نص "رأيته" للشاعر مقداد مسعود لوحة فنية تقدم رؤية رمزية لدواخل الإنسان الغاضب العنيف، ذلك الغضب الغاشم الذي يحطم الجمال والفن والعلم ويحقد عليهم دون أدنى سبب عقلاني. جُملُ النص قصيرة تعكس جو القصيدة المتوتر لكنها ترسم حبكة درامية متصاعدة تبدأ بالتدمير ثم الوعي بالتدمير وأخيراً الانكفاء مع امكانية استمرار هذه الدورة الجهنمية.

     ولكي يُرينا الشاعر هول الحدث فهو يُصور الشخصية كمخلوق غريب وشاذ ومُدمر يقوم بكسر الزجاج وحرق المكتبات والأشجار، وهي رموز للمعرفة وللحياة، ولا يستثني صور العائلات التي تمثل الترابط الاجتماعي، وكذلك المتاحف، رمز الحضارة والتاريخ. إنّ غضب هذا الكائن عدميٌ وحقودٌ يستهدف الحياة والجمال بكل معانيهما. وحين ينام هذا الكائن، وهو نادراً ما ينام، تعود الحياة إلى جمالها ورونقها فيمشي ضحاياه بأناقة في الشوارع وتزدهي الأشجار وتُصبح صور العائلات مصابيح تنير حياتهم. ومادام ذلك يحدث في أثناء نوم ذلك الكائن فتلك إذن رؤيا تكشف أنه يعرف معنى الجمال والبناء إلّا  أن في دواخله عقدة مأزومة وهي عدم القدرة على تقبّل الحب والحياة والرفاهية، و هذا التقبل قوة ينماز بها الأصحاء، ويفتقدها ذلك الكائن وأمثاله. هذا التناقض بين وعيه التدميري ولا وعيه العارف بالضمير الإنساني يخلق توتراً درامياً بين هذين الحالين. وحين يستيقظ من أحلامه يواجه واقعاً مريراً وعزلة وجودية هائلة ناتجان عن فهمه لسوء ما يفعله. ومن ثم يظهر له "شخص كأنه هو قبل أن يشتد أزره" وهو بذلك يؤكد أن ذاته ضائعة ولا يستطيع التواصل معها رغم أنها جزء منه، وذاك ربما يزيد من عذاباته وصراعه اللامجدي، فيبدو يائساً وغير قادر على أن يكون غير ما هو عليه، فلا نرى نحن، ولا يرى هو غير "سريره، وساقيه المتدليتين".

     ورغم أن الشاعر يمنحنا الأمل في آخر النص حيث تظهر "وردة بحجم بستان" و "طفلٌ يحرث أرضاً طرية بمسحاة من فضة" حيث تزدحم الطبيعة الممثلة بالوردة والبستان والأرض الطرية، والطفولة النقية نقاء بياض الفضة، لكن الشاعر، في الوقت عينه، لا يربط الأمل بهذا الكائن، بل هو يُدينه لأنّه، أي الكائن، قد شذّ عن الوضع البشري السليم وانهارت لديه القيم الإنسانية القويمة لأن "من يقتلُ كهلاً في عزلته فهو يحرق مكتبة ويهدم معبداً"، وذاك ما كان الكائن يفعله ولو بشكل رمزي.

     ورغم أن هذا الكائن يحاول الهروب من نفسه إلى برجٍ يعتزل فيه الناس والحياة، يحرسه جيش من الفخار إلّا أن الفخار يتحطم ويبقى الكائن منعزلاً، قلقاً، معذّباً، مستمراً في حياة سقيمة لا خلاص فيها. إن جملة "يتجدد ولا يتبدد" تؤكد استمرارية الشر ولا نهائيته، وهي تترك القارئ في حالة من دوارٍ مخيف.

رأيته وأراه/ مقداد مسعود

منذ كانت وجوه الناس مرايا الناس. والطيور تحط على الأكتاف. ومن الأشجار يتلقى البشر الحكمة. رأيت هذا الكائن غضبا لا يخفت، يكسر أي زجاج يصادفه، يفتش عن وجوه خاصمته في أحلامه، ليذبحها. رأيته يضرم النار في المكتبات والأشجار والظلال، ولا تنجو منه صور العائلات والمتاحف من يسأله، يتدلى من ربطة خشنة.

(*)

حين يسقطه النعاس على سريره نادراً ما يحدث ذلك – يرى كل ما قام بتدميره، قد استعاد جماله الحيوي المشع يرى المشنوقين بكل أناقتهم يتمشون في شوارع تحرسها الأشجار التي حرقها المكتبات والمتاحف عامرة بشموخها صور العائلات مصابيح غرف البيوت.

(*)

يرتجف في نومه يقفز مفزوعاً، يتلفت : صحراء.. ليلٌ قاتم لا أحد سوى سريره، وساقيه المتدليتين من السرير. فجأة يظهر شخص كأنه هو قبل أن يشتد أزره، يحاول أن يقترب منه فلا يصل إليه في الجهة الأخرى يرى وردة بحجم بستان ينبجس منها طفل يحرث أرضا طرية بمسحاة من فضة.

(*)

تتعالى أصوات نائية : من يقتل كهلا في عزلته فهو يحرق مكتبة ويهدم

معبداً.

عرض مقالات: