العناكب تتسلق جدران المكتب ذات اللون الابيض المصفر كأنها التيه، ينعكس الضوء الخافت المنبعث من سماء شتوية من خلال فتحات صغيرة عند زوايا السقف ليسقط فوق تلك المكاتب كسياط تجلد توابيت بقيت مرمية هناكمنذ ازمنه بعيدة.... لا شيء واضح فوق تلك المكاتب.. ربما اوراق، أكاذيب مدونة، اقلام مهشمة، أعقاب سكائر.. اشياء نسيت منذ زمن. أرقام هواتف لفاجرات أو لباعة خمور، اسلحة قديمه تنام ايضا فوق زوايا المكاتب سرعان ما تستلها العناكب مهددة الوجود بالخراب.
إيقاع حذاء أحد العناكب يدور في الممرات الجليدية، تدفعه رغبة ملحة للبحث عن ضحية أو لاستعراض قدرة أطرافه على الحركة والقتص و المراوغة.
أصوات حبات المطر المتساقط فوق جدار قبو العناكب الخرب.. أيقظت بعضها اذ بدا كنداء الطبيعة الذي يدعو الكائنات الحية لمواصلة اعتلاء العجلة العملاقة للزمن فهو الصوت الوحيد.. لهذا كان يدعو العناكب فتسرع لنصب الشباك واصطياد الضحايا.. إلا أن العناكب في الفترات الاخيرة من هذه السنة لم تكن لديها القدرة لتلبية تلك الدعوة.. ليس لأنها لا ترغب بذلك.. بل لأنها اعتادت المكوث في زوايا القبو الرطب، تراقب بعضها.، تنال من بعضها، تقضم رؤوس الضحايا مطالبة العقل بالتراجع.. والمشاعر بارتداء الحيرة.
الأوراق البيضاء صامتة فوق المكاتب أما الملونة فتتناثر فوق سطح القبو آتية من البساتين والحقول كأنها فراشات..مسكينة تلك الاوراق التي تمددت فوق المكاتب التابوتية يتقيأ عليها البعض كراهيتهم، آخرون يلعنونها، غيرهم يتركها ممددة داخل القبو كأنها فراشات زنا تتمدد الى جوارها اقلام فاسدة جفت على مافيهما من سم.
رسم أحدهم على ورقة فما، وعلى الثالثة طبلا، والثانية رسم عليها بشرا.. وراح يرسم قضبانا تحيط بهم.. ثم ما أن انتهى من سجنهم حتى أسرع ينشد الأغاني واضعا توقيعه على الأوراق الصفراء تباعا... فلأجل تلك الغاية كان قد عمل المستحيل.. بل يؤكد البعض أنه عمل خارج حدود الأخلاق والأعراف والمهاترات والترهات، لأجل تلك الغاية احتل القبو واستل عصا ليؤدب الفاجرة،وراح يقطع الضمائر...باحثا عن مجتمع بلا أخلاق يكون فيه السوقي المعد للفتك هو الأكثر حظا للظفر بعضوية مجلس بلدية العناكب.
استل ورقة وكتب العنوان ( البيان رقم واحد.. هذا أنا ) ثم صمت طويلا.. لم يكمل.. بعد أيام أعاد اللعبة وكتب على ظهر الورقة ذاتها ( البيان ) لكنه لم يكمل ايضا فقد أجش بالبكاء. خلال السنوات التي عبرت استطاع أن يضع ختمه على الملايين من الأوراق الا تلك الورقة التي تحمل الرقم واحد... فكلما اقترب منها لاحت له سجون ومقصلة.. حتى غدت الورقة ساحة واسعه عليها اكوام نفايات وخطوط مبعثرة كالتعاويذ حتى أنه اكتشف أوراما سرطانية عليها ثم وجد ورؤوسا وأعقاب سجائر، كلابا وأفاعي وجذام، شبكة عنكبوتية تشكل صورة اكبر كائن خرافي.. ساعتها وكما في كل مرة هرب دون أن يكمل البيان.. لهذا بقيت بوجه صلب ككل المرات.. وبقي أمامها بوجه( باكي ) كما اعتاد أن يكون.
أعاد العنكبوت المتسلق اكتشاف الجدار وقد شاهد صورا معلق لمآسي وحرائق، بعض حوادث تركت في روحه أوجاعا ودفعت به بعيدا عن كل ما يسمى قيما على الأرض.. عن السلف الصالح، الهواء النقي، الفضاء الرحب، البيت الواسع الذي أغلق بوجهه.. حين أجبر على رمي جسده من النافذة إلى جحيم الطرقات بعيدا عن ذلك البيت الذي لم يحب.. بعيدأ.. الى العالم السفلي.. فموت العناكب كان حتميا.. استنادا الى ما ذهبت اليه الأسطورة..ولكي يبقى نشطا حمل راية وهمية وراح يدور في شعاب الأرض ثم انتهى الى ذات القبو من جديد.. بعد رحلة عمر ربح فيه اشياء كثيرة إلا نفسه.
زحف بتثاقل.. بدت له طبقات تكون مادة الجدار عبر العصور.
: أنين خافت صدر من أحد المكاتب أوقفه عن الزحف.
دفع به الفضول للتلصص على مصدر الأنين.. كان أحدهم يغني برتابة، الآخر يبكي برتابة والثالث استل موسا وراح يقطع أوصال قصيدة بدقة ولذة.. علق راس القصيدة على ممرات الجهل.
قرب المذياع.. في الأستديو.. نسي أحدهم رأسه.
في الزوايا اشتباك بين ملائكة وكائنات أخرى تتعلم منها العناكب الطرق الحديثة للإيقاع بالآخر..
في مكان ثالث اختبأ أحدهم.
عند بعض الجدران سقطت أسنان ولسان، على بعد أمتار كانت هناك مجموعة أوراق فارغة ظل أحدهم يعيد الكتابة عليها دون جدوى، فما أن يطلع الضوء حتى يكتشف أنها بيضاء كسرير موت. يعيد تكرار ذلك العمل بسلبية لا حدوده لها وعلى مدى أعياد متعاقبة.
الجو غريب في ذلك القبو.
هذا ما أعاد اكتشافه العنكبوت المعلق على الجدران.
أزيز الباب الخارجي يؤكد أن أحدا قد اقتحم المكان مما دفع العناكب إلى مد أعناقها...
بل إن البعض منها ركض ليتعلق بالسقف.. مثبتا عينيه تجاه الباب الذي كان يعود بطيئا... مما جعل الهواء المحمل برائحة البراري.. يغير مناخ القبو،
بقيت العناكب تحدق بالباب وهي تشم رائحة البراري تلك.
لم يدخل أحد.
قال أحدهم بصوت مبحوح: ربما اعادت الشياطين احتلال المكان.
ذلك دفع الجميع للتراجع الى توابيتهم بصمت..
عبر الزمن ثقيلا.
بعد موت طويل تحرك أحدهم.. توقف قبل أن يصل الى مبتغاه كمن يعيد ترتيب ذاكرته التي خسرها بإحدى معاركه العبثية، أثناء عودته زاحفا كان النور قد احمر ثم قتل. واحتل الظلام المكان كليا..
نام المكان و تلحف الهدوء بالظلمة.. لكن أحدا لم يغمض عينيه تلك الليلة.
..
فجأة جاء صوت أحدهم كأنه عبر سنين ضوئية: ( افتحوا التابوت.. لست ميتا.. أنا هنا ). لم يكمل..
.. يبدو أنه ابتلع محاولته الفاشلة فعاد الصمت يطبق على المكان الذي غزته ريح أكثر برودة من قبل.. دون أن يعرف أحد من أي الزوايا كانت الريح تأتي... فالباب مقفل كعادته.. لكن في ساعات الليل.. وتحت وقع الرهبة.. تفقد الكائنات قدرة تحديد الاتجاه.
الريح الباردة ماتزال محملة برائحة العشب. تدور في المكان..
قالوا: مجرد أوهام. القبو الدافئ سيبقى على ما هو عليه..
لهذا.. ما كاد الفجر يطلق أشعته حتى أسرعت العناكب للتأكد من ذلك غير أن ذلك النهار حمل أمرا أكثر غرابة.. وأبعد عن التصديق فقد اكتشفت العناكب أنه لم يعد هنالك قبو.. وأنها معلقة مع مكاتبها التابوتية بشباك نسجتها على الريح.... لا شي غير الفراغ لا بيوت، لا مدن، لا حروب.. كأن الارض وماعليها عادت الى النشأة الاولى.. آحتلها الفزع وساد الصمت.. أما العنكبوت الذي تم اعداده للتصدي بعد أن هجر أهله وقتل رفاق الامس.. فقد أخذ يعيد الضرب على الطبل وينشد الأغاني كما اعتاد من قبل.
الورقة (رقم واحد) ماتزال ممددة أمامه وإن اصفر لونها وأكل الزمن حوافها كعجوز أسلمت الروح بفعل وباء مجهول... أفزعته تلك النتائج، فقد صوته تدريجيا و تحولت أناشيده الى ما يشبه عزاء ذئاب... أكثر من تلك الأناشيد.. وأكثر من القصائد المذبوحة، ردد البقية معه من تحت مكاتبهم ما كان يطحنه من رمل حتى شعر أن قواهم قد انهارت، وأنهم موشكون على السقوط تباعا في الفراغ المهلك.. ركض للطبل من جديد..فزعا يعيد الضرب عليه بجنون، الطبل الذي ورثه عن أبيه عن جده المتوفى بأحداث واحدة من معارك الرقص العبثية.
ألا أن صوت حفيف الأشجار طغى تدريجيا على صوته الهستيري المبحوح وهو يردد الاناشيد ذاتها.. ثم سرعان ما أخذت الرياح الاوراق كلها.. حلقت عاليا كطيور فزعة لا تدري الى اين تتجه وما بقي غير صوت الطبال.. يتلاشى تدريجيا.. لكنه لن يتوقف.. بل.. يعيد تكرار المآسي.. بلهجة دامية.
ـــــــــــــــــ
*كاتب ومخرج مسرحي عراقي، يقيم حالياً في مدينة هاميلتون/ نيوزيلندا.