ليس المجذوب شاعرًا يصف الأشياء كما هي، بل عابرٌ بين الرؤى يخلق ما يجب أن يكون… ولذلك لم يكن غريبًا أن يراه بشرى الفاضل “رسّام الشعر”، فالمجذوب لا يكتب القصيدة كخطاب، بل يرسمها كمشهدٍ يُرى قبل أن يُقرأ، ويُعيد ترتيب العالم بحيث تصبح “القصيدة” أقرب إلى لقطة سينمائية تتشكّل برؤيةٍ تُضاء من الباطن، وكأنها تخرج من سرٍّ يتنفّس داخلك… ذلك لأن اللغة عنده ليست وسيلةً للتسمية، بل مادةٌ حيّة تُطرق كما يُطرق الحديد؛ تُعاد صياغتها حتى تتوهّج. وكأن المجذوب، في لحظاته الشعرية، يُجرّب أن يرى بالباطن أكثر مما يرى بالبصر، فيكتب بما يسمّيه بعض المتصوّفة “نور الإدراك”… ذلك الشعاع الذي يسبق الرؤية ويشكّلها.

 والشكلانية في شعره ليست منهجًا يُطبّقه، بل أثرٌ يظهر حين تتحوّل مفرداته إلى كائناتٍ تستقل عن الواقع… فالصورة عنده ليست وصفًا، بل "تجريب جمالي" يُعيد الكلمات إلى أصلها الحسي، حتى تكاد تشمل وجودًا كاملًا. وما قاله بريخت ينطبق عليه: “الفن ليس مرآةً نواجه بها العالم، بل مطرقة نشكّله بها”… وهذا ما يفعله المجذوب تمامًا؛ لا ينقل المشهد، بل يعيد تشكيله كي يرى العالم شكله الحقيقي، قبل أن تفسده العادة.

 في مقطع مثل:

 “وحفرة بدخان الطلح فاغمة

تُندي الروادف تلوينًا وتعطيرًا”

 تبدو اللغة وكأنها تتخلّى عن رصانتها لتتحوّل إلى بخارٍ بصري يتصاعد من طقسٍ سوداني قديم: طقس “الدُخان”. هناك، في ذلك المقام المنخفض، تجلس الروح على فتحتها الخاصة، ويتسلّل الصعود من الأرض إلى الجسد كأن الحرارة تُعيد صهره ببطء. يتسرّب "دخان الطلح" عبر الجلد فيصبغه بالخُمرة ويُعطّره بعمقٍ حسيّ يعرفه السودانيون جيّدًا… هنا لا تُقدَّم المرأة كجسدٍ يُرى، بل كطاقة حسّية تتفاعل مع المكان… كأن الدخان ليس رائحةً بل ذاكرةٌ تُستعاد بالنار.

 والمجذوب في هذه اللقطة لا يقف في موضع الراوي، بل في موضع المصوّر الذي يترك الكاميرا تتقدّم وحدها نحو تفاصيل الجسد، نحو يدٍ “مدّت بنانًا به الحناء يانعة”. وكأن المشهد يُكتب خارج المقاييس الأخلاقية والبلاغية في آن. فليس الأمر استعراضًا للجسد، بل كشفًا لطريقةٍ قديمة في استعادة الحيوية… طريقةٍ تجمع بين الطقس والحرارة والعطر، وبين ما هو جمالي وما هو غرائزي في تركيب الإنسان. إنّه يكتب الجسد بوصفه جزءًا من اقتصاد الحسّ في الثقافة السودانية: الطلح، الشملة، الدخان، الحناء… كلها ليست زينة، بل أدواتٌ تُعيد الإنسان إلى جلده، وتقدّم الأنثى ككائنٍ يتشكّل بالرائحة قبل أن يتشكّل بالكلمات.

 ذلك أن الجسد عنده ليس إثارة، بل “مشهديّة” تتجاوز حدود المسمّى لتصبح فضاءً داخليًا… كأن الجسد هنا هو اللوحة، واللون هو الفكرة، والظلال هي معنى لا يمكن قولُه بل يمكن رؤيتُه.

 وما ينجزه المجذوب هنا ليس توصيفًا لجسدٍ يُرى، بل تثبيتًا لفضاءٍ تتناسل فيه الحواس:

العين تُدرك تصاعد الدخان،

والأنف يستعيد رائحة الطلح،

واللمس يرى قبل أن يلمس حين تمرّ الشملة فوق الساقين والدخان يتسرّب من بين مساماتها،

والأذن تُصغي إلى الجسد وهو يبوح بحركته داخل دخانٍ “يرقّ كالدمع في الخد تلماحًا وتغويرًا”…

 هكذا تتحوّل الحاسة إلى صورة، والصورة إلى نبض، والنبض إلى معنى…

 وهذه المشهدية التي تظهر في “الدخان” لا تقف عند حدود الطقس المنزلي؛ إنها تمتدّ إلى الطقس الشعبي الواسع في “ليلة المولد”، حيث تتكرر البنية الشكلانية نفسها لكن على مستوى جماعي. ففي مقطع من القصيدة:

 “وهنا حلقة شيخ يرجحن…

يضرب النوبة ضربًا فتئن وترن

ثم ترفضّ هديرًا أو تجن

وحواليها طبول صارخات في الغبار…

حولها الحلقة ماجت في مدار”

 يتحوّل الإيقاع إلى دائرة بصرية، لا إلى وزنٍ شعري. الحركة هنا ليست وصفًا، بل تكوينٌ تشكيلي: حلقة تتماوج… طبول تتصاعد… غبار يتكثّف… وكأن المجذوب يُخرج مشهدًا بكاميرا من زاوية مرتفعة ترى الجموع كتكوينٍ واحد، كما رأى جسد المرأة كتكوينٍ واحد داخل الدخان. إنها "الشكلانية الشعبية"، حيث يتحوّل الجسد من فردٍ إلى جماعة، وتصبح الحركة وحدة بناء تُنتج معناها من داخلها.

 وفي بيت آخر من القصيدة نفسها، يتحوّل الداخل إلى رؤية حين تُغلق عين الشيخ على كونٍ كامل:

“عيون الشيخ أُغمضن على كونٍ به حلمٌ كبير”

 إنها الحركة نفسها: البصر يتراجع، والبصيرة تتقدّم… كما يلمع الدخان كالدمع على الخد، يلمع الكون في الداخل حين تُغلق العين. كلاهما مشهد يسبق اللغة، وكلاهما رؤية تتكوّن من الداخل إلى الخارج، لا العكس.

 وتظهر هذه الاقتصاديات الحسيّة - ولكن بشكلٍ راقص - في لقطة “الطار”:

 “وفتى في حلبة الطار تثنّى وتأنّى

وبيمناه عصاه تتحنّى

لعبًا حرّكه المدّاح غنّى

رجع الشوق وحنّا…”

 هنا يصبح الجسد خطًا تشكيليًا، والإيقاع حركةً مرسومة، والغناء محرّكًا بصريًا. هذا مشهد “مرسوم”، لا “مكتوب”. عصا الفتى ليست أداة؛ إنها خطٌّ ينحني ويتردّد، حركة تتشكّل في الهواء مثل فرشاةٍ على قماشة، تمامًا كما تتشكّل ألوان الدخان على الجسد في قصيدة دخان الطلح.

 وهذا ما يجعل الصورة عنده تُرى بالبصيرة لا بالبصر؛ فهي لا تأتي من مراقبة خارجية، بل من وعي بالحركة يتجاوز الجسد إلى ما حوله: من "حفرة الدُخان" التي تحتضن النار، إلى الهواء الذي يتكثّف، إلى اللون الذي يتبدّل، وإلى العلاقة المعقدة بين الجسد والعادة والطقس.

وهنا يستدعي المجذوب خبرته في أقاليم السودان التي جابها أثناء عمله: من الجنوب حيث رائحة الصندل… إلى الشرق حيث البنّ والتُمباك…إلى الشمال حيث الطلح والدخان… وكل ذلك يدخل قماشة الصورة دون أن يُذكر اسمه صراحة.

 ولم يكن المجذوب ليغفل الجانب الطبقي للسودانوية الروحية، لذلك يضرب صورةً أخرى في المولد تُكثّف الفرح والحزن في آن:

 “لهفتا كم عصف البؤس بأطفالٍ صغار

وردّوا المولد بالشوق وعادوا بالغبار”

 هنا تظهر السودانوية في جوهرها: الفرح فوق السطح، والبؤس في العمق… الحركة دائرة، لكن المصائر ليست كذلك. وهذه التفاصيل الصغيرة، كما قال لوكاتش، هي التي تكشف البنية الكاملة للعالم.

 ولذلك تبدو القصيدة كأنها تُبنى من طبقات، كما يفعل في “نار المجاذيب” حيث يمتزج التصوّف بالجسد… وفي “الشرافة والهجرة” حيث يمتزج المكان بالذاكرة… وفي قصائده عن البسطاء حيث يمتزج التعب بالأمل. وبهذه الطريقة يتّضح أن المشهد يسبق اللغة، وأن الصورة ليست زينة بل جوهرٌ معرفي.

 ومن الاحتفال الجماعي ينتقل المجذوب إلىالعراء الاجتماعي، حيث يصبح الجسد سؤالًا طبقيًا قبل أن يكون صورة داخل أحد نصوصه… ويتجلّى ذلك بوضوح في قصائده عن البسطاء والمهمّشين، حيث يذهب المجذوب إلى أقصى تجريدٍ واقعيّ حين يكتب الجسد بوصفه سؤالًا أخلاقيًا معلّقًا على حافة الفراغ. ويظهر ذلك بوضوح في واحدٍ من أكثر مشاهده قسوةً وجمالًا معًا، في قصيدته “شحّاذ في الخرطوم”، حين يقول:

 “عيناهُ نافورتا دمٍ

رشاشُها على ثيابي…

حاذر من المجذوم…

وصحّة الخرطوم”

 هذا المشهد لا يُكتب بالرحمة، بل يُكتب بالفضيحة… فالعينان هنا عينا فقيرٍ تتحوّلان إلى نبضيْن يتدفّق منهما نزيف المدينة؛ صورةٌ تتجاوز الفقر نحو ما هو أعمق: تفسّخ المدن، وخراب الصحة العامة، وتحوّل الإنسان إلى جرحٍ مفتوح في الشارع.

 إنها لقطةٌ سينمائية تُرى من زاويةٍ منخفضة، كأن الكاميرا تحتكّ تمامًا بجسد الخراب… نزيفٌ يتقافز، وقميصٌ يتلوّن بلا استئذان، والجملة التحذيرية “حاذر من المجذوم” تُطلق كسوطٍ فوق ظهر المدينة.

وهنا تبلغ السودانوية في شعر المجذوب ذروة انكشافها:

المدينة لا تحمي أبناءها، بل تُنتج مرضهم، وتخافهم، وتُبعدهم، ثم تُسمّي ذلك “صحة الخرطوم”… مفارقةٌ تكشف طبقةً من العنف الرمزي لا تقلّ فتكًا عن الفقر نفسه.

 وبهذه اللقطة يتجلّى الحدس الطبقي الذي تحدّثنا عنه:

فالمجذوب لا يصف المهمّش، بل يمسح الكاميرا بدمه؛ يجعل الصورة نفسها مُهدَّدة بالتلوّث.

ولذلك يصبح الجسد هنا علامةً سياسية تتجاوز الشعر، وتضع القارئ في مواجهة الخرطوم وهي تُدير وجهها عن أبنائها.

 

 

وهذا الجرح الذي يفتحه المجذوب في وجه الخرطوم لا ينفصل عن طريقته في رؤية الجسد كلحظةٍ حسّيّة تُضيء الداخل… فالمجذوب، في نصوصه، لا يكتفي بالوصف، بل يُعيد تشكيل الوجود عبر الحسّ. “فالدخان” لا يغطّي الجسد، بل يكشفه بطريقة أخرى: يجعل ملمسه جمالًا… ورائحته سردًا… ولونه علامةً داخلية لا شكلاً خارجيًا. ولذلك إذا رجعنا إلى "دخان الطلح"

نجده يقول:

 

“يرقّ تحت دخان الطلح ساورهُ

كالدمع في الخد تلماحًا وتغويرًا”

 

فهو لا يشبّه الدخان بالدمع من حيث الشكل، بل من حيث الأثر… ذلك اللمع الحزين الذي يشبه الاعتراف: اعتراف الجسد بحاجاته، وأنّه يريد أن يخرج من صمته باللون والحرارة والرائحة.

 

هذه المشاهد مفاتيح للدخول إلى البنية الداخلية للعالم. ولهذا يبدو المجذوب شاعرًا يكتب بحدسٍ طبقيّ لا واعٍ… حدسٍ يرى الهامش ويضعه في قلب المشهد. فالجسد في شعره ليس جسدًا منفصلًا عن العالم، بل جزءًا من سردية أكبر تُذكّر بما قاله لوكاتش: “الفن العظيم هو الذي يجعل التفاصيل الصغيرة تضيء البنية الكاملة للعالم”… وفي قصائد المجذوب تفاصيل صغيرة لكنها تكشف بنية كاملة من الرغبة والذاكرة والطبقات الاجتماعية والأمكنة الريفية التي تهتز فيها الحسّيات أكثر مما تهتزّ السياسة.