لم يلتحق "ابن أبو العتيك" بالمدرسة، ظلَّ أميّاً يرافق أبيه في تجواله اليومي في الأزقة والشوارع ويردد بصوته الطفولي الناعم، لازمة العتيك الشهيرة، يُلحّنها مقلّدا أباه، ثم يعيد والده العجوز تلك اللازمة مرة أخرى: "العنده ابطاله للبيع، كواني للبيع، عتيك للبيع، مكاين للبيع، صفر، حديد للبيع، طحين امْكمُّل للبيع، تمَّن امْشَمْبُر للبيع".
في أحد الصباحات، جلبت انتباهه موجة تصفيق عارمة من داخل بناية صغيرة مشيَّدة من القصب. تأخر الفتى، ابن العشرة أعوام، في سيره، ليصنع فاصلة مناسبة بينه وبين أبيه، تتيح له التخلص من ملازمته، وتمكنه من الاقتراب من سياج القصب لمعرفة ماذا يدور فيها؟
اقترب بخطوات حذرة. أزاح الكيس الثقيل المملوء بالقناني عن كتفه الأيسر ووضعه بهدوء على الأرض. ثم لصق وجهه بالسياج، وصنع كوَّة صغيرة بين القصب، فشاهد لأول مرة رجلا يرتدي بذلة أنيقة، وربطة عنق، ويمسك بعصا قصيرة، يشير بها إلى "شخابيط" بيضاء مكتوبة على لوح خشبي أسود.
كان الرجل يسأل أطفالا لا يرتدون دشداشة رثة مثله، ولا يحملون كيسا ثقيلا ويجوبون به الشوارع كل صباح. ثيابهم نظيفة.. قميص وبنطلون وحذاء. ويجلسون على مقاعد خشبية مرصوفة بانتظام. يرفعون أصابعهم، فيأذن الرجل لأحدهم، فينهض ويردد كلاما جميلا، فيصفق له الأطفال بحرارة.
قضم الفتى أظافره الملوثة بأسنانه، وتلفت يمنة ويسرة، ثم عاد وباعد بين القصب، فشاهد "الأفندي" يشير بعصاه إلى جملتين طويلتين كتبهما بأكثر من لون، ثم سأل التلاميذ:
-
من يقرأ هذه الجملة؟
نهض جميع الأطفال من مقاعدهم. رفعوا أصابعهم ورددوا بأعلى أصواتهم: أستاذ، أستاذ، أستاذ...
رفع "ابن أبو العتك" طربوشه الممزق عن رأسه، وحك شعره المُقْمِل بانفعال، تلفت بحذر، ثم تابع مشاهدته مأخوذا بما يرى ويسمع.
قال الصبي الذي أَذِن له "الأفندي" بالإجابة: "إلى متى يبقى البعير على التل"؟ ثم أجابه صبي آخر اختاره الأفندي من بين بقية الأطفال: "يبقى البعير على التل الى المساء".
اختار الرجل طفلا آخر وآخر، ثم قال: "من هو الشاطر الذي يقرأ الجملتين معا.. وقبل أن يهبّ الأطفال لطلب الإجابة، ويرفعوا أصابعهم، هتف الفتى ذو الشعر المقمل بأعلى صوته: "إلى متى بعير؟... الى المساء، الى المساء، الى المساااء"!
التفت الصبية نحو السياج باستغراب ودهشة، وتقدم "الأفندي" نحو فتحة القصب الصغيرة ملوِّحا بعصاه، فتراجع الفتى خائفا، حدق في عيني الرجل قليلا، ثم حمل كيسه وولى هاربا!