بعد فشله في احتواء الاحتجاجات المستمرة والمتسعة ضد القمع العنصري الذي تمارسه الشرطة الأمريكية ضد السود والملونين وقوى اليسار، عاد العقل العنصري للرئيس الامريكي دومالد ترامب، وكما فعل اسلافه المستبدون عبر العصور الى توظيف الدين لشرعنة الجريمة. لقد امر ترامب باجلاء المحتجين بالقوة ليتمكن من التقاط صورة وهو يحمل الانجيل أمام كنيسة القديس يوحنا الأسقفية القريبة من البيت الأبيض. وقد ادت صورة ترامب الى صدور انتقادات لاذعة من لدن رجال دين بروتستانت وكاثوليك فى الولايات المتحدة. ويحاول ترامب استمالة الناخبين الانكليكين المحافظين والذين يمثلون 25 في المائة من الناخبيين في البلاد. وزار ترامب كذلك نصب تذكاري للبابا يوحنا بولس الثاني واصدر أمر تنفيذي "لحماية" الحريات الدينية في الخارج.

واستخدم أفراد من الشرطة يمتطون الجياد وجنود مسلحون الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي مساء الاثنين لإبعاد المحتجين قبل أن يسير ترامب من البيت الأبيض عبر ساحة لافاييت إلى الكنيسة التي لحقت بها أضرار بسبب النيران في غمرة الاحتجاجات مساء الأحد. ورفع ترامب الإنجيل أمام الكنيسة.

لقد ندد الزعماء الدينيين بمعاملة الإدارة للمواطنين الذين يحتجون على قتل جورج فلويد، وهو أمريكي اسود عمره 46 عاما ولفظ أنفاسه بعد أن جثم ضابط شرطة أبيض بركبته على عنقه لمدة تسع دقائق تقريبا في مدينة منيابوليس يوم 25 أيار. وانتقد الأسقف مايكل كوري رئيس المجلس التنفيذي للكنيسة الأسقفية ترامب لاستخدامه الكنيسة والإنجيل لاهداف حزبية ضيقة.

استمرار الحركة الاحتجاجية

وفي هذه الاثناء تستمر الحركة الاحتجاجية التي اكتسبت ديناميكية وعمق سياسي جديد من خلال شعار |لا عدالة ولا سلام". واشارت وسائل اعلام امريكية الى ان 23 ولاية، ضمنها ولاية العاصمة واشنطن، من اصا 50 ولاية امريكية قامت بتعبئة الحرس الوطني لاستخدامه في قمع الاحتجاجات التي تجتاح اكثر من 41 مدينة امريكية، ولم ينجح فرض منع التجوال فيها للحد من زخم مناهضي العنصرية. لقد امتدت الاحتجاجات لتصل الى البيت الابيض، مما اضطر الرئيس الامريكي للجوء الى احد المخابئ خوفا من غضب المحتجين. و ينتشر حاليا قرابة 17 الف من الحرس الوطني. وبحسب قناة سي إن إن ، فإن هذا  العدد يساوي تقريبًا  عديد القوات الامريكية المنشرة حاليًا في العراق وسوريا وأفغانستان.

ولم يعد عنف السلطة استثناءا، بل اصبح فعل يومي مستمر جرى توثيقه بالصورة والصوت، ولم ينحصر في استهداف المتظاهرين، بل امتد ليشمل الصحفيين والمدونيين، بما في ذلك  مراسلو وكالات من اركان الاعلام التقليدي مثل رويترز وسي إن إن ودويتشه فيله .

لقد اجبر زخم الاحتجاجات الشرطة في نينورك وواشطن على السماح لمئات المتظاهرين الذي كسرو حظر التجوال. وشمل استمرار الاحتجاج ضد عنف الشرطة العنصري، والحرمان من المساواة، حتى ساعة اعداد هذا التقرير،  أتلانتا ودنفر ونيو أورلينز وفيلادلفيا وشيكاغو ، وتجمع الثلاثاء الفائت قرابة 60 الف متظاهر في كل من هيوستن وتكساس، ومثلت هذه التجمعات اكبر تظاهرات في ذلك اليوم.

وبحسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة مورنينغ كونسلت ، فإن 54 بالمائة من  المشاركين فيه  يؤيدون "الاحتجاجات المستمرة"، في حين يرفضها  22 في المائة فقط.

وأعلن وزير العدل ويليام بار أنه سيتم تعزيز قوات الأمن حول العاصمة مرة أخرى. وكشف  الجيش الأمريكي عن تحريك قرابة 1600 من الضباط والمشاة إلى القواعد العسكرية حول واشنطن لمساعدة قوات الأمن إذا لزم الأمر.

وقال حاكم ولاية مينيسوتا تيم فالز إن إدارة حقوق الإنسان في حكومته  قد اقامت دعوى مدنية ضد قيادة الشرطة في المدينة. وسيتم التحقق من إجراءاتهم وممارساتهم من السنوات العشر الماضية لمعرفة ما إذا كانت الشرطة في مينيابوليس قد مارست تمييزًا منهجيًا ضد الأقليات. من جانبهم طالب اقارب المغدور جورج فلويد بايقاع اشد العقوبات بالقاتل، ومحاسبة الظباط الثلاثة الاخرين المشاركين في الجريمة.

وكشف تقرير تشريح لخبير مستقل كلفته عائلة الضحية، ان فلويد مات بفعل العمل الاجرامي لمنتسبي الشرطة، وتاتي هذه النتيجة  لتنقض تقارير  السلطات الرسمية في مينيابوليس. اي ان الضحية لم يكن يعاني من اي عارض يمكن ان يسبب وفاته. وكان فلويد واحدا من  ضحايا العديد من عمليات الخنق التي مارستها شرطة المدينة. ووفقًا لتقارير محطة إن بي سي ، فان الشرطة استخدمت، منذ 2015 عمليات الخنق 237 مرة، فقد الوعي بسببها 44 ضحية . وتشير منظمة "الرسم البياني لعنف الشرطة" انه تم في عام 2019 قتل 1099 شخصًا على أيدي الشرطة في الولايات المتحدة، وفي 99 في المائة من الحالات ، لم توجه أي تهمة ضد المسؤولين.

وأصدرت منظمة "قدامى المحاربين من أجل السلام" بيانًا دعت فيه إلى الانسحاب الفوري للحرس الوطني ، المنتشر في 23 ولاية وفي مقاطعة كولومبيا. وكتب المحاربون القدامى على موقعهم الالكتروني: "لقد راعنا استخدام الأسلحة والمركبات والمعدات العسكرية في المدن الأمريكية مرة أخرى". وان  الهدف هو مكافحة المواطنين "الذين يتعاملون  مع تاريخ طويل من العنف المشرعن من قبل الدولة". و "الترهيب العسكري" يحول المدن "إلى ساحات حرب". لذلك ، دعا المحاربون القدامى جميع أفراد الحرس الوطني والوحدات العسكرية إلى  عدم"خدمة مصالح العنف والعنصرية".  وان عليهم "إلقاء أسلحتهم ورفض مهاجمة جيرانهم ومواطنيهم".

وتعكس مجريات الاحداث المتسارعة واقعًا متناقضًا في مساحة مابين الإصلاح الخجول والصراعات السياسية المتصاعدة من ناحية والتقاليد الثقافية القديمة وثقافة عسكرة الشرطة الخارجة عن السيطرة من ناحية أخرى ، بين القديم والجديد: في أورلاندو مثلا، يركع رئيس الشرطة على ركبته تضامنا مع المتظاهرين بينما يقوم ضباط الشرطة بقمع المتظاهرين. وفي مدينة نيويورك ، اعتقلت ابنة عمدة المدينة التقدمي بيل دي بلاسيو اثناء الاحتجاجات، في حين يدافع  والدها عن ضابط شرطة قاد شاحنته يهدف دهس مجموعة من المتظاهرين. وهناك دلائل أولية على تغيير ثقافي: في أتلانتا ، على سبيل المثال ، يطرد عمدة  المدينة الأسود شرطيين بسبب  ممارستهما العنف المفرط ضد المتظاهرين. وفي نيويورك ، يريد العديد من السياسيين إعادة التبرعات التي استلموها  من نقابات الشرطة. وفي مدينة منيابوليس شهدت الاحتجاجات صور من التضامن كالتي عشناها في ساحات الاحتجاج في العراق.

ترامب يخنق الولايات المتحدة

في خضم التوترات الاجتماعية جراء أزمة كورونا ، يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتعرض لضغوط متزايدة في مواجهة الاحتجاجات ضد عنف الشرطة العنصرية التي تنتشر الآن في جميع أنحاء الولايات المتحدة تقريبًا. ويتضح ذلك على الأقل من خلال تصريحاته العدائية والعسكرية ، التي يواصل بها تأجيج الوضع. بالإضافة إلى الدعوة إلى "القانون والنظام" ، دعا ترامب يوم الأحد الفائت  رؤساء البلديات وحكام الولايات من الحزب الديمقراطي إلى القيادة "بقوة"، "هؤلاء الناس فوضويون. ادعوا الحرس الوطني فورا. ان العالم يتفرج ويسخرمنكم" . لقد حدد الرئيس منذ فترة طويلة المسؤولين عن الاحتجاجات ، ولهذا السبب أعلن يوم الأحد ومرة أخرى عبر تويتر أنه يعد"المناهضين للفاشية" منظمة إرهابية.ووصف ما يجري بـ "الإرهاب المحلي"ينفذه  "المناهضون للفاشية واليساريون والفوضويون المحترفون" . من جانبه عارض مرشح انتخابات الرئاسة الديمقراطي بايدن، اجراءات الرئيس وكتب بايدن في تويتر: " ترامب يريد استخدام الجيش الأمريكي ضد الشعب الأمريكي".

وبستند  ترامب في تهديده باستخدام الجيش ضد الاحتجاجات الجماهيرية "لحل المشكلة بسرعة" على "قانون مكافحة التمرد" لعام 1807. ووفقا لمجلة الجيش الامريكي الالكترونية "مليتري تايمز"تحركت قوة عسكرية من  الفرقة  82 المحمولة جوا باتجاه العاصمة الامريكية واشنطن وااستندت المجلة على تصريحات  "ثلاثة مسؤولين في وزارة الدفاع" لوكالة أسوشيتد برس ، اشترطوا عدم ذكر اسمائهم.

ويبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يحاول استنساخ استراتيجية الرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون لإعادة انتخابه ، تلك الااستراتيجية التي غذت التعصب والخوف من أعمال الشغب في اوساط السكان البيض في عام 1969. يشدد ترامب على "القانون والنظام" ويهدد بـ "السلطة الكاملة للجيش الأمريكي". وليس واضحا ان تكيتك الرئيس المبني على الرعب سيحصد ثماره ، لأن صور احتجاجات  اليوم تبدو مغايرة لـ "أعمال الشغب العرقية" في الستينيات ، فالمحتجون البيض يسيرون جنب الى جنب مع مواطنيهم السود.

 ويكد خبراء بالشان الأمريكي ان دونالد ترامب يتمسك بالسلطة. وسوف لن يغادر البيت الأبيض بسلام. وسيحاول أن يكون أول ملك امريكي.  ولكن  اوساطا واسعة بدأت تفهم مدى سوء خطابه في الحياة اليومية. وحياة الناس اليومية بحاجة الى التعايش  بطريقة أو بأخرى.، فهم يدركون اهمية السلام في حياتهم ويحترمون اختلافاتهم، في حين يسعى ترامب لاستمالة اوساط من السكان البيض.

400 عام من العنصرية

رفع المحتجون لافتة تقول: "400" في اشارة الى تاريخ العنف العنصري في البلاد. ويؤكد الناشطون المدافعون عن حقوق الانسان أن ما يحدث  ليست حالات معزولة ، بل هي حدث مستمر، وان الكثير من المتابعين حذرو من انفجار الصراع السياسي والاجتماعي جراء هذه الجرائم  ، وهذا ما حدث في الايام الأخيرة.وذكر النشطاء بما قاله مارتن لوثر كينغ ذات مرة أن أعمال الشغب لا تحدث هكذا وببساطة، فهناك دائمًا أسبابا تقف ورائها .

لقد فرضت اجراءات كورنا العزلة على المواطنين في منازلهم، وكانت حريتهم مقيدة عمليا. ثم  جاءت جريمة قتل  جورج فلويد بمثابة الشرارة. كان القتل هذه المرة باعصاب باردة، مصحوبة بلا مبالاة غير مسبوقة من قبل الشرطة. وكان رد فعل الشبيبة سريع جدا، ولم يغير من هذه الحقيقة اعمال النهب والعنف التي نفذتها مجموعات معروفة، فالاحتجاجات كانت سلمية. والتجربة التاريخية تؤكد ما جرى. لقد انتهت إحدى التظاهرات الاخيرة التي قادها  مارتن لوثر كينغ بالعنف لأن العنصريين البيض اندسوا وأثاروا الشغب بين المتظاهرين. وما حدث في نهاية  الأسبوع، في هذا الجانب، كان صورة لاحتجاجات استينيات.

ان مشاركة اوساط من السكان البيض في الاحتجاجات تؤشر منحا جيدا وان كان متأخر، في السابق كانت هذه المشاركة تنحصر في انصار اليسار والحركات الاجتماعية، اما اليوم فهي اوسع، وتمثل رد فعل على التعليقات الطائشة التي يطلقها زعيم البيت الابيض. ان هذه المشاركة ربما ستعزز المطالبة بضمان حقوق السود والملونين، خصوصا في المدن التي يشكل فيها هؤلاء أقلية سكانية. ويرى ناشطون حقوقيون ضرورةاعطاء مكافحة الفقر اولوية، وازالة التباين في نظام التعليم، وفتح ملف الرعاية الصحية للجميع.

عرض مقالات: