ربما تكون الفرصة سانحة لدعاة قصيدة النثر. سيجدون في هذه الفترة التي تشهد احتجاجات شعبية واسعة ضد السلطة الفاسدة التي تمتهن السياسة وفق أنظمة خليط من التوليتارية والقمعية والفساد، فرصة لتأكيدها كشكل فني منفتح على الأصوات الشعبية المهمشة، فمثل هذه الاصوات لن تجد لها في أية قصيدة عمودية او قصيدة التفعيلة ما يستوعبها، بل كانت ملحة إما بأنا الشعر، أو بالطبقات الإجتماعية، لأنها اصوات عفوية وشعبية عامة، وهذا يعني ليس من نظام متماسك يضبط ايقاعها الصوتي والوجودي، ولا من شكل تعبيري يعبرعن هويتها بدقة، أصوات تختلط فيها شرائح إجتماعية وشبابية، ومن يتابع سير هذه الأصوات في ساعة الاحتجاج اليوم يجد صوتها محددا بحقوق المواطنة والخدمات، والملل في من عدم التغيير. ومن يتتبع دلالة هذه الأصوات يجد أن اللا نظام في الاحتجاجات هو الشكل التعبيري الذي يعين هوية هذه الشرائح، لها صوتها، ولغتها، وطريقة اعتراضها، دون أن تخضع لأي شكل من أشكال التنظيم الاحتجاجي التي نعرفها عن التظاهرات السابقة، ولكن ليس معنى ذلك أن لايكون لهذا الصوت الشعبي  نظامه المنبثق من جدلية الحراك، وإذا ما ربطنها ظهوره الصوت بالبصرة، نؤكد أن الحداثة الشعرية التي ابتدأت مرافقة للتظاهرات السياسية في الخمسينيات في البصرة، وها هو صوت الحداثة يتجدد في البصرة أيضًا. مما يعني أن الأشكال النضالية القديمة في ظل العولمة وثورة الانترنيت ما عادت تستوعب حركة الحياة اليومية بأشكالها الحديثة، فخرج الصوت عن السياق العام الذي كان يقيده بقواعد تنظيمية  من اجازة التظاهر، وحصر ذلك بزمن ومكان محدد، هذا الوجه الجديد من النضال لم يكن قائمًا يومذاك، ولكنه في الوقت نفسه قد فتح مجالًا لا حدَّ له من الممارسة الشعبية قد تمس أمن البلد، وممتلكات الدولة، وحقوق العيش، وحداثة  القصيدة التي ننشدها.

ما تتطلبه قصيدة النثر ليس الخروج على الايقاعات المنظمة للشعر العمودي أو الشعر الحديث فقط، إنما تضمين الشعرية الحديثة صوت الشعب العام بأخطائه التعبيرية، بتصويباته، بحركة لا خطاب يحددها ولا إطار يسيج مطالبها، وهذه اللغة السياسية الجديدة استجابة للحراك الجماهيري الذي ضاقت به السبل القديمة للمطالبة بحقوقه وهو يرى أن شكل النظام وطريقة الانتخابات باسم الديمقراطية العائلية والحزبية تحولت لصالح فئة معينة، لذلك يكون خطاب الصوت الشعبي، قصيدة نثر عالية النبرة، وبلغة معاصرة، وبخطاب يختفي وراءه ملايين الناس، هذا الشكل كان جزءا من ثورة الشباب في فرنسا عام 1968، وقد سميت في بلدان أوربية بقصيدة "الصرخة" أو قصيدة "الاعتراض" أو قصيدة "الممانعة"، أو قصيدة الاحتجاج، أو قصيدة الصورة"، وكان ميدان ظهورها هو الشارع، ومادة نشوئها حركة الشباب وسميت في بلدان أخرى بالقصيدة "الحرة"أو"مسرحة صوت الشارع" وفي كل اشكالها التحرر من القيود القديمة تبنتها نخبة من المؤدلجين الرأسماليين.

اليوم تعلو الصرخة الوطنية العامة، كنتيجة للممارسة التي يسلكها النظام وقد استوعبت بداياتها ساحة التحرير ولكن، وكما يبدو، أن طريقة الاحتجاج في ساحة التحرير يتكرر خطابه، ليصبح قصيدة شعبية باطار عمودي أو قصيدة بقيود التفعيلة المنفردة. أي مازال التنظيم يقيده، أعني بالتنظيم مبدا السلمية.

شخصيًا، ومنذ زمن بعيد قلت أن مستقبل الشعرية هو قصيدة هو مستقبل الحركة الإجتماعية، هذه الطاقة الحرة والكبيرة التي يملكها التيار الشعبي، تؤسس لغتها وصورها وتكويناتها، وهي وحدها التي تجعل الخطاب المعرفي خطابًا سياسيًا شعبيًا منظمًا بطرائق قول تستوعب كل فئات الشعب، هذا يعني إن الخروج على ايقاع العمود الشعري هو الخروج على النمط التقليدي للأحتجاج، لقد قاد ثقافتنا وسياستنا واديولوجية الحداثة الى تبني طرائق مكررة للقول الشعري المعترض منذ ثورة العشرين وحتى اليوم، وما زالت هذه الطرائق غنية بحروفها المعرفية، وصورها الجماهيرية، ولكنها في مجتمع متحرك تقف عند حدودها القديمة، ما يحدث في العراق بعد 2003 يتطلب تغييرًا في أدوات الخطاب المعرفي والسياسي، واخذ سياق جديد غير السياق الذي نامت في حروفه أشكال الاحتجاج التي استوعبتها السلطة، من هنا أجد نفسي متبنيا تيار قصيدة النثر، قصيدة الصرخة، قصيدة غير المألوف، الذي يستوعب هذه الاحتجاجات الشعبية ويؤكدها من خلال لغة الجماهيرالواسعة المفردات، وخطابها الحديث الذي قد لا تمسك منه إلا الشكل العلني المباشر. للقصيدة الحديثة مثلما على الاحتجاجات، أن تؤسس نظامها المعرفي الجديد وسياق فلسفتها وإلأ عدنا كما ابتدأنا و الدوران في الفراغ.

عرض مقالات: