تتسارع احداث الصراع الدائر في فنزويلا بين معسكر الحكومة الشرعية المدعوم من الأوساط الشعبية والفقيرة، ومعسكر المعارضة اليمينية بشقيها التقليدي والمتطرف المعتمد أساسا على دعم الولايات المتحدة وحلفائها من حكومات اليمين في الدول المجاورة لفنزويلا وخصوصا كولومبيا والبرازيل. ويفرض تسارع الاحداث على العديد من وسائل الاعلام، وخصوصا تلك التي تنطلق من موقع التضامن مع الشعب الفنزويلي وحكومته الشرعية، التعامل بلغة الاخبار العاجلة والبرقيات. ان الصراع الدائر لا يزال مفتوحا على جميع الاحتمالات، ولكن سير الاحداث، منذ الثالث والعشرين من كانون الثاني الفائت، يؤشر عجز اليمين عن تحقيق أي مكسب نوعي، باستثناء المراهنة على القوى الخارجية. وحتى لحظات اعداد هذا التقرير حملت بعض المواقع اليسارية العواجل التالية:
بعد فشل مراهنات رئيس المساعي الانقلابية وفريقه في تحقيق اختراق نوعي تحت يافطة ادخال "معونات إنسانية"، كف البرنامج الاسباني لمحطة السي أن أن عن وصفه بـ "رئيس الجمهورية الانتقالي"، وعاد الى توصيفه باعتباره رئيسا للبرلمان فقط.
من جانبها أدانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مساء السبت الماضي سوء استخدام رموزها من قبل أنصار الانقلابين في منطقة حدود فنزويلا مع كولومبيا والبرازيل. وقالت ليتيسيا كورتوا ، رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في فنزويلا و "جزر أيه بي سي" على موقع تويتر إن احترام الصليب الأحمر أمر لا غنى عنه لعمل المنظمة.
وعلى صعيد دعم الحكومة لسكان البلاد، قامت "لجان التغذية والإنتاج المحلية" أمس السبت في جزيرة مارغاريتا بتوزيع سفينة تحمل 20 حاوية أو 540 طنا من الطعام على السكان المحليين.
وفي عاجل آخر فشلت المجاميع المسلحة اليمينية المسلحة في المناطق الحدودية في تحقيق نجاح يذكر مما دعاها الى طلب العون عبر منتديات التواصل الاجتماعية من " الرئيس غوايدو والاخوة في فنزويلا". وكانت وسائل الاعلام قد تحدثت عن اعمال شغب وحرق ناقلات المواد الغذائية، بهدف تسريع تدخل عسكري محتمل. وقد ردت قوات الامن الفنزويلي باستخدام الغازات المسيلة للدموع.

احداث متسارعة

أعلن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أخيرا قطع العلاقات الدبلوماسية مع كولومبيا وطرد موظفي السفارة بكراكاس.
من جانبه قال وزير الخارجية الكولومبي إن بلاده ستسحب دبلوماسييها من فنزويلا في أسرع وقت ممكن.
وزير الخارجية الفنزويلي اتهم الولايات المتحدة بالسعي الى توظيف حجة ادخال "معونات إنسانية" لاستخدام العنف في فنزيلا، وقال إن بلاده تريد السلام وهي مستعدة للحوار مع الحكومة الامريكية
وفي إشارة منه الى تعثر مساعي المعارضة وفشلها حتى الان، قال رئيس الجمعية التأسيسية الفنزويلية ديوسدادو كابيلو"إن يومهم الموعود في 23 شباط ذهب وكأنه كذبة جديدة"، وأضاف أن "المعارضة خدعت اتباعها وفشلت مجددا بالرغم من الحرب النفسية الهائلة". وأعلنت نائبة الرئيس الفنزويلي ديلسي رودريغيز أن سلطات بلادها قررت إغلاق ثلاثة جسور على الحدود مع كولومبيا بصورة مؤقتة.
وشهدت منطقة الحدود الكولومبية الفنزويلية توترا شديدا، واخذت الاحداث تتسارع بوتيرة لافتة.
لقد تحولت مناطق الحدود الفنزويلية الى مركز لاهتمام الرأي العام العالمي، وميدان لصراعات واستفزازات سياسية، وتهديدات يقوم بها اليمين المعارض المستند الى دعم دول الجوار، والولايات المتحدة الامريكية، مما دفع الحكومة الفنزويلية الى اغلاق الحدود المشتركة مع كولومبيا بشكل مؤقت. ويأتي هذا التطور بعد ان حدد رئيس المساعي الانقلابية السبت 23 شباط موعدا لإدخال "المعونات الإنسانية"، بعيدا عن الشرعية الوطنية والدولية.
وأدت الحملة الإعلامية المعادية التي تصور الصراع وكأنه بين معارضة تريد توفير معونات إنسانية وحكومة ترفض مساعدة مواطنيها، الى خلق حالة من الارباك وتضارب المعلومات.
ويستند انقلابيو اليمين على تراكم الخبرة الامريكية في صنع الاخبار الكاذبة، استنادا إلى شهود عيان مزعومين يتحدثون عن قيام الجيش الفنزويلي في ولاية بوليفا بالتدخل، بعد اشتباكات بين سكان المنطقة من الهنود الحمر وقوات الحرس الوطني. وتأتي هذه الاخبار والتقارير على شاكلة ما عرفناه من بلدان الصراعات التي كانت الولايات المتحدة لاعبا ودخيلا أساسيا فيها.
وكان الرئيس الفنزويلي قد أعلن الجمعة دراسة ما نفذ لاحقا: غلق الحدود مع كولومبيا بعد قرار غلق الحدود البرية مع البرازيل. كما أعلن تعليق المواصلات مع جزر آروبا، بونايري وكوراساو. ووجه نداءً للضباط الكولومبيين طالبهم فيه برفض المواجهة العسكرية مع بلاده.
وفي اطار آخر التطورات أعلن وزير الخارجية الكولومبي كارلوس أولميس تروجيلو أن رئيسه قرر إعادة شاحنات المساعدات التي كان مقررا ادخالها الى فنزويلا . وأكدت إدارة الهجرة الكولومبية أنه سيجري تفريغ قافلة من الشاحنات تحمل مساعدات إلى فنزويلا على جسر سيمون بوليفار على الجانب الكولومبي من الحدود.

نشاط دبلوماسي متواصل

وزير الخارجية الفنزويلي خورخي آريازا اتهم الولايات المتحدة بالسعي إلى فرض إدخال "المعونات" بالقوة، بينما تفرض حصارا ماليا ومصرفيا على الحكومة الشرعية، وتحرمها من استخدام وارداتها المالية لتوفير احتياجات الناس اليومية.
ويتابع الوزير الفنزويلي التطورات اولا بأول مع الأمين العام للأمم المتحدة. وقد اجتمع بالأمين العام وبمجموعة دعم فنزويلا، وشدد خلال الاجتماع على أن فنزويلا تريد سلاما مع الولايات المتحدة، وهي مستعدة للحوار، مشيرا الى ان المبعوث الأمريكي الخاص الى بلاده إليوت أبرامز ليس الشخص المناسب للتواصل مع دول أمريكا اللاتينية. ومعروف ان هذا الدبلوماسي الأمريكي مشهور بعدائه للشيوعية ولكل ما هو تقدمي، وله سجل حافل في تدمير بلدان القارة، وتشكيل مليشيات وفرق موت مسلحة كالتي عاثت قتلا وفسادا في السلفادور في ثمانينيات القرن العشرين.
وقال آريازا "نحن في منتصف المباحثات وفي حوار دائم مع حكومة الولايات المتحدة، سيكون هناك لقاء جديد قريباً مع المبعوث الأمريكي إليوت أبرامز وهناك ستتم مناقشة مستقبل العلاقة. انهم يحتلون مقاعدهم في الأمم المتحدة ومع ذلك فهم لا يحترمون أدنى مبادئها". واعتبر الوزير الفنزويلي التحذير الروسي من مغبة ارتكاب عمل استفزازي كبير ضد كراكاس، بالخطير فعلا.
وكانت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قد اتهمت واشنطن بإرسال قوات خاصة وآليات عسكرية إلى مناطق متاخمة لفنزويلا.
وأكدت وزارة الخارجية الفنزويلية وجود اتصال دائم بين الرئيسين الروسي والفنزويلي بشأن الأزمة التي تمر بها البلاد، وأن نائب الرئيس الفنزويلي قد يزور موسكو قريباً.
بدوره اعتبر الحزب الشيوعي الكوبي في رسالة وجهها إلى القوى السياسية والاجتماعية في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أن أي مغامرة عسكرية تحت ذريعة التدخل الإنساني في فنزويلا تنطوي على خطر حقيقي يهدد السلام في القارة.
نائب الرئيس البرازيلي هاميلتون موارو وصف التهديدات الأمريكية بتدخل عسكري في فنزويلا بغير المنطقية. وفي مقابلة له مع وكالة "فرانس برس" أكد موارو أن من حق كراكاس أن تفعل ما تشاء من جانب حدودها، مشدّداً على أن المسألة الفنزويلية لا يحلّها سوى الفنزويليين. وربما يعكس التصريح تقاطعا في الرؤية بين الرئيس البرازيلي ونائبه، بشأن ما يدور في فنزويلا.
استمرار الضغوط الامريكية على الجيش الفنزويلي
وتستمر محاولات الولايات المتحدة شق صفوف القوات المسلحة الفنزويلية، والضغط على الجيش للتقاطع مع حكومة البلاد الشرعية. وفي السياق، قال غاريت ماركيز المتحدث باسم مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون إن الأخير قرر البقاء في واشنطن وإلغاء زيارة إلى كوريا الجنوبية للتركيز على الأحداث الجارية في فنزويلا. وأضاف أن"الجيش الفنزويلي يواجه قراراً محورياً بشأن السماح بدخول قوافل المساعدات".
وأعرب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عن استعداد بلاده لـ"دعم" شعبي كوبا ونيكاراغوا وليس فنزويلا فقط. ومن المعروف ان الولايات المتحدة تسمي الحكومات اليسارية الثلاثة بـ "مثلث الشر" على غرار توصيف "محور الشر" المورث من عهد الرئيس بوش الابن. واستمرارا بعزف أسطوانة التحريض المكشوفة، قال بومبيو إن "إدارة الرئيس ترامب ستساعد وتستمر في القيام بذلك ليس في فنزويلا فقط ولكن، بطبيعة الحال، في نيكاراغوا وكوبا، آمل أن يفهم مواطنو هذه الدول أن الاستبداد المفروض عليهم وأنظمة الفساد، ليست بالقضية المستعصية التي لا يصعب حلها، وأن الوضع السيّئ والظروف المعيشية الصعبة التي يعيشون فيها ليست بالقضية التي لا يمكن التغلب عليها هناك.. آمل أن يكون لديهم حياة أخرى في حال بذلوا جهودهم في تحقيق وضع سياسي أفضل، سواء في فنزويلا أو نيكاراغوا أو في كوبا".
واتهم البيت الأبيض الجيش الفنزويلي باستخدام القوة ضد المدنيين والمتطوعين على الحدود مع البرازيل. وانتقد البيت الأبيض في بيان له قرار إغلاق الحدود الفنزويلية، داعياً الجيش الفنزويلي إلى السماح بدخول المساعدات. وتناول البيت الأبيض ما قال إنها تقارير صحافية تشير إلى مقتل شخصين وإصابة آخرين في المنطقة الحدودية مع البرازيل. في حين نقل المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك عن الأمين العام للمنظمة الدولية رفضه تسييس المعونات الإنسانية في فنزويلا.

طبيعة المعارضة اليمينية

يشير مسار الصراع الداخلي الى عدم تحقيق المعارضة اليمينية، حتى الان نجاحا لافتا. وفي بداية تصاعد الأزمة، أعاد خبراء في الشأن الفنزويلي عجز المعارضة الى طبيعتها التي تمتاز بالتشتت، وعدم قيامها بأي عمل سياسي في الأحياء. لقد تخلت المعارضة كليا عن مهمة تنظيم القطاعات الشعبية، التي تقف إلى جانب من يملكون الموارد لـ”حل” مشاكلهم اليومية. وحدها منظمات الدولة تتواجد في الأحياء الشعبية المنفصلة بشكل تام عن سياسات المعارضة، التي وجدت مخبأ لها في تويتر.
لقد أفلحت الحكومة تماما في توصيف المعارضة برديف “الفشل”. وبهذا النحو، أثارت لدى قادتها شعور هزيمة وحرمان. فرغم نجاحها الانتخابي الكبير وغير المألوف في العام 2015، حين حصلت على أغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية، تفككت كتلة المعارضة بسرعة قصوى. وفي عز التشتت، حل قادتها مكتب الوحدة وانصرفوا لاستعمال الشبكات الاجتماعية لمهاجمة بعضهم البعض بالشكل الأكثر فظاظة. اختارت المعارضة، في تطورها المتعرج، اعتبار كل عملية انتخابية مغشوشة، لكن بموقف انهزامي لا يتيح حتى النضال للدفاع عن الأصوات.
وانطلاقا من هذا، طورت سياسة استنكاف، أفلحت في نزع التسييس أكثر عن القواعد المعارضة. وامتنعت المعارضة عن التصويت في كل عمليات الاقتراع، وابتعدت بكيفية ضئيلة الفطنة عن القطاعات المفيدة سياسيا لأهدافها، ما أضعفها بنحو مأساوي، لدرجة أنها تبدو منحلة شكليا. وفي هذا السياق انبثق أطفالها الأشد تطرفا والأكثر مناهضة للسياسة. ورغم موهبة هؤلاء البالغة في تأجيج الشبكات الاجتماعية وإثارة حماس من لا يمارسون سياسة فعلية، فإنهم عمليا يميلون إلى أن يكونوا الأقل ذكاء والأقل مهارة في فن بناء تحالفات وتوافقات. وهذا كله يجعل المعارضة عديمة التأثير وأشد عقما. ويبدو أن الزمن يشير إلى أنه لم يبق لها خيار غير محاولة تحفيز جديدة لعملية تمفصل سياسي أكثر فأكثر تعقيدا. وفيما يتوجب عليها القيام بعمل ما، قررت المعارضة أن تعقد الأمل على حصول معجزة قادمة من الولايات المتحدة الأمريكية؛ أو الزوال في ضوء وعود غير قابلة للتحقيق.

طبيعة الازمة الاقتصادية

يشكل فهم الازمة الاقتصادية التي تعاني منها فنزويلا في السنوات الأخيرة، مفتاحا أساسيا لكشف الحملة الإعلامية المضللة التي تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد حكومة اليسار في البلاد. فالأزمة الاقتصادية في فنزويلا التي اهم عناوينها التضخم الهائل وفقدان الكثير من السلع، لا علاقة لها بالتجربة التقدمية التي بدأها شافيز، وهي أعمق وأقدم من ذلك بكثير، وليست هناك امكانية سريعة لحلها بغض النظر عن النظام السياسي الذي يقود البلاد.
هذه الحقيقة اكدها مايكل هادسن، أحد أبرز الباحثين الاقتصاديين الأمريكيين، في مقابلة مع موقع «ذي أونز ريفيو» The Unz Review، ونشرت جريدة الاخبار اللبنانية ترجمتها. وفي ما يلي استعراض لاهم الموضوعات التي طرحها الباحث الأمريكي:
كانت فنزويلا (قبل تشافيز) معتمدة على النفط، وتصرف دخلها من التصدير بشكل كبير على استيراد الطعام وضروريّات أخرى كان يمكنها إنتاجها محليّاً. كان تبادلها التجاريّ يتمّ على نحو واسع مع الولايات المتحدة، لذلك، ورغم ثورتها النفطيّة، راكمت ديناً خارجيّاً. منذ البداية، خشيت شركات البترول الأمريكيّة من أن تستخدم فنزويلا في يوم ما موارد نفطها لصالح كامل شعبها عوض السماح لصناعة البترول الأمريكيّة وأرستقراطيّتها الكومبرادورية المحليّة بابتلاع ثروتها. لذلك، جعلت صناعة البترول – بدعم دبلوماسيّ أمريكي -فنزويلا رهينة لها بطريقتين.
أولاً:-
لم تبنِ مصافي النفط في فنزويلا، بل في ترينيداد وفي دول ساحل الخليج الأمريكية الجنوبية. سمح ذلك لشركات البترول الأمريكية – أو الحكومة الأمريكية -أن تترك فنزويلا بلا أدوات «تسيير منفرد» واتّباع سياسة مستقلّة خاصّة بنفطها لأنّها تحتاج للمصافي. لا معنى لأن تملك احتياطات نفطيّة إن كنت عاجزاً عن تكريرها حتى تصبح قابلة للاستخدام.
ثانياً:-
تمّ حثّ مسؤولي البنك المركزي الفنزويلي على رهن الاحتياطات النفطيّة وجميع أصول قطاع النفط التابع للدولة (بما في ذلك شركة سيتغو) كضمان للدين الخارجي. يعني ذلك أنه في حال تخلّفت فنزويلا (أو أُجبرت على التخلّف من طرف المصارف الأمريكية من خلال رفض تسليم دفوعات دينها الخارجيّ في مواعيدها)، يصير حاملو الأسهم وكبار شركات البترول الأمريكية مخوّلين قانونيّاً للاستحواذ على الأصول النفطيّة لفنزويلا.
هذه السياسات المنحازة الى الولايات المتحدة جعلت فنزويلا أوليغارشيّة أمريكية - لاتينية تشهد استقطاباً نموذجيّاً. رغم كونها نظريّاً ثريّة بموارد النفط، تركّزت ثروتها في أيدي الأوليغارشيّة الموالية للولايات المتحدة التي أوكلت نموّها المحليّ الى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. السكان الأصليون، خاصّة الأقليّة العرقيّة الريفيّة وكذلك الطبقات الدنيا المدينيّة، تمّ إقصاؤهم من تقاسم ثروة البلاد النفطيّة. رفض الأوليغارشيّة المتغطرس تقاسم الثروة، أو حتى جعل فنزويلا مكتفيّة ذاتيّاً من السلع الأساسيّة، جعل انتخاب هوغو تشافيز نتيجة طبيعيّة.
لقد سعى تشافيز الى إعادة تركيز اقتصاد مختلط، مستخدماً موارد حكومته -أساساً من النفط -لتطوير بنية تحتيّة وإنفاق محليّ على الرعاية الصحيّة، التعليم، التوظيف لرفع معايير عيش وإنتاجيّة جمهور ناخبيه. ما عجز عن تنفيذه هو القضاء على الاختلاس والعمولات على حساب موارد القطاع النفطيّ، كما عجز عن كبح هروب رساميل الأوليغارشيّة، التي نقلت ثروتها إلى الخارج، وهربت هي نفسها. لم يكن ذلك «خاطئاً»، إذ إن تغيير اقتصاد ممزّق يتطلّب وقتاً طويلاً، بينما تستخدم الولايات المتحدة عقوبات و«خدعاً قذرة» لإيقاف مسار التغيير.
ولم يكن ممكناً أن يتّبع تشافيز ومادورو سياسة لصالح فنزويلا، تطمح لتحقيق استقلال اقتصاديّ، دون التسبّب في إغضاب الولايات المتحدة الأمريكية وفي تخريبٍ وعقوباتٍ من قِبلها. ما زالت السياسة الخارجيّة الأمريكية متركزة على النفط بقدر ما كانت عليه زمن غزو العراق في ظلّ نظام ديك تشيني. تقوم سياسة أمريكا على معاملة فنزويلا على أنها امتداد للاقتصاد الأمريكي، أي أنّ لفنزويلا فائضاً تجاريّاً من النفط تنفقه في الولايات المتحدة أو تنقل مدخراتها إلى البنوك الأمريكية. تقوم سياسة أمريكا على معاملة فنزويلا على أنها امتداد للاقتصاد الأمريكي
بفرض عقوبات تمنع فنزويلا من النفاذ إلى ودائعها في المصارف الأمريكية وأصولها في شركتها «سيتغو» المملوكة من الدولة، تجعل الولايات المتحدة من المستحيل على فنزويلا دفع دينها الخارجي، ما يجبرها على التخلّف عن الدفع، الأمر الذي يأمل الدبلوماسيّون الأمريكيّون استخدامه كذريعة لارتهان موارد فنزويلا النفطيّة وحجز أصولها الخارجية تماماً كما سعى «صندوق هدج للتحوّط»، المملوك من بول سينغر، أن يفعل بالأصول الخارجيّة للأرجنتين. وكما سعت السياسة الخارجية الأمريكية زمن هنري كيسنجر أن تجعل اقتصاد التشيلي «يصرخ»، تتّبع الولايات المتحدة نفس النهج ضدّ فنزويلا. إنّها تستخدم فنزويلا كـ«نموذج» لتحذير الدول الأخرى بألّا تعمل لصالحها الخاصّ بأيّ طريقة قد تمنع امتصاص المستثمرين الأمريكيّين لفائضها الاقتصادي.
ويقترح مايكل هادسن على أصدقاء فنزويلا: مثل الصين وروسيا على الأقل توفير آلية مصرفيّة بديلة ، حتى تتمكن فنزويلا من تجاوز النظام المالي الأمريكي والحفاظ على أصولها من خطر الانتزاع على يد السلطات وحاملي الأسهم الأمريكيين. وبالطبع، يمكنهما توفير ملجأ لما يمكن استرجاعه من ذهب من نيويورك ولندن.
و تحتاج الصين وروسيا وإيران ودول أخرى إلى تأسيس محكمة دولية جديدة لتقضي في الأزمة الدبلوماسية القائمة وتداعياتها المالية والعسكرية. مثل هذه المحكمة -وبنك دولي مرتبط بها كبديل عن «صندوق النقد الدولي» و«البنك العالمي» اللذين تسيطر عليهما الولايات المتحدة - تحتاج إلى أيديولوجيا واضحة لوضع مجموعة من مبادئ السيادة القوميّة والحقوق الدوليّة مع سلطة لتحقيق وفرض أحكامها.
وبشأن إيداع فنزويلا الكثير من ذهبها في المملكة المتحدة وأموالها في الولايات المتحدة. يشير هادسن الى عدم ثقة حقيقيّة في «مصرف إنكلترا» أو «الاحتياطيّ الفيدراليّ»، لكن لم يكن وارد في الأذهان أيضاً أن يرفض أي منهما السماح لمودع رسمي بأن يسحب ذهبه. الشعار التقليدي هو «ثق لكن تثبّت»، لكن عدم رغبة (أو قدرة) «مصرف إنكلترا» على التثبّت يعني أنّ ما لم يكن وارداً صار حقيقة.
أفضل ما يمكن أن تقوم به دول الجوار هو الانخراط في خلق آلية دعم للتخلي عن الدولار
ان رفض إنكلترا والولايات المتحدة الدفع لفنزويلا يعني للبلدان الأخرى أنّه يمكن رهن احتياطات الذهب الرسمية الأجنبية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، وحتى لأحكام المحاكم الأمريكية بتسليم الذهب إلى دائنين أجانب أو إلى أي طرف يرفع قضية ضدّ تلك البلدان وفق القانون الأمريكي. هذا الارتهان يجعل من الضروريّ على البلدان الأخرى تطوير بديل صالح، خاصّة أنّ العالم بصدد التخلّي عن الدولار وبقاء معيار صرف الذهب الطريق الوحيد لكبح عجز توازن المدفوعات الأمريكية أو أيّ بلد آخر يمثّل تهديداً عسكريّاً. الحفاظ على إمبراطوريّة عسكريّة أمر مكلف جداً، والذهب كابح «سلميّ» لعجز المدفوعات الذي يتسبب به الإنفاق العسكريّ.
وبشأن البدائل الممكنة للحكومات اليسارية والتقدمية ودول الجوار يقول هادسن: ان أفضل ما يمكن أن تقوم به دول الجوار هو الانخراط في خلق آلية دعم للتخلي عن الدولار، ومؤسسة دوليّة تشرف على شطب الديون التي تتجاوز قدرة الدول على الدفع دون فرض تقشّف ومن ثمّ تدمير اقتصاداتها. يجب كذلك إيجاد بديل لـ«البنك الدولي» يقدّم قروضاً بالعملات المحليّة، وذلك قبل كلّ شيء لدعم الاستثمار في الإنتاج المحليّ للطعام لحماية الاقتصاد في وجه العقوبات الخارجية حول الطعام، وهو مرادف للحصار العسكريّ عبر فرض الاستسلام من خلال خلق شروط مجاعة. هذا «البنك الدولي» للدفع الاقتصاديّ سيضع تنمية التعويل على الذات لأعضائه على رأس أولوياته، عوض دعم التنافسيّة في التصدير، بينما يغرق المقترضون بالدين الخارجيّ الذي يجعلهم عرضة للابتزاز الاقتصاديّ كالذي تعيشه فنزويلا.
باعتبارها بلداً كاثوليكيّاً، قد تطلب فنزويلا أيضاً دعماً بابوياً لشطب الديون ومؤسسة دولية للإشراف على إمكانية الدفع للدول الدائنة دون فرض تقشّف، هجرة، تهجير، وخصخصة للقطاع العام. نحتاج إلى مبدأين دوليّين، أولاً لا يجب أن تُجبر أيّ دولة على دفع دين خارجيّ بعملة (مثل الدولار وتوابعه) يعمل نظامها المصرفيّ على منع الدفوعات.
ثانياً، لا يجب أن تُجبر أيّ دولة على دفع دين خارجي على حساب خسارة استقلاليتها كدولة: لها الحقّ في تحديد سياستها الخارجية، في فرض ضرائب وخلق عملتها، وفي أن تكون حرّة في خصخصة أصولها العمومية للدفع للدائنين الخارجيين. أيّ دين على هذه الشاكلة هو «قرض كريه» يعكس لا مسؤولية الدائن أو أسوأ انتزاع أصول خبيث عبر حجز الرهن، وهو ما مثّل الهدف الأصليّ من تسليم القرض.

عرض مقالات: