(ميتافون سالس) المؤرخة التي أحبها نيتشة حبا عظيما والتي أرسل لها رسالته وهو في مشفى الامراض العقلية يخبرها من أنّ (الدين أزمة بشرية) ، وهذه المقولة يستخدمها الغرب اليوم في حربهم ضد العرب والمسلمين فيقولون ( الإسلام في أزمة) . تقول ( ميتافون) في مذكراتها : وأنا أتمشى مع نيتشة قرب بحيرة رأيته يبكي بدموع غزيرة وهو يتحدث عن رواية (منزل الأموات) لثيودور ديستويفسكي بل قال لها ( هذه الرواية جعلت مني أن أدين كل القيم والأحاسيس الكبرى في نفسي لآنني شعرت بها أثناء قراءتي لها حتى إجتاحتني بعمق شديد ) .

في شباط عام 1865 زار نيتشة مدينة كولونيا الألمانية وهو في عمر الحادية والعشرين واستعان بدليل سياحي يرشده عل الأماكن الأثرية لهذه المدينة ، فظن الدليل السياحي بعد إن تحاور مع نيتشة من أنه من النوع الخجول فلايطلب أماكن تواجد النساء ، فأخذه الى بيت للدعارة لتسليته وإمتاعه من الجنس اللطيف فيقول نيتشة : وجدت نفسي مع حشر كبير من النساء المزركشات العاريات والعارضات لأفخاذهن وكلهن ينظرن لي لعلني إستمتع معهن بشوط مما يفكرن به مقابل المال . ويقول لكنني وجدت بيانو في الركن فرحت أعزف حتى تحرّرت روحي وطارت نفسي وشعرت بالحياة ثم حملتني أطرافي خارج المكان بعيدا عن هذه السخافات دون أن ألمس طارف فستانٍ جميل أو ثوب شفاف يبرز المفاتن والمغريات . فيقول نيتشة طلبتُ من الدليل السياحي أن يذهب ويتركني وحدي ، فتمشيت بشارع على هواي وإذا بي أجد مكتبة لبيع الكتب . فيقول فجأة وقعت عيني على كتاب لثيودور ديستويفسكي ( رسائل من تحت الآرض) وهي أول رواية له . فيقول قرأت أول سطر من الرواية فكأنه قطعة موسيقية عاصفة وعبقرية تحمل من الأبعاد النفسية التي لاحصر لها من المعاني ، فاشتريتها فورا وأخذتها معي الى الفندق وهناك أكملتها دفعة واحدة حتى أصابني الإرهاق وقبل أن أنام كتبت ( المرور والكشف عن مكنونات ديستويفسكي هو أعظم وألذُ شيء في حياتي ) ثم إستغرقتُ في النوم . يقول في اليوم التالي إستيقظت وأنا لازلت بكامل تفكيري مع الرواية ثم ذهبت الى المكتبة وبالصدفة العجيبة مرة أخرى وجدت رواية ( منزل الأموات) لديستويفسكي أيضا ودون أدنى تفكير اقتنيتها ورجعت الى الفندق مسرعا وبدأت بقرائتها بتركيز شديد ، وإذا بي أجد الهول عن سجن هذا الرجل العظيم وعن منفاه في سيببريا فكانت لها تأثير مدوي في نفسي وبهذا الصدد قال نيتشة ( أنه شيطان الحقيقة والتجلي ، لقد كان وحشا كاسرا وروحا معذبة محطمة ميتة ببطيء لكنها المغامرة بلا حدود ) . حتى أحس بمعاناة ديستويفسكي التي تشبه معاناته ، ومنذ ذلك الوقت شكلت كتب ديستويفسكي جزءاً كبيراً من مكتبته . كان نيتشة يتحدث عن ديستويفسكي في كل لقاءاته مع الموسيقار العالمي ( ريتشارد فاغنر) ، ثم تحدّث عنه مع الفتاة الأديبة المشعوذة الروسية ( لاسالومي) القادمة من سان بطرس بورغ والتي أحبها أيضا لكنها فضلت عليه صديقه المقرب( راي) مما أشعلت الفتنة بينهما فقال لها نيتشة ( لايسعني سوى أن أحتقرك) . تيودور ونيتشة إشتركا في العديد من الأمور ومنها المرض والألم المزمن الذي أدى بنيتشة الى الجنون أما ديستويفسكي كان لديه الصرع الذي لازمه طيلة حياته . إشتركا في الموقف من الدين فكلاهما وصف المسيحية من انها مسلوبة البراءة ، إشتركا في العداء لرجال الدين والدولة والكنيسة ومانشهده اليوم في المشهد العربي والإسرائيلي والعالمي يثبت صدق أقوالهم في صراع الأديان . إشتركا أيضا في نظرتهم للمخلّص وسايكولوجيا المخلص التي ليس لها علاقة بالبشر بل بنزعة الإنتقام حتى تحوّل المخلّص كما يقول نيتشة الى ( مهرّج تقي ) . إشتركا بأحاسيسهم بالآخرين ، و بنظرتهم للشفقة التي وصفها نيتشة بالإنحطاط أما ديستويفسكي رآها واحدة من سجن الذات خلف القضبان ومابها من بشاعة وقسوة ، إشتركا في سبر أغوار النفس البشرية ومابها من شرور وجرم وانتقام ووحشية ، بل الإنسان أسوأ بكثير من الحيوان فالأسود على سبيل المثال لاتأكل ولاتفترس حتى تجوع وهذا نوع من الرحمة والشفقة أما الإنسان يريد الإفتراس على الدوام بلا شبع ولاحدود . مات نيتشة ومات ديستويفسكي وبقيا ناقوسين في الضمير الإنساني .

27/إكتوبر/2023

عرض مقالات: