اتصلت عبر الهاتف، قدمت نفسها  بلغة رصينة: انها مذيعة من اذاعة مونت كارلو. تم الاتفاق على موعد قريب لاجراء حوار معي في مناسبة صدور روايتي الجديدة.  حالما اغلقت الهاتف؛ استعدت وقع كلمة  "مونت كارلو"  يا له من تاريخ طويل يربطني بهذا الاسم... ايام الجبهة وحرب الثمانية اللعينة، كنت كاتب الطابعة الوحيد في مقر اللواء..   "اعني ادق واسرع كاتب طابعة في اللواء" وكنت امارس بعض الدلال عليهم...  اما كيف؟ فاليكم هذا المثال:  حينما تم توزيع  "الراديوهات نوع ناشنال وقيثارة" الى مقرات الاقلام..  طلبت من مقدم اللواء ان يعطيني راديو خاص بي، امتثل الرجل بسرعة..  فسلم الى عريف القلم راديو والي راديو..  كنت اضعه قرب طابعة  "الاوبتيما الزرقاء " واضع قربه علبة سكائر نوع السومر سن طويل وقدح من الشاي ومنفضة للسكائر..  وابدأ في رحلة العمل الشاق  "الضرب على الالة الكاتبة"  والتدخين وشرب الشاي والاستماع الى الاذاعات التي احب اذ كنت حرا في ادارة مؤشر الراديو نحو المكان الذي اريد..  وقد كنت احفظ عن ظهر قلب  توقيتات البرامج المهمة التي تبثها اذاعات  "صوت امريكا ولندن ومونت كارلو" بعد ان دبرت هوائي محلي مساعد للهوائي الخاص بالراديو.. فكانت الاذاعات تأتي الي في منفاي الشمالي  "وكنت مع مجموعة من الاصدقاء الذين يجلسون قربي.. مفتونين بصوت مذيعة من مذيعات مونت كارلو اسمها "هيام".. صوتها جميل ويدخل شغاف القلب بلا استئذان..  وهذا الامر كان يحرك المخيلة كثيرا في استحضار صورة للمذيعة.. عمرها..  استدارة وجهها..  لون شعرها  كيف يكون شكلها حينما تضحك..  وكانت تمتلك ضحكة ساحرة.. يومها  كنا على مشارف قلعه دزه  "ودائرة القلم في مكان مسلح".. كنت استمتع كثيرا ببرامج الاغاني والبرامج الاخبارية.. وخاصة الساعة الثامنة في اذاعة مونت كارلو.. حيث نشرة الاخبار الرئيسة..  والتي يصدح  في بعض اجزائها.. صوت سعد المسعودي الذي اعرفه شخصيا.. ومن كثرة حرصي على ابقاء المؤشر على اذاعة  "مونت كارلو" كان  عريف القلم يسخر مني وسماني  "محمد مونت كارلو" المكان الذي نعسكر لا يتعرض كثيرا الى القصف الا في فترات متباعدة..  وكنا لا نعير الامر اهمية لان القنابل كانت تتساقط بعيدا عنا..   عدا ذلك اليوم الذي  كنت اجلس  فيه مع بعض من جنود غرفة القلم.. وفي الغرف المجاورة توزع اخرون.. وبما يشبه الحلم سقطت قذيفتان هائلتان قريبا جدا منا..  وتحول النهار الى ليل تصاعد فيه غبار كثيف.. وتواصل تساقط الحصى والشظايا لزمن حسبته دهرا.. وبعد ان  همد كل شيء وجدت نفسي  في زاوية من زوايا الغرفة التي استحالت الى مكان لا يمكن الرؤية فيه..  لكني وبعد ان هدأ تساقط الاشياء الثقيلة على السقف او من خلال الشبابيك.. سمعت بوضوح  صوت مذيع اذاعة مونت كارلو، وهو يجري حوارا ساخرا مع "هيام" وكانا يضحكان بصوت عال..  اختلطت ضحكتها مع اصوات استغاثة كانت تصلني من خارج الغرف..  واصوات اخرى تطلب الاسعاف... تواصل ضحك المذيع  والمذيعة.. يومها تخيلت ضحكتها مختلفة عن ضحكتها كل يوم.  كانت تضحك بحزن على حالتي في تلك البرهة الثقيلة ثقل العالم.. خلتها شاركتني حزني وخوفي وربما فرحتي بالنجاة.. حتى اللحظة التي رنت فيها الساعة تشير الى بداية الاخبار..  سمعت نشرة الاخبار وانا كامن في مكاني لا استطيع التحرك لأني كنت احس بالم هائل يخترقني في ساقي التي يبدو انها كانت محشورة تحت  اشياء ثقيلة.... زحفت بصعوبة..  نحو الراديو.. ورفعت مؤشر الراديو حتى وصلتني فرقة الانقاذ التي نقلتني الى المستشفى وانا احمل في يدي المدماة.. راديو لونه اسود وفضي  وعلامته  "ناشينال".

عرض مقالات: