بعد ثلاثين عامًا من انتهاء الحرب الباردة ، تعيش أوروبا من جديد تصاعد اجواء حرب باردة جديدة. هذا ما تعكسه  تصريحات قادة مراكز النفوذ، وما يعج به الاعلام التقليدي السائد في جميع بلدان القارة، فضلا عن الدراسات التي تصدرها مراكز البحوث التي تمثل مصالح المهيمنين. وفي الحقيقة لم تتوقف الحرب الباردة ، لكنها فقدت وضوحها وحضورها الصادم، بعد انهيار الاتحا السوفيتي وبلدان المنظومة الاشتراكية في شرق اوربا. وعدم توقف هذه الحرب يعود  لاستمرار الصراع بين القوى الكبرى  على مناطق النفوذ والمصالح الاقتصادية.

وفي 19 ايلول الحالي  ، أصدر البرلمان الأوروبي بأغلبية كبيرة قرارا بشأن أهمية الوعي التاريخي الأوروبي لمستقبل القارة. وصوت لصالح القرار 535 نائبا، مثلو المحافظين والديمقراطيين الاجتماعيين والليبراليين وأجزاء من الخضر ، إلى جانب المتطرفين اليمينيين والنازيين الجدد. والقرارًا يحمل  الاتحاد السوفيتي السابق المسؤولية الرئيسة في اندلاع الحرب العالمية الثانية، ويعترف بقرارات  الحظر المفروضة على نشاط عدد من  الأحزاب الشيوعية. وصوت ضده 66 نائبا وامتنع 52 نائبا عن التصويت.

لقد طرح مشروع القرار من قبل دول البلطيق وبولندا. ويساوي القرار الفاشية النازية بالشيوعية. ويشير الى انه على الرغم من أن "جرائم النظام النازي  قد تم كشفها  في محاكمات نورمبرغ وتلقت العقوبات المناسبة" ، إلا أن "الوعي بجرائم الديكتاتورية الستالينية وغيرها من الديكتاتوريات" يجب أن "يتم تعزيز الوعي بها بشكل عاجل".

ولذلك ، فإن البرلمان الأوروبي: "قلق من استمرار استخدام رموز الأنظمة الاستبدادية في الأماكن العامة والتجارية ، ويشير إلى أن العديد من الدول الأوروبية قد حظرت استخدام الرموز النازية والشيوعية".

وبشان بلدان اوربا الشرقية (البلدان الاشتراكية السابقة) ينتقد البرلمان الاوربي:" أنه لا تزال هناك نصب وشواهد  تذكارية في بعض الدول الأعضاء (على سبيل المثال في الحدائق والساحات والشوارع) التي تمجد الأنظمة الشمولية وتشوه الحقائق التاريخية حول أسباب اندلاع الحرب ومسارها وعواقبها".

لقد رفضت كتلة اليسار في البرلمان الاوربي القرار بشدة. وعلى الشاكلة نفسها جاءت مواقف قوى اليسار الجذري وطيف واسع من القوى التقدمية في القارة. وعلى عكس كل الدراسات التاريخية العلمية التي تناولت الحرب العالمية الثانية ومجرياتها، يزعم القرار ان اتفاقية عدم الاعتداء، الموقعة بين الاتحاد السوفيتي والمانيا النازية، فتحت الطريق لاندلاع الحرب.

 وبعيد القرار الذهنية التي بنت عليها قوى اليمين المحافظ المتشددة، وقوى اليمين المتطرف مواقفها في رفع راية العداء للشيوعية، حال سقوط النازية الالمانية والفاشية الايطالية.

 وفي مايلي عرض موجز للمعلومات المتوفرة، حتى ساعة اعداد هذا التقرير، عن مواقف عدد من قوى الييسار الجذري والمنظمات المناهضة للفاشية:

 اليسار الاسباني المتحد

خلال مناقشات القرار شددت سيرا ريغو عضو كتلة اليسار الاوربي عن اليسار الاسباني المتحد، الذي يمثل الحزب الشيوعي الاسباني قوته الرئيسة على: " السيدة الرئيسة، انا من الجنوب، من  بلد يضم ثاني أكبر مقابر جماعية في العالم نتيجة لجرائم  ديكتاتورية فاشية. لقد جئت من بلد تتزاحم  فيه  الساحات والشوارع التي تحمل اسماء القتلة الفرانكونيين ؛ من بلد بلا ذاكرة، مسح من الحياة العامة ما حدث في تاريخه الحديث. ومن اللافت أن هذا القرار يوظف التاريخ ولا يذكر، ولو لمرة واحدة، ما حدث في إسبانيا. نحن لا نتحدث عن الماضي فقط ، بل نتحدث عن الحاضرايضا.سيكون من المفيد الحديث  عن دور المنا ضلين الجمهوريين الأسبان في مقومة الفاشية في أوروبا، او عن المثال التضامني للالوية الاممية.ولهذا ننتهز هذه الفرصة للدعوة إلى وضع ضوابط للاستذكار والتعويض لتعزيز الكفاح ضد الفاشية، وكذلك توفير الامكانيات المناسبة لاستخراج رفات ضحايا فرانكو في اسبانيا.ان الذاكرة الاساسية اليوم في اوربا، التي ابتليت بفاشيات جديدة، تكمن في اعترافنا بدور أولئك الذين ضحوا بحياتهم لمكافحتها.

الشيوعي البرتغالي

واكدت النائبة ساندرا بيريرا من الحزب الشيوعي البرتغالي على:"ان المحاولة الخطيرة لمساواة الفاشية والشيوعية " تسعى الى  إلغاء جرائم الفاشية النازية، والتستر على ان  القوى الرأسمالية الكبرى هي  التي مهدت، ضمن امور اخرى، عبر معاهدة ميونخ، الطريق لاندلاع الحرب العالمية الثانية  وغزو الاتحاد السوفيتي". وقالت بيريرا إن القرار يسعى إلى إعادة تأهيل الفاشية و "يمهد الطريق لإضفاء الشرعية على وتعميم اضطهاد الأحزاب الشيوعية وحظرها.  ان هذا التواطؤ لا يزال اليوم قائما، . إنهم يريدون الغاء  المساهمة الحاسمة للشيوعيين في هزيمة الفاشية النازية ؛ مساهمتهم في تحرير الشعوب ، كما  حدث في بلدي ، البرتغال ، حيث وضعت ثورة القرنفل (نيسان 1974) نهاية  للنظام الفاشي".

قوى اليسار الايطالي

نشرت جريدة "منفستو" اليسارية الايطالية نداء قوى اليسار الايطالي الموجه الى البرلمان الاوربي، والذي وقعه ضمن عدد من الشخصيات اليسارية ماوريتسيو أيربو السكرتير الوطني لحزب اعادة التاسيس الشيوعي. ورفض النداء بشدة قرار الاتحاد الاوربي باعتباره "فعلا ثقافيا وسياسيا خاطئا" و"لا يجب أن تستند المطالبة الصحيحة بمكافحة العنصرية والفاشية إلى استخدام مشوه أو خاطئ للتاريخ أو إلى المطالبة باقتلاع قوة  أساسية في معاداة الفاشية مثل الشيوعية".

وانتقد النداءتحميل الاتحاد الأوربي اتفاقية عدم الاعتداء بين الاتحاد السوفيتي والمانيا في 23 آب 1938 مسؤولية اندلاع الحرب، في حين يصمت القرار عن " السلوك الخاطئ جدا لحكومات الديمقراطية الليبرالية تجاه سياسة التوسع التي اعتمدها النازية". وذكر النداء بغزو اثيوبيا في عام 1935، والحرب الاسبانية التي اشعلها الجنرال فرنكو عام 1936 . وكذلك " اتفاقية ميونيخ (1938) وما ارتبط بها من تقسيم لتشيكوسلوفاكيا ليس فقط من قبل ألمانيا ، ولكن أيضًا من قبل بولندا والمجر ، ويجب ألا ننسى ضم النمسا (الى المانيا النازية) في 11 اذار 1938."

وذكر النداء ايضا  بان الاتحاد السوفيتي في حينه سعى لعقد اتفاقية مع بريطانيا وفرنسا ضد المانيا النازية، وعندما تأكد من عدم امكانية عقد هذه الاتفاقية، اضطر الى عقد اتفاق عدم اعتداء مع المانيا النازية، في اطار توازنات القوى التي كانت قائمة يومذاك.

وجاء في النداء ايضا "بالاضافة الى ذلك لا يشير قرار البرلمان الاوربي الى المساهمة الهائلة في الانتصار على الفاشية النازية ، وهو أمر كان حاسما لمصير أوروبا والإنسانية ، سواء  التضحيات التي قدمها الاتحاد السوفياتي (أكثر من 25 مليون قتيل) وفي  جميع أنحاء أوروبا وخارجها في العالم ، وغالبًا ما قادت المثل العليا ورموز التيارات المختلفة للحركة الشيوعية العالمية المقاومة ضد القوات الهتلرية وحلفائها. وعندما نذكرهذه الحقائق لا يعني تجاهل أو إخفاء أخطاء وفظائع "الستالينية" ، للنجاح في تأكيد  الفرق الأساسي بين الفاشية والنازية من جهة، والشيوعية من جهة اخرى.

الشيوعي النمساوي

كتب فالتر باير عضو قيادة الحزب الشيوعي النمساوي ومنسق شبكة "تحول" للبحوث التابعة لحزب اليسار الاوربي مقالا ادان فيه النفاق السياسي للاكثرية في البرلمان الاوربي، واعاد الى الذاكرة الاحداث التاريخية والتضحيات الجسام للمعادين للفاشية على شاكلة نداء اليسار الايطالي التي تمت الاشارة اليه، واضاف باير تجاهل القرار التحضحيات الجسيمة للشيوعيين الفرنسيين ودورهم الرائد في تحرير فرنسا من نير النازية.

وشدد باير على انه "من المخيف أن يتفق الاجتماعيون الديمقراطيون الاشتراكيون، والخضر من ناحية ،وانصار اوربان والفاشيون الجدد في حزب الحرية النمساوي من ناحية أخرى ، على تفسير مشترك للحرب العالمية الثانية بعد ثلاثة أرباع قرن من التحرير". مستشهدا بفقرات القرار الاوربي المتعلقة بالنصب والرموز الاشتراكية التي تمت الاشارة لها. واشار باير بالاسماء الى النواب  النمساويين من الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر الذين صوتوا لصالح القرار.

العصبة العالمية لمناهضة الفاشية

اشار ييان العصبة الى ان القرار يمثل:" ردة أيديولوجية إلى أسوأ الأوقات في الحرب الباردة" حيث يتم "مساواة الظالمين  بالمظلومين  ، الضحايا بالجزارين والغزاة بالمحررين" ويمكن تلمس هذه الحقيقة في  هذه الفقرة العبثية من نص القرار: "من الأهمية بمكان لوحدة أوروبا وسكانها ، ولتعزيز قدرة أوروبا على مواجهة التهديدات الخارجية الحالية ، أن نتذكر ضحايا الأنظمة الشمولية والاستبدادية". والسؤال ما هي التهديدات الانية التي يتحث عنها القرار؟ يشكو قرار الاتحاد الاوربي بحق من تحريفية تاريخية، ويجري ادانة بعض بلدان الاتحاد التي تمجد المتعاونين مع النازية. وفي الوقت نفسه يتبنى الزعم التاريخي لهذه البلدان عندما يتعلق الامر بروسيا التي يتهمها بتزوير حقائق التارخ ونفي " جرائم النظام الشمولي في الاتحاد السوفيتي".

واضافت "على الرغم من  عودة صعود  الفاشيين الجدد  والعنصريين ، فإن القرار يسلك عمليا  طريق  شق صفوف القوى المواجهة للنسخ الجديدة من مشعلي الحرب العالمية الثانية، بدلاً من  السعي المسئول لتوحيد قوى السلام والديمقراطية في العالم

ولذلك  ترفض العصبة  القرار "الذي يدين الفاشية والشيوعية ويساوي بينهما، وتطالب الاتحاد الاوربي بمراجعة مواقفه والعودة على الاسس التي قامت عليها اوربا في العقود التي تلت النصر على النازية والفاشية، والعمل على بناء اوربا متحدة ومناهضة للفاشية، ونذكر بهذه المانسية بكلمة  رئيس البرلمان الاوربي الجديد في كلمة افتتاح دورة البرلمان الحالية" .ومن الضروري الاشارة الى" ان قرار البرلمان الاوربي يتناقض بالكامل مع قراره المناهض للفاشية والعنصرية الصادر في 25 تشرين الأول 2018 . ويتجلى هنا بوضوح تاثير النجاحات التي حققتها قوى اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الاوربي الاخيرة على قراراته".

 وفي عام 1945 حذر الكاتب الالماني ، الحاصل على جائزة نوبل للاداب توماس مان من:" إن وضع الشيوعية الروسية على نفس المستوى الأخلاقي مع الفاشية النازية ، لأن كليهما استبداديان ، هي في أحسن الأحوال سطحية ، وفي أسوأ الأحوال  فاشية. ومن يصر على هذه المساواة يمكن أن يكون ديمقراطيا ؛ وفي الحقيقة وفي قلبه ، هو  فاشي بالفعل ، وسيحارب  الفاشية  بمنتهى النفاق والشكلية، ولكن مع كراهية كاملة للشيوعية فقط".

 واصدرت رابطة الانصار في ايطاليا بيان ادانة مماثل لبيان العصبة.

*- نشر صيغة مختصرة للتقرير في طريق الشعب ليوم 26 ايلول الجاري

 

 

 

 

جنود سوفيت يساعدون ضحايا معسكرات الاعتقال النازية

 بعد تحريرهم كانون الثاني 1945             

 

 

 

 

عرض مقالات: