للنص خصوصية كبيرة من حيث مقاصده الدلالية والمعنوية على الرغم من أنه يصبح مشاعاً بعد أن يذاع بين المتلقين، فتذهب ذائقة المتلقي بمؤلفه بعيداً. ولهذا كل شيء يعود الى النص، ان كان في التبعية الذرية أو كان في التبعية المرتبطة بعلاقات متعددة و متنوعة، و من ضمن هذا الذي يعود الى النص هو العبارات الانشائية التي تسبق النص وتأتي بعد عنوانه، وهي إحدى عتبات النص، بل هي النص الموازي ، كالعنوان مثلاً.
ولهذا نجد السرديين، قصاصين وروائيين، ينزعون الى البحث عن طرقٍ وأساليبٍ شتى لكتابة نصهم القصصي، مما يضعهم في صف التجريب في الأشكال التي ستقدم موضوعات قصصية أو روائية جديدة، وتطرح عوالم وشخوصاً جديدة على ذائقة المتلقي، فتعددت بذلك أساليب كتابة القصة و الرواية، ونهجت نهجاً مختلفاً بين قصة وأخرى، ورواية وأخرى، حتى بات من الصعوبة بمكان تعداد تلك الأساليب والطرق في تقديم عوالمها وأحداثها وشخوصها.
النصوص القصصية التي سنتحدث عنها في سطور هذه الدراسة هي واحدة من النصوص التي سلكت أسلوباً ونهجاً جديدين عما في النصوص الأخرى على الرغم من عدم جدة هذه الطرق والأساليب تاريخياً، إلا انه أسلوب يمكن القول عنه أنه أسلوب مركب بين القديم والحديث. فهو قديم بما يضع من عناوينٍ رئيسة أو ثانوية داخل النص، وجديد بما يضع من مقولاتٍ شهيرة لأناس مشهورين في ذاكرتنا نحن كمتلقين في بداية النص القصصي. وهذا ما يمكن ان نسميه بـ "العتبات".. كعتبات أبواب الدار والغرف التي تضمها تلك الدار، فلكل باب عتبته التي هي القسم الأسفل من إطار الباب المثبت في الجدار، والدخول الى الدار أو الى أي غرفة فيه تتم من خلال عبور عتبة الباب، وهذا العبور يتطلب سلوكيات وأفعالاً وعادات وتقاليد خاصة، ليس عند مجتمعنا الشرقي العربي الإسلامي فحسب، بل عند جميع شعوب العالم وبصيغ مختلفة ومتعددة. وقد تعددت هذه العتبات في القصة أو الرواية، فهناك عتبات رئيسة خاصة بالنص ككل، وهناك عتبات فرعية في متن النص.
واذا كان عبور عتبة باب في الواقع يتطلب سلوكيات و أفعالاً فهو عند قراءة النص القصصي، أو الروائي، او قراءة فصل قصصي أو روائي منها يتطلب مثل تلك السلوكيات والأفعال من خلال قراءة ما هو مكتوب في بداية النص القصصي، أو النص الروائي، أو الفصل، كعتبة دخول في عالم النص القصصي أو النص الرواية.
هذه العتبات ستجعل ذهن القارئ مستعداً ومهيأً لقبول الذي يأتي من القراءة، فيما هو مكتوب من أحداث من خلال استذكار أحداث المقولة المكتوبة، وما اليها من أمور أخرى، اذ تتداعى المخيلة بما اختزنته من ذكريات لها علاقة بما تثيره تلك المقولة.
العتبات التي سنتحدث عنها في هذه السطور- وهي نصوص موازية تدفع بالنص الى ان يكون نصاً متعالياً. حيث يشتمل على صور من صور التعالي النصي، كـ "العبر نصية" التي تدرس علاقة النص بعنوانه الفرعي و بسياقه الخارجي. و "التناص" مع نصوص أخرى سابقة له أو مجايلة. وغيرها من علائق متنوعة ومتعددة - وهي العبارات الانشائية التي تسبق كل نص قصصي، فضلاً على ما في داخل بعض النصوص من عتبات نصية.
***
على منضدة الفحص والتشريح النقدي المجموعة القصصية الثالثة للقاص فاهم وارد العفريت المعنونة "أمطار ظامئة" وهي تضم "27" نصاً قصصياً، أربعة من هذه النصوص تضم عتبات نصية سنتحدث عنها في السطور الآتية.
أمامنا نوعان من العتبات النصية، أو النص الموازي، في هذه النصوص الاربعة، فضلاً عن العتبات الاخرى التي لن ندرسها في هذه الدراسة مثل "العنوان، وصورة الغلاف، وألون الصورة والخط، وحروف الطباعة،... الخ"، لأننا معنيون فقط بالنصوص الاربعة، وهي:
ــ العبارات الانشائية في أول النص و تقع تحت العنوان. وهي أربع عبارات وردت في نصوص قصصية أربعة.
ــ العبارات التي داخل النص. وقد وردت في نص واحد وهو نص من النوع الأول .
ولو تمعنا النظر في استخدام هذه الطريقة في أربعة نصوص من مجموع "27" نصاً فإننا سنصل الى نتيجة مفادها: ان القاص الذي كتب هذه النصوص له مقاصده الدلالية، وهذه المقاصد هي أنها ذات مقترب يقوم بإضاءة النص، و إضاءة طبيعة العلاقات التي تربط مكونات النص وما فيه من عناصر وأثاث، ومن ثم تعطي النص القصصي اكتماله النهائي باكتمال شروط إنتاج الخطاب القصصي.
هذه العبارات ذات قيمة تداولية للنص، وأيضاً لها مقصدية توجيهية للمتلقي لتلقي ما يقرأ.
هذه العتبات النصية التي وردت في أول النص، هي:
1- "
حضن الأم أنعم وسائد العالم.. وثغرها أجمل أوراد الدنيا" لشكسبير. نص "ابتهالات في محراب الصمت".
2- "
الى أين أنت ذاهب يا كلكامش... ان الحياة التي تبغيها لن تجدها أبداً". اللوح الثالث من ملحمة كلكامش، نص "النبأ".
3 – "
عندما تفقد شخصاً حبيباً.. تخلو الدنيا في عينيك من كل بريق". لامارتين. نص "دموع ليست خرساء".
4 - "
من أكثر من ذكر الموت.. رضي باليسير من الدنيا". الأمام علي. نص "المساء الحزين".
اذا كانت القصة تنضح بالمأساة من أول كلمة فيها الى آخرها، فالمقولة التي وضعت في بدايتها لها مقاصدها الدلالية والمعنوية، حيث ان النص القصصي يتألف من شخوص ثلاثة: الطفل الذي يحتضر، والشيخ الذي يقرأ عليه الأدعية، والأم الحنون التي فقدت أعزاءها بسبب الاحتلال وما خلفه من أعمال التفجيرات داخل المدن، كل ذلك لم ينفع مع الصبي فغادر على الرغم من أنه يعرف بإحساسه وشعوره الطفولي أن حضن الأم مثل الوسادة الناعمة، وان ثغرها أجمل من أوراد و أدعية العالم، هذه التي يلقيها عليه الشيخ.
الطفل سينحاز بعد موته، وقد مات، الى حضن الأم ويترك الأوراد التي صبها عليه الشيخ.
أما المقولة الثانية وهي من ملحمة كلكامش فإنها تتطابق ومقاصد القاص الدلالية والمعنوية، إذ أن الحياة التي يبتغيها، يحلم بها، لا تكون في الواقع، أي أن أحلامه غير متحققة في الواقع.
فالحرب قد أثرت عليه من خلال تأثيرها على ابنته التي أصيبت بمرض "اللوكيميا " جراء القنابل التي وقعت على العراق ، ومنها قنابل "اليورانيوم المنضب".
و مقولة "لامارتين" في النص الثالث "دموع ليست خرساء "وهي تتحدث عن فقدان انسان عزيز، والنص كذلك، حيث يدفن الصبي أباه فيما هو منشغل بموته، وما زال بكاؤه المر يتصاعد نشيجه، فيما يظل الرجال الآخرون" الدفانه " غير مهتمين بالميت، وكأن الذي يحدث أمامهم مشهداً سينمائياً.
وفي قصة "المساء الحزين" ومقولتها المأثورة ، فالمتلقي يتلقى موتاً آخراً غير الموت في القصص الثلاثة، انه موت الجدة الذي يعادل عند الصبية الاحفاد كل مباهج الحياة ، وهذا ما كانت تقصده مقولة الامام علي في صدر القصة.
أما العتبات النصية التي جاءت في متن النص، أي في داخله ، فهي التي وردت في النص الثاني" النبأ"، مثل:
1 –
مشهد رقم "1" قرية أم الطبول.
2 –
مشهد رقم "2" قرية العتيبية.
3 –
مشهد رقم "3 " مدرسة جبل الشيخ .. قرية العتيبية.
4 –
مشهد رقم "4 " مدينة الطب .. مستشفى المنصور.
في نص" النبأ " قدم القاص نصه القصصي بمشاهد أربعة مؤرخة، المشهد الأول بتاريخ 1 / 3 /1991، المشهد الثاني بتاريخ 24 /3 /1991، المشهد الثالث بتاريخ 24 / 8 /1999، المشهد الرابع يحمل تاريخين، أحدهما تاريخ 25 / 8 /1999، والثاني تاريخ 14 /11 /1999. وكل تاريخين من هذه التواريخ يقعان في شهر وسنة واحدة، تفصل بينهما ثمان سنين، حيث يبدأ نص "النبأ" من السطر الأول بتاريخ ، وينتهي هذا النص بتاريخ آخر في السطر الأخير.
ان القاص قد روى جانباً من جوانب حرب الخليج الثانية ، ان كان ذلك أثناء المعارك، أو أثناء الحصار الظالم على العراق، وامتد زمن الحكي في القصة الى ثماني سنين، لهذا جعل القاص نصه يأتي على شكل مشاهد قصصية وليس على شكل مشاهد مسرحية، وقد استخدم القاص تقنية "المجمل " وتقنية "الاضمار" في نظرته الى الزمن.
***
العتبات النصية التي استخدمت في النصوص الأربعة حققت إنجازاً فعلياً للنصوص، ومن هذه الإنجازات:
-
شكلت نصاً موازياً للنص الاصلي، إلا انه نص لم يعط نفسه للمتلقي دون النص الاصلي.
-
قامت هذه العتبات النصية بإضاءة النصوص التي وردت فيها.
-
ذات قيمة تداولية للنص، ولها مقصدية توجيهية للمتلقي لتلـَقي ما يقرأ.
ان العتبات هذه التي هي نصوص مستقلة ومكتفية ذاتياً قبل أن توضع في بداية النص القصصي، قد خضعت لاختيار قصدي من الكاتب، وهذا الاختيار ينفي منها الاعتباطية. ومن هذه القصدية تكون هذه العبارات نواة للقصة وبؤرتها التخيلية التي تكون جزءاً من بناء النص.
وقد تعالقت هذه العتبات مع نص القصة التي وضعت في مقدمتها على مستوى المضمون.
ومضمون القصص هو الموت بحد ذاته.

عرض مقالات: