينات جديدة بين الأحزاب المؤثرة في هذه المجموعة. وبالإضافة الى المشتركات التي أشرنا اليها اعتبر البيان ان الصراع الدائر هو بين مركزين إمبرياليين "في سياق المزاحمة الشرسة لهذه القوى مع روسيا الرأسمالية، من أجل السيطرة على الأسواق والمواد الأولية وشبكات النقل في البلاد". وادان البيان كذلك نشاط القوى الفاشية والقومية في أوكرانيا".

 الشيوعيان الأمريكي والروسي تباين في الرؤية

 يعد البيان الصادر عن المجلس الوطني للحزب الشيوعي الأمريكي من البيانات المتوازنة التي تناولت الحرب الدائرة، على أساس  ربط محكم بين البعدين الوطني والاممي، والى جانب المشتركات مع غالبية أحزاب اليسار، ركز الحزب على ان "القضية التي تعقد الصراع اليوم هي حقيقة وجود قواعد الناتو والولايات المتحدة والقوات العسكرية وأنظمة الصواريخ قرب الحدود الغربية لروسيا الاتحادية مما يهدد أمنها القومي. وعلى مدى العقد الماضي أو نحو ذلك، قدمت ليتوانيا وبولندا ولاتفيا ورومانيا واستونيا موطئ قدم لهذه التشكيلات ذات الاستعداد الحربي الدائم، والذي يعد انتهاكا تاما للاتفاقيات التي تم التوصل اليها نهاية الحرب الباردة بأن الناتو لن يتوسع شرقًا، وبالإضافة الى ذلك أشار الحزب الى ان "الدوائر الحاكمة في روسيا لها حساباتها القومية الخاصة، واندلاع الحرب يؤدي فقط إلى زيادة الطين بلة. لقد تبلورت الازمة الحالية مع نهاية الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وولادة الناتو". وبشأن الوضع داخل الولايات المتحدة أكد البيان انه   "لا يمكن حل المشكلات الخطيرة المتعلقة بتغير المناخ، ونقص الرعاية الصحية، والوظائف ذات الدخل الواطئ، والتمييز العنصري الذي يتحدى الطبقة العاملة لدينا، بينما تنفق الولايات المتحدة المليارات سنويا للحفاظ على قوات عسكرية وأسلحة ضخمة وعلى الناتو. يمكنهم توفير المليارات للميزانية العسكرية، ويقولون ان «اعادة البناء بشكل أفضل» هي عملية باهظة التكلفة".

 اما موقف الحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية بزعامة غينادي زيوغانوف، فقد ركز على ضرورة مكافحة التحركات الفاشية في أوكرانيا، وجاء خطابه على العموم متناغما مع الموقف الروسي الرسمي، بل ذهب ابعد من ذلك في مطالبة الحكومة الروسية بوضع حد للاستفزازات الغربية. وهو موقف احادي الجانب ومشبع بروح الدولة القومية العظمى.

 البعد القومي في الصراع

 الى جانب المشتركات العامة سلطت عدد من قوى اليسار على خطورة التأسيس الفكري والخطاب القومي لشن الحرب على أوكرانيا ويمكن الإشارة هنا الى ما جاء في بيان حزب الشغيلة القبرصي أكيل الذي "يؤكد أن إجراء الاتحاد الروسي بالاعتراف بمنطقتَي دونيتسك ولوهانسك يشكل انتهاكاً لمبدأ السلامة الإقليمية للدول"، وواضح ان الحزب يعبر عن مخاوفه من خطر استفادة الرئيس التركي أروغان في تأبيد فصل شمال قبرص بشكل نهائي عن البلاد مستفيدا من الرؤية القومية التي بنى عليها الرئيس الروسي عمليات ضم واقتطاع أجزاء من أوكرانيا لأسباب قومية بحته، أشار الحزب في تصريح سابق الى " ومرة أخرى، تتجلى حقيقة أن المعايير المزدوجة التي تمارس فيما يتعلق باحترام القانون الدولي تنقلب عاجلاً أم آجلاً ضد كل من ينخرط في مثل هذه الممارسات. والأكثر من ذلك أنهم يلحقون الأذى بالشعوب، وهو أمر نعرفه جيدًا للأسف في قبرص شبه المحتلة."

من جانبه أشار الحزب الشيوعي الفرنسي الى جانب ما هو مشترك الى " ان الرئيس الروسي يغرق في النزعة القومية المتطرفة ويتحمل مع حكومته وأنصاره المسؤولية، في تجاهل مطلق للهيئات المتعددة الأطراف والقانون الدولي، عن هذه الحرب". واضاف "ويعبّر الحزب الشيوعي الفرنسي عن قلقه بشأن الأرضية الخصبة التي توفرها هذه الحرب للقوميين، وللمتطرفين من جميع المعتقدات، في روسيا وأوكرانيا وأوروبا، الذين يحرضون على الحرب والكراهية والتعطش للانتقام". ويعكس هذا بوضوح الأرض الخصبة التي توفرها توجهات الرئيس الروسي للحركات القومية واليمينية المتطرفة في أوربا، والتي يحتفظ بوتين بعلاقات جيدة مع معظمها. وهذا الامر ليس بعيدا عن فرنسا التي يسعى اليمين المتطرف فيها لدخول قصر الإليزيه. وفي ختام بيانه ايد الشيوعي الفرنسي " عقد مؤتمر أوروبي حول التعاون والأمن الجماعي، يشمل روسيا، من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للنزاع على أساس مضمون اتفاقيات مينسك ومبادئ الأمن الجماعي".

حزب اليسار الأوربي

 تأتي أهمية موقف حزب اليسار الأوربي من كونه بمثابة اممية مصغرة تضم في صفوفها أكثر من 30 حزبا شيوعيا ويساريا اوربيا، بالإضافة الى منظمات وجمعيات يسارية أخرى تتعاون مع الحزب وفق مبدأ الشراكة. وقد جاء في اول بيان للحزب ما يلي:

أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت مبكر صباح اليوم بدء "عملية عسكرية" روسية في أوكرانيا، عقب تصاعد التوترات بين حلف الناتو وروسيا في الأسابيع الأخيرة والاعتراف أحادي الجانب باستقلال دونيتسك ولوغانسك. وتخضع أوكرانيا حاليًا لحال الأحكام العرفية. وقال هاينز بيرباوم، رئيس حزب اليسار الأوروبي:

"يستنكر حزب اليسار الأوروبي بشدة هذا القرار، الذي يشكل تهديدًا كبيرًا ليس لامن اوكراينا فقط بل لأوروبا والعالم

ان حزب اليسار الاوروبي يرفض أي تهديد أو عدوان عسكري ضد دولة ذات سيادة. ينبغي حماية وحدة أراضي أوكرانيا واستقلالها. ويدعو حزب اليسار الاوروبي إلى مبادرة سياسية ودبلوماسية لتهدئة الوضع على الفور. ونحث جميع الأطراف على التخلي عن الخيار العسكري لصالح القانون الدولي والدبلوماسية كوسيلة وحيدة لحل النزاعات.

ان هذه الحرب الجديدة في أوروبا تُظهر الطبيعة المزعزعة للاستقرار لحلف الناتو، الذي يجب معارضة وجوده العدواني في أوروبا. ويأتي الهجوم العسكري الروسي كعدوان غير مبرر لا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال"

ومن المفيد الإشارة الى ان حزب اليسار الاوربي وطيلة السنوات الماضية كان يشدد باستمرار على ان ضمان الامن الأوربي يتحقق مع روسيا وليس ضدها.

 موقفان استثنائيان

 يمتاز الموقف الذي عبر عنه بيان الحزب الشيوعي الألماني باستثنائية قصوى في تبنيه للموقف الرسمي الروسي بالكامل، بل ان الحزب دعا الى عدم توجيه حتى النقد للقيادة الروسية مركزا على سياسات الناتو وطبيعة السلطة في كييف، داعيا الى انسحاب القوات الأوكرانية من مناطق ما يسمى بـ "الجمهوريات الشعبية".

 في الجانب الآخر يعتبر التغيير الذي حدث على موقف حزب اليسار السويدي، بشأن رفضه ارسال 5 آلاف قذيفة مضادة للدروع الى أوكرانيا، وتأييده دون تميز لجميع الإجراءات التي اقرها البرلمان السويدي، مثيرا للجدل هو الآخر. ويشير بعض المحللين الى ان وراء هذا التغيير أسباب ( أسبابا )  انتخابية.

 وأخيرا ان الحرب في أوكرانيا كشفت زيف الديمقراطية الرأسمالية، و أسوأ ما عبر عنها اعتماد الغرب سياسة الكيل بمكيالين في قضية اللاجئين ففي الوقت الذي يموت الالاف من اللاجئين في عرض البحار وفي الغابات ويضع الغرب المتحضر جدران عازلة، ويستخدم القوة العسكرية "فرونتكس" لغلق الحدود امام اللاجئين القادمين من بلدان الجنوب، نراه يفتح حدوده للاجئين الأوكرانيين، لأسباب عرقية عنصرية، وحسابات جيوسياسية ، بالإضافة الى الحرب التي يشنها الغرب ضد الرياضيين والفنانين الروس ونتاجاتهم الإبداعية، لانهم يشتركون مع بوتين بحمل الجنسية الروسية. وبالمقابل فان سلوك بوتين ضد المناهضين للحرب في روسيا واعتقاله في يوم 6 اذار الجاري وحده، وفق وزارة الداخلية الروسية أكثر 3500 مناهض للحرب، موقف استبدادي بامتياز، ناهيك عن اعتماده الحرب وسيلة لحسم الصراعات الدولية. ان طرفي الصراع يجسدان وبجدارة زيف الديمقراطية في البلدان الرأسمالية. 

عرض مقالات: