تلقيتُ صباح يوم الاثنين 14-10-2024 رسالة مقتضبة من صديق مثقف متابع ثقافي جيد يقيم في أمريكا، طالبا مني: بحلاوة لسان: {الأستاذ الكاتب الكريم راجيا قراءة المنجز الأدبي الجديد في مكتبات أمريكا " كتاب ربما عليك أن تكلم أحداً " للكاتبة والمعالجة النفسية الأمريكية (لورين غوتليب) ترجمة نادين نصر الله بيروت 2024، بأسلوبك الأدبي الشيق والممتع كما تعودنا على مطالعتها في مدوناتك السابقة وخاصة طريقة نقدك لرواية " الشيخ والبحر" لأرنست همنغواي بسيميائية فنية}.
الإشكالية أيها العزيز كيف أجد نسخة من الكتاب؟ فهو والمنشور حديثا وأنا في المملكة السويدية؟
نعم سوف أجدهُ – بعد جهيد مضني- حتما في المكتبات الكبيرة أو المتاجر الألكترونية وقد يكون متاحا بدور النشر في بيروت – ونحن نعيش مواسم الحروب والجنائز – أو عبر مواقع مهرجانات عرض الكتب على الأنترنيت وسوف ألجأ إلى النت بيد أني لا أضمن للمقالة بعضا من التراتيبية المنهجية الموضوعية الواقعية، وإن الكتاب يفرض نفسهُ حتما يكون حضورهُ خيرً من غيابهِ.
من هي المؤلفة؟ وما هو منهجها الفكري في المعالجة النفسية؟
بصراحة شديدة عندما أطلعتُ على مقتطفات من الكتاب عبر الأنترنيت تشوقتُ جداً لقراءتهِ للنهاية ، وجدتُ فيهِ أفكاراً عميقة وانبعاثات جميلة بزخات رذاذ حلوة تداعب الروح بشفافية سيمياء عنوان المنجز الحداثوي " للورين غوتليب " عليك أن تكلم أحداً " فيها من القيم الروحية النبيلة المترعة بالأنسنة والروح الرياضية والفنية وثراء في الرأي وشفافية مرهفة في عرض صور ذهنية متعددة الجوانب ، ولجرأة الكاتبة للكشف عن عقدة غريبة غير مسبوقة حين تسرد تجربتها كمعالجة نفسية تخضع (نفسها) للعلاج مع المريض في آنٍ واحد ، وأعجبتُ بشجاعة أنثى أقتحامية بغوصها لأعماق الذات ا لبشرية وبدون واقيات أمان لاعتقادها إن الحوار والْمصارحة والمكاشفة بين المعالج والمريض وخصوصا كتمان وسرية الاضطرابات النفسية لتعلقها بالموازين الشخصية وحيثيات المستقبل ، لذا لجأتْ المعالجة للكتابة السرية النقدية أشعرتنا إنها من مدرسة ( نقد النقد ) ببراعة وحنكة الكاتبة المعالجة الملتزمة ب(ثيمة ) الأنسنة وهي تستنزف وقتها ومنافعها المادية في متابعة المريض أينما يرحل ويحل وبإصرار وجدية للوصول لخط النهاية
تجربة لورين الشخصية:
-ولابد من عرض تجربة " لورين " أثناء العلاج إنها كانت تعاني من أزمة عاطفية بعد انفصالها عن حبيبها مما دفعها عن البحث عن معالج نفسي يدعى (ويندل) الذي كان سببا في شفائها فوجدتْ حينها فرصة أن تخدم الإنسانية بأن تكون معالجة نفسية بالإضافة لكونها موظفة صحية وبنفس الوقت كاتبة بارعة.
- الكاتبة " لورين " وهي الأخرى تعاقر الخمرة بيد إنها ليست مدمنة مع هذا وذاك بدأت إرهاصاتها النفسية بمعاقبة نفسها بالجلد الذاتي بتأنيبٍ قاسي مع شيءٍ من الخجل وخاصة عند موعد التقائها بالمريضة (شارلوت) ومشاهدتها وجاهة تشرذمها وعزلتها وكآبتها توصلت بالحال إلى العلاج الذي هو (المصالحة الشخصية مع الذات) أولا، ثم توسيع الدائرة الإيجابية السايكولوجية وبنفس الوقت تقليص الدائرة السلبية في التعاملات السوسيولوجية الاجتماعية بالاندماج الجماهيري الشعبي.
يوميات المرضى؟!
-جون : هو كاتب تلفزيوني ناجح بل مبهر بشكلهِ وهندامهِ وأناقتهِ ووسامتهِ ، ولكنهُ يعاني من مشاكل في التعامل مع الآخرين ، وبفطنة وحنكة وانتباه المعالجة لورين اكتشفت : بعبر ثلاثة جلسات علاجية إن جون شخصية متعجرفة تبدو عليه الفوقية بعامل غير أرادي جراء معاناتهِ من جروح نفسية عميقة لعهد الطفولة ، وهنا يأتي الدور للمعالجة النفسية لورين التي تكتشف بأنها هي الأخرى تعاني من نفس هلوسة المريض ربما غرورها بمنصبها ومركزها الاجتماعي ورصانة كتاباتها ، تقتنع بأنها لوثات شائعة وعادية يمكن الخلاص منها بالاندماج الاجتماعي الطوعي والحصول على (رضا النفس) واحترام رأي الآخرين بالحوار السلمي .
- شارلوت: هي شابة جميلة ذات حيوية مفعمة بالتأمل الواعد لمستقبلها الجامعي بيد إنها تعاني الإدمان على الكحول وبمراحلهِ الأولى، شاكية للمعالجة بأنها تعاني صعوبة بالغة في التعامل مع الآخرين بحصولها على علاقات صحية مرضية للجميع، من خلال العلاج تتعلم شارلوت كيفية التعامل مع مشاعرها أولا أي المصالحة مع الذات واللجوء إلى الطاقة الإيجابية والرياضة والابتعاد عن أصدقاء السوء وتفهم ثقافة مساوئ معاقرة الكحول، وحتى تحصل على نسبة عالية من الكاريزما في المقبولية الاجتماعية.
هيكلية الكتاب وحيثياته
يتألف الكتاب من عدة فصول في كل فصل تسرد حكاية مريض معين أو تجربة شخصية للكاتبة ويتنوع السرد في تناصها البحثي النثري الأدبي تظهر فيها التراجيدية المؤلمة أحياناً مؤثرة مبكية ومضحكة أحياناً وهنا تفرض الكاتبة الحذر والحذر بالحفاظ على ما التقطته من حدث وحديث شخصي مخبأ في نقطة (الصفر) أعماق الذات الآدمية، ربما تحمل الحكاية من خجل البوح وفوبيا النشر، وهنا بيت القصد في الرواية بتبني المعالجة النفسية مسؤولية الكتمان بأنسنة مرهفة وجادة لكونها مصابة بنفس المطب النفسي بواقعية وليست افتراضية.
أهمية الكتاب
-يؤكد الكتاب عن أهمية الحديث عن مشكلاتنا النفسية التي تتزايد بتقدم زمن العصرنة الرقمية الحداثُوية، بصخبها وإرهاصاتها ومتاهاتها، وهنا يجب توفر (الثقة) المتبادلة بين المريض والمعالج، والفضفضة عنها يعني تحرير المشاعر المكبوتة التي تتحول إلى تفهم المشكلة بمنظور صديق تأملي ومتعاون.
- الكتاب هو مزيج من المذكرات والعلاجات النفسية حيث يطرح الكتاب العديد من الأفكار العميقة حول الأنسان وعلاقاته مع الآخرين واكتشاف أسرار مخزونة عمدا في الذات البشرية وهو الأنسان الذي وُصف عبر التأريخ بأنهُ الصندوق المغلق.
- يعدُ الكتاب من الكتب البارزة في مجال العلاج النفسي والنمو الشخصي، وهي تسير بسرديات حكايتها العلاجية في رحلة مشوقة خلف كواليس عالم العلاج النفسي أي خلف الكامرة الخفية لتنفرد في محاكاة الأسرار الخفية في أعماق الذات الآدمية المظلمة بتجارب واقعية حقيقية مرَتْ بها المعالجة مع مرضاها وبنفسها شخصياً.
- مصالحة مع الذات يؤكد الكتاب تفهم المعالجة النفسية في ظروف الزمكنة المتعلقة بصاحب العقدة النفسية وقبولها وما تخزن من صفات ربما تظهر (نسبية) وليس من الضرورة أن تكون (مطلقة) المهم هنا الرضا عن الذات ويتحقق التوافق عند مواجهة المخاوف والمشاعر السلبية.
- التغيير: يتحدث الكتاب بأن التغيير إلى الأفضل بمقبولية مهمة جداً والتي تبدأ أولا من كينونة الذات البشرية ُ ثم الإفصاح عنها بشخصهِ وبكامل قواه العقلية لكونها مشكلة عادية تحدث في كل مكان وزمان.
- يتحدث الكتاب عن أهمية تفهم مشاركة المعالج النفسي للمصاب بالمرض، وهذه الحقيقة أعتبرها الرافعة المركزية للسرد التناصي للكاتبة، وحينها يفتح المعالج تأملات واعدة بمستقبل مفعم بالرفاهية وخالي من الأحاسيس والمشاعر السوداوية بتقزيم وتحجيم المشكلة بأنها عادية تصيب أغلب الناس وحتى المعالج.
- تعزيز النمو الشخصي أي التطور الذاتي في تشجيع الكتاب من خلال مواجهة المشكلة والبحث عنها والتحدث بها أمام الجميع تساعد على بناء شخصية رصينة محصنة ترفض الوهمية في التشخيص تميل كليا للواقعية والحقيقية.
- والكتاب من النوع المفتوح الواعد بالتفاؤل بتحقيق كيان بشري قوي ذاتيا في تحقيق فرصة للنمو الشخصي والتغيير،
أخيراً: لا تغضب إذا أنفجر البالون في وجهك فأنت من نفخهُ وأعطاه أكبر من حجمهِ وكذلك بعض البشر (مارك توين).
كاتب وناقد أدب عراقي مغترب
في نوفمبر – تشرين ثاني 2024