الحديث عن الثقل والغرق ليس الحديث عن علاقة الجسد بالماء، كما فعل أرخميدس، إنما هي العلاقة بين رؤية الوقائع ووضع الحلول لمعالجتها، وغالبا ما تتم المعالجة عن طريق الأيديولوجيا المهيمنة أو التي تفرضها القوى الحاكمة، وليس عن طريق فهم مشكلات الواقع ووضع الحلول المنطقية لحلها، فثمة حلول وهي  - المعتمدة في معظم البلدان التي تؤمن بالعرق والقومية والدين-لا تتم إلا عن طريق فرض أيديولوجيتها على الناس، وإفهامهم أن ما يجري هو قدر مكتوب على جباههم. فالأيديولوجيا، أو علم الأفكار، أو الدراسة التحليلية للأفكار، هي التي تعتمد مبدأ "الاخفاء والتغييب والتزييف والانخداع بالظاهر ، وعدم مطابقة ما في الاذهان لما في الاعيان". بمعنى أنها تزيف الواقع من أجل فرض حلول تناسبها وتثبت اديولوجيتها،  هذا هو المعنى الشامل للأديولوجيا منذ الثورة الفرنسية حتى اليوم، ويمكن التشعب من هذا الفهم إلى ما  يمر العراق به،  فالاعتقاد أن "كل ما هو عقلي واقعي" هو جزء من الاستبداد الأيديولوجي أي "أنهم يستبدلون نقد السلاح بسلاح النقد” كما يقول ماركس عن الهيجليين الشباب. وبذلك أشبه ما يكونون بغريق يعتقد أن بإمكانه النجاة من الغرق بمجرد أن يطرد من ذهنه فكرة الثقل"..  هذا الشعور المزيف هو ما يعتمده البعض  عندما يتناولون ظاهرة واقعية لكنهم يبعدون تصورهم العلمي ويستبدلونه بتصور مثالي او وهمي.. ما يتحقق في الأيديولوجيا المهيمنة أنها “قناع يخفي ويزيّف ويغيّب”  تخفي الأيديولوجيا قانون التقدم كما يقول ماركس، لان التقدم يتعارض مع مصالح الفئة الحاكمة، ويكشف عن عورات التخلف الفكري الذي يمارسونه في حل مشكلات البلاد، وفي مراحل معينة تصبح الأيديولوجيا قناعا  لإرادة القوة كما يقول نيتشه، وتبريرا للفعل غير القانوني، او فرض سلطة خارج منظومة القانون، وقد تسند السلطة بنصوص دينية وحكائية عن أوهام التاريخ . وتصبح الأيديولوجيا قناعا لفرض إرادة الذات الكاريزمية عندما تكون رغبات الحكام معيارا لوجودهم، أو للتباهي بانهم الشعب الأفضل، وأن اعراقهم أكثر نقاء وتأصيلا من أعراق الآخرين، اي  "نحن خير أمة" وقد تكون الأيديولوجيا تحقيقا للرغبات المكبوتة، حين تعمد إلى جعل قانون الرغبة مرشدا للعنف وللتمييز ولتدمير الغير، ومن يتأمل اشكال  الاقنعة الأيدولوجية يجد أنها جزء من ظاهرة الاستبداد، وتاريخيا برزت ظاهرة الأيديولوجيا المستبدة  في اواخر القرن الثامن عشر ايام نابليون، ونضجت في  أواسط القرن التاسع عشر، اي في مرحلة بلوغ الأنوار مرحلة النضج الفكري والمؤسساتي في اوربا، وحين اصبحت المجتمعات الأوربية قادرة وقوية بدأت في ممارسة أيديولوجيا الاستعمار في ميادين خارج جغرافيتها، خاصة في اسيا وامريكا اللاتينية محققة رغبة الرأسماليين في غزو العالم غير الاوربي، مبتدئين سياسة فتح طرق الملاحة وبناء السفن، مصحوبة بإرسال البعثات التبشيرية، ومن ثم الاستيلاء على الثروات  بقوة التقنيات الحديثة، وصولا الى فرض الثقافة العنصرية بأشكالها القومية والدينية، واخيرا تفضيل اعراق الشعوب  الآرية ، فعصر الأنوار الذي انتعشت فيه الأيديولوجيا بوصفها خطاب الكولينالية، ليس كله لصالح الإنسانية، ففيها اوجه مغايرة للتنوير، وأخرى ممهدة لتطور العلوم، وما اصابنا نحن في الشرق من هذا كله،  هو نهوض التيارات القومية وصولا إلى نزعاتها الشوفينية بعد الحرب العالمية الثانية.

الطريف في الامر أننا في الشرق لا نعي دور الأيديولوجيا في تدمير قوانا الذاتية، لأننا كنا نتصور ان الثقل التاريخي والحضاري الذي نملكه  وخاصة منطقتنا العربية ،سينجينا من مغبة الغرق في المهمات الأيدولوجية، فكنا نعتقد ان لدينا ثقلا حضاريا ومعرفيا ودينيا يمكنه ان يوازي الثقل المعرفي والتقني لعصر الأنوار، وهذا ما يشير إليه ماركس عن الهيجليين الشباب بالقول "يستبدلون نقد السلاح بسلاح النقد، وكأنهم بذلك اشبه ما يكونون بغريق يعتقد أن بإمكانه النجاة من الغرق بمجرد أن يطرد من ذهنه فكرة الثقل". وها نحن نغرق بأوهامنا من أننا قادرون على تبني الحداثة بعقلية متخلفة.

عرض مقالات: