من يمارس نقد الرأسمالية كنظام اقتصادي ويتحدث عن شروره تصفه، ماكنة الاعلام الغربية بالمتطرف والشيوعي. ولم يسلم من هذا التوصيف حتى مرشح الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي الأمريكي بيرني ساندرز. ومنذ انتشار وباء كورونا والكثير من الإقتصاديين يحذرون من ازمة اقتصادية كشف عنها الوباء ولم يكن سببها، وبعضهم يشبه ما يدور بسنوات الكساد العظيم. من جانب آخر كشف انتشار الوباء خصوصا في المراكز الراسمالية المتطورة لا عن قصور استعداد هذه البلدان عن مواجهة اي استثناء او كارثة تحل فقط، بل والأهم من ذلك كشف الوباء مرة اخرى وبالملموس عن الطبيعة اللاانسانية للنظام  الراسمالي، على الرغم من "الرقي الحضاري" والتطور التقني الذي وصلته هذه البلدان.

ان متابعة التقارير الصحفية التي تصف الحياة في واحدة من المدن الامريكية الأكثر شهرة، واعني بها نيويورك، تعطي صورة ملموسة، وبعيدا عن التنظير، عن واقع الحياة في ظل الراسمالية، وخصوصا الامريكية منها. اصوات سيارات الاسعاف، ومروها السريع تطغي على الحياة اليومية في المدينة، وتعكر صفو السكان الذين يحتمون بمساكنهم من الوباء. واصوات الاسعاف هذه تعني بالنسبة لمن يجب مساعدتهم دفع آلاف الدولارات. وتكاليف العلاج تعني للكثير من المرضى مواجهة حالة الإفلاس. ان محدودي الدخل في المناطق التي ينتشر فيها الفايروس بسرعة هائلة، ومنها نيويورك يواجهون مصيرهم بمفردهم، فمن يمتلك عمل جيد او مربح يستطيع  فقط تحمل نفقات رعاية صحية جيدة.

وتقول التقارير ان احياء النخب تتقلص يوما بعد يوم بسب تصاعد عديد الذين يقدمون طلبات الحصول على مساعدة العاطلين المحدودة، ففي الاسابيع الاخيرة قدم 6,6 مليون مواطن في الولايات المتحدة الأمريكية طلب المساعدة، بسبب قيام الشركات، منذ بداية الأزمة، بعمليات تسريح جماعي للعاملين. والغريب ان كل هذا يحدث فيما يسمى بـ"ولايات الحق في العمل"، التي يتمتع فيها ارباب العمل بحريات واسعة تتيح لهم الطرد الكيفي للعاملين.

وفي منتصف نيسان افادت وزارة العمل الأمريكية، إن 5.245 مليون مواطن أمريكي قدموا طلبًا أوليًا الاسبوع الفائت للحصول على إعانة البطالة. وخلال 4 أسابيع ، أصبح أكثر من 20 مليون من العمال الأجراء عاطلين عن العمل. ويقدر الاقتصاديون أن الناتج الإجمالي المحلي للولايات المتحدة يمكن أن يتقلص بنسبة تصل إلى 10.8 في المائة في الربع الأول من هذا العام. وهذا أكبر انخفاض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وانخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 6.3 في المائة.

 والنتيجة تنافس غير مسبوق على المهن، التي ازدادت اهميتها بالنسبة للنظام، مثل العمل في محلات التسوق اليومي، البريد، والتمريض، التي تضاعف فيها  حجم العمل، ومعه واردات الشركات العاملة في هذه القطاعات، ولكن الاجور بقيت على حالها، رغم المخاطر الصحية الاستثنائية.

 ان على الذين لا يلبون شروط العمل الصعبة، بسبب رعايتهم لذيويهم، او لمعاناتهم من الامراض، التخلي عن اجورهم التي تمثلالضمان الوحيد لعيشهم، اما في حالات الطوارئ، او الوفاة فيمكن للزملاء الاخرين التبرع، باجازاتهم المرضية مدفوعة الأجر، كما يقول تعميم صادر عن مراكز بيع الاطعمة في سلسلة الاسواق التجارية التابعة لشركة آمازون العملاقة. وقد اصبح هذا التوجيه يمثل القاعدة وليس الاستثناء.

 في الولايات المتحدة، لا تقوم الحكومة الاتحادية بتحديد مدة الاجازة المرضية مدفوعة الأجر، وانما يترك ذلك لحكومة الولاية. في نيويورك الاجازة المرضية خلال سنة كاملة تبلغ 40 ساعة فقط، وفي نهايتها لا يدفع سنتا واحدا للعاملين. وهذا يدفع الكثير من العاملين الى العودة الى موقع العمل قبل شفائهم، لكي لا يفقدوا مواردهم، مما يوسع امكانية انتشار الوباء. والمهن التي تفرض الاختلاط بالزبائن مطلوبة اكثر من اي وقت مضى، والكثيرون لا يعرفون كيف يتدبرون دفع الايجار، وتغطية متطلبات حياة الحد الأدنى. ان مخاوف التشرد والمجاعة اصبحت في نيويورك مخاوف حقيقية وتهديد يومي.

و ظروف العمل القسرية تنعكس سلبا على الانخراط في النشاط النقابي، ففي العام الفائت، كان هناك 6,2 في المائة فقط  من العاملين في شركات القطاع الخاص يحملون هوية نقابية، وهذا ليس بعيدا ايضا عن ملايين من حملات الدعاية المعادية للنقابات، فضلا عن الغاء عقد العمل لكل من ينتمي لمنظمة نقابية.

ومع ذلك فان التصور المجتمعي في الولايات المتحدة يتغير، فالى جانب التغيرات الجدية في التوزنات السياسية والاجتماعية، يناضل الكثير من العاملين من اجل الحصول الحد الأدنى من متطلبات الحياة الضرورية. ويطالبون بنظافة فعالة، واجور مناسبة في حالة المرض والخطر إلاستثنائي، كالذي يعيشه العالم اليوم. وفي طريقهم هذا يواجهون خصوم اقوياء: ارباب العمل، اصحاب العقارات، والحكومة.

عرض مقالات: