أمسية المقهى الثقافي العراقي في لندن التي أقيمت بتاريخ 27تشرين الأول / أكتوبر 2023 كان فيها الدكتور أحمد ناجي آل سعيد ضيفا، قدمه وأدار الحوار فيها الفنان فيصل لعيبي صاحي وقال عنها إنها ستحدثنا عن الحداثة في العراق وروادها وأبطالها، والأعمدة التي استندت عليها هذه "الحداثة". وابتدأ لعيبي الأمسية:

UNDER THE PALM TREE

MODREN IRAQI ART WITH MUHAMED MAKIYA AND  

JEWAD SELIM”

عبارة جميلة جدا، هي عنوان الكتاب لضيفنا العزيز والذي سيتحدث لنا عنه هذا المساء، وهي جملة قالها الراحل وفقيدنا الكبير الأستاذ محمد مكية، عندما زاره الدكتور أحمد وصديقه، وبنية إجراء عمل لقاء صحفي له، في داره، وأفصح لهما عن أمنيته، وكان ذلك قبل وفاته بسنوات قليلة، أن يدفن في بغداد وتحت أشجار النخيل وقرب دجلة".

هنا ستحاول هذه التغطية  الصحفية لكامل وقائع الأمسية التي تطرقت محاورها وموضوعاتها المهمة  الى البدايات الفنية للفنانين التشكيليين الرواد منذ نشأة الدولة العراقية وعلاقتهم بالمعماريين وخاصة بين جواد سليم ومحمد مكية إضافة الى ذكر المدارس الفنية لنتاجات الرواد وأساليبهم الفنية وطرق ممارستهم العمل الإبداعي وعلاقتهم بموروثهم وبيئتهم ومجتمعهم وماهي الأفكار والموضوعات التي تناولتها لوحاتهم ، كل ذلك عبر عرض المحاضر نماذج لصور فوتوغرافية لتلك النتاجات ، من خلال المجموعة الفريدة من مقتنيات المعمار مكية ، علاوة على ان السرد الشيق الذي قدمه د. ناجي قد أنطوى على بحث دؤوب وتحليل معمق وتوثيق يمتلك الدقة والمصداقية .. أن صفحتنا لعلى ثقة أكيدة انها أمسية ستضيف الشيء الكثير لإحتوائها على معلومات مفيدة ونافعة.

وقف الحضور بالبدء في لحظة صمت إجلالا وإحتراما لضحايا غزة في الأحداث الأخيرة.

وإستهل د. أحمد ناجي محاضرته بالمقدمة التالية: " أشكر المقهى الثقافي العريق على دعوته، هذا المقهى الذي يواصل نشاطه منذ سنوات طويلة، محافظا على الإرث الثقافي العراقي.. سأشارك الحضور بخلاصة بسيطة لعملي في توثيق الفن العراقي من خلال كتابي الذي كان عن مجموعة المعمار محمد مكية.. ففي ما يخص الكتاب وما هو المبحث الشخصي.. الغرض من هذا الكتاب هو كان سؤال عراقي عراقي، بمعنى ماهي البدايات، ماهي هويتنا؟ الي اين نتجه؟ فانا كشخص مولود في الثمانينيات ، وجدت ان قيم المعرفة كلها تغيرت بعد ٢٠٠٣ وعشنا ضمن ثقافة مكرسة في العراق ننظر فيها الى الآشوريين والبابليين والسومريين والى الحضارات العباسية والأموية ..لكن السؤال الأقرب لي هو اننا أولاد الدولة الحديثة التي نشأت في العشرينات ..ولهذه الدولة كان لها رواد في كل المجالات في الطب والاقتصاد والثقافة والعلوم , وبحكم ظروفي العائلية فقد كان عم والدي الفنان شاكر حسن آل سعيد ووالدي كان قد درس في معهد الفنون الجميلة وهو فنان معروف في كركوك والصدفة قادتني الى ان أتعرف على محمد مكية في ٢٠٠٥ وإضافة الى عملي في مؤسسة "الذاكرة العراقية " من ٢٠٠٥- ٢٠٠٨.. كل هذه الظروف دعتني الى الاهتمام بثنائية محمد مكية وجواد سليم وهما رائدا الحداثة، الأول في العمارة والثاني في الفن.. لذلك سوف يكون المبحث مختصا في بغداد تحديدا (المكان).. اما من ناحية الخط الزمني فسينحصر من بداية العشرينات الى بداية الستينيات من القرن الماضي ".

بغداد هي مدينة عباسية ومرت عليها عدة  عصور لمختلف النظم الاجتماعية والسياسية واهم عصورها هي الدولة العباسية الثانية التي أنشأت فيها الأسوار ، اذ يقال ان الأولى التي كانت فيها المدينة المدورة قد إندثرت والتي يرى  انها كانت في موقع مطار المثنى القديم في الكرخ اما الثانية فقد كانت  في منطقة سوق الغزل وصبابيغ الآل ومنطقة عقد النصارى التي تشاء الأقدار ان يكون محمد مكية من مواليد هذه المنطقة وفيما بعد ان يكون من اهم اعماله والتحول في نظريته العمرانية هو انه أعاد ترميم مئذنة جامع سوق الغزل وإقترح بناء جامع ليوائم هذه المئذنة وحسب الأبحاث التاريخية التي قام بها كل من احمد سوسة ومصطفى جواد كما جاء في كتاب (بغداد) الصادر في الستينيات ان هذه المأذنة واحدة من مجمع يعتقد انه ضمن مبانيه كان هناك جامعا خاصا بالخليفة يصلي به .. تعتبر مئذنة الغزل هذه نقطة انعطاف مهمة لبغداد من ناحية تاريخها (حاضرها ومستقبلها) ومنطلقا لكيفية تعامل الرواد مع المدينة من ناحية الفن والسياسة؟ هذا هو السؤال.. فبالنسبة لمحمد مكية يقول انه عاش في بغداد كمدينة عصور وسطى، وهو بهذا كان يقصد انه لم يك بحاجة الى دراسة العصور الوسطى وقد أكد في أكثر من لقاء قوله:" أنني عشت تلك العصور".. فالرواد ولدوا في بغداد في فترة لم يكن فيها ماء اسالة او كهرباء او مظاهر حضارية، لكنهم شهدوا في ترعرعهم فيها تحولات مدينتهم تدريجيا الى مدينة حديثة أعتبرت من بين اهم مدن الشرق الأوسط، هذا العامل الزمني بالتغير من العصور الوسطى الى الحداثة طرح تحديات مهمة في كل المجالات.

 تلك الوجهة التي اختطها الدكتور ناجي (وهو إضافة الى كونه طبيب اسنان مازال يمارس عمله) دفعته الى السعي بدأب مشهود على الحفاظ على الذكريات والأعمال الفنية للعصر الذهبي للحداثة العراقية، عندما كانت بغداد مصدر اشعاع ثقافي متميز في العالم العربي. وأثمرت جهوده بتأليف هذا الكتاب، والذي نشرته دار ريزولي بعنوان "تحت أشجار النخيل: الفن العراقي الحديث مع محمد مكية وجواد سليم". ويركز على الارتباط بين الفن والعمارة في العراق، وتحديداً على شخصيتين مهمتين هما: الفنان جواد سليم الذي أنشأ نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد، والمعماري محمد مكية الذي صمم مسجد الخلفاء في بغداد والمسجد الكبير في بغداد.

إستعرض الدكتور أحمد في محاضرته تأثير دولة العراق الحديثة على نمو حركة فنية وأوضح ان العديد من الفنانين الأوائل في العراق قد إنضموا الى السلك العسكري وإنهم تعلموا فن الرسم في الجيش العثماني ، وصاروا مع اقرانهم من الضباط يكونون في العراق نواتات الطبقة الأرستقراطية ، وبعد انهيار إمبراطورية الرجل المريض، أخذ هؤلاء البحث عن مكانة جديدة لهم في المجتمع وإمتهان مهن تتلائم مع مستواهم الاجتماعي وسافر بعضهم الى اوربا بغرض الدراسة وعاد الكثير منهم في الاربعينات والخمسينات وتحدث المحاضر عن تأسيس التجمعات الفنية ومنها جماعة أصدقاء الفن وجماعة الرواد  وجماعة بغداد للفن الحديث وجمعية الفنانين العراقيين وغيرها .. وركز على علاقة المعماريين بالتشكيليين وتعاونهما مع بعض وأعطى مثلا عن علاقة المعمار محمد مكية بالفنان جواد سليم.. وجاء على ذكر اعمال كل منهما وفي هذا السياق ذكر أعمال فنانين ومعماريين آخرين واتجاهاتهم في أعمالهم والأساليب والمدارس الفنية التي إنتهجوها.. ورافق كل ذلك السرد بعرض صور للوحاتهم واعمالهم النحتية والعمرانية.

  وعبر مقتنيات محمد مكية الشخصية للوحات وبعض الأعمال النحتية للفنانين التشكيليين، وبما أنه من رواد العمارة في العراق، فقد تأثر بالأعمال الفنية، وهو الذي أكمل الدكتوراه من كيمبريدج واطروحته كان عنوانها " العامل الإنساني في العمارة " حيث طرح ثلاث عوامل ينبغي تحقيقها في أي تصميم عمراني: العامل الزماني والعامل المكاني والعامل الإنساني..

ذكر المحاضر ان سبب تناوله للرائدين المهمين (مكية وجواد) لأنهما اعطياه إجابة عن ماهية الهوية العراقية.. فالرواد تعاملوا مع التكنولوجيا، التي بدأت تدخل تباعا الى الدولة العراقية الحديثة، كعوامل تحديث ابداعي في حين كان الجمهور يتعامل مع هذه التكنولوجيا استهلاكيا.

اما عن بدايات الحركة الفنية في العراق أشار المحاضر د. ناجي الى انطلاقتها في المعرض الزراعي الصناعي المقام في بغداد ١٩٣١ حيث كان هناك جدارا عرض فيه مجموعة من الفنانين لوحاتهم ومنحوتاتهم مثل فتحي صفوت  وعبد القادر رسام والحاج محمد سليم والد جواد سليم  وشوكت الرسام وكان قسم منهم من الهواة أو لا يزال طالباً مثل جواد سليم ، وفي العام  ١٩٣٧ يعقد مؤتمر عالمي مهم في باريس وكان للعراق جناح فني فيه وقد وثق هذه المشاركة المؤرخ والكاتب العراقي مير بصري وقد كان تصميم الجناح العراقي على شكل الجنائن المعلقة ومن داخله فيه تصاميم لبساتين النخيل وحتى غلاف دليل الجناح كان مصمم على شكل بوابة عباسية ومن هنا نلاحظ عناية الفنانين بالتراث العراقي وفي نفس هذا المؤتمر تم عرض اللوحة الشهيرة " غورنيكا " لبيكاسو لأول مرة وبعد عام واحد أي في ١٩٣٨ تم ابتعاث جواد سليم الى باريس ، وهنا يخمن د. ناجي ان لابد ان يكون لعمل بيكاسو هذا وقعا وتأثيرا على جواد تجلى في عمل جواد لاحقا لنصب الحرية ، لكننا نؤكد ان عمل جواد ينبع من الواقع العراقي وهو لم يستنسخ ذلك العمل .

أشار المحاضر الى ان جواد أصغر عمرا من مكية، إذن فكيف التقيا، قال إن السر في صورة عرضها على الحضور وقال عنها انها لجماعة أصدقاء الفن التقطت عام ١٩٤١ وهي تضم كذلك عبد القادر الرسام ومحمد سليم وشوكت الخفاف والخطاط صبري ومن المعماريين مدحت علي مظلوم وسعيد علي مظلوم وجعفر علاوي والذين كانوا يدرسون مع محمد مكية العمارة في بريطانيا في نفس السنة وهم الذين عرفوه على جواد سليم، عند قيامهم آنذاك بسفرة الى باريس وتعرفوا أيضا على فائق حسن ومن هناك بدأت العلاقة. جواد من الرواد وهو مؤسس المدرسة البغدادية في الرسم وهو برغم من اجادته لفنه وخبرته في أساليب متعددة، لكنه تمسك بالمدرسة البغدادية ومن تلك اللوحات التي اقتناها مكية لجواد هي لوحة لوجوه نسائية تندب وفاة والده محمد سليم وواضح فيها وجه يشبه والدته وعند مكية مجموعة لوحات صغيرة رسمها جواد هي عبارة عن (سكيجات) كمشاريع للوحات.. وهذه لم تنشر سابقا (عرضها في الأمسية على الشاشة).

أشار المحاضر الى تأسيس الجماعات الفنية، وتأثير الفنانين البولونيين الذي جاؤوا الى بغداد مع الجيش البريطاني الذين عملوا معرضا في بغداد أوائل الأربعينات وأصدروا بيانا يدعون فيه إخوانهم الفنانين العراقيين ان يعبرون بأعمالهم عن المظالم العراقية حسب ماذكره نوري الراوي في كتابه (تأملات في الفن العراقي الحديث).. في ١٩٤٣ صدر دليل حكومي عن دائرة الآثار بعنوان (دليل قاعة الرسوم الوطنية) وفي تقديمه يقول ان القاعة تحوي على لوحات رسمت بالزيت والألوان المائية او القلم الرصاص او الفحم.. الخ وهذا ما يؤسس لقيام الدولة العراقية بالاهتمام بالفن بل وأرشفته. وجاء المحاضر على ذكر أسماء بعض الفنانين الذين ضمهم ذلك الأرشيف..

اما عن طرح الفنانين من خلال مجموعاتهم الفنية ، فذكر المحاضر ، انهم ثبتوا "ان هناك حاجة اجتماعية للفن ، تغيرت هذه الحاجة بعد الحرب العالمية الثانية ، ويجب ان يكون الفن بمستوى المرحلة والأزمات التي يعيشها الإنسان في ذلك الوقت، وينبغي ان يكون الفن نابعا من هذا المجتمع ، مستندا على الإرث الثقافي ، بحيث يمكن العراقيين من انهم يبارون الفنانين العالميين ، او بالمستوى العالمي ، وان يظهر فن عراقي أصيل ..هذا الطرح باختصار هو ان ننظر الى ارثنا الإسلامي والرافديني من خلال موشور الحداثة ونخرج باجتهادات، ليس بمعنى استنساخ ونقل التراث ولا تقليد الفن الأوربي الحديث ".

وجاء المحاضر على ذكر وعرض مقتنيات مكية للوحات فنانين من بينهم جواد سليم وإسماعيل الشيخلي وكاظم حيدر وشاكر حسن آل سعيد وكثير غيرهم ومن بين النحاتين كان محمد غني حكمت الذي حثه على نحت أبواب تستخدم الزخارف والحروف وثقها الفنان نفسه في كتابه "أبواب" وأضاف الدكتور ناجي ان مكية بعد وفاة جواد واصل التعاون مع زوجته لورنا سليم التي كانت تدرس طلاب قسم العمارة الذي أسسه وترأسه في جامعة بغداد.

وتحدث المحاضر عن ديوان الكوفة الذي أنشأه مكية في لندن وكان منبرا ثقافيا للندوات والمحاضرات وضم مكتبة كبيرة وصالة للمعارض عرض فيها معظم الفنانين المغتربين ومن بين تلك المعارض معرض "تحية لجواد سليم " ساهم فيه عديد من الفنانين.

بعد ان إنتهى المحاضر عقب الفنان فيصل لعيبي مدير الأمسية قائلا :" لقد عاد جواد من باريس بعد ان أوقفت الحكومة دعمها المادي للمبتعثين ، بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية ، وعين جواد في الوطن في متحف الآثار وأسندت له مهمة ترميم اللقى الآثارية ( المنحوتات ) مما أثارت تلك الأعمال انتباه جواد وتأثر بها ، وفي نفس الفترة أقيم في باريس معرضا لرسوم يحيى الواسطي وصلته في تلك الأثناء رسالة لصق على مظروفها طابعا بريديا طبعت عليه احدى لوحات الواسطي ، تلك الرسوم التي إنتبه اليها ساطع الحصري فكلف الفنانين عطا صبري وحافظ الدروبي بالعمل على تكبير  أعمال ومنمنمات الواسطي التي زينت مقامات الحريري ، وهذه الخطوة استرعت إنتباه جواد أيضا علاوة على ما لعبه الفنانون البولونيون الذين وصلوا العراق في العام ١٩٤٢ وعمقوا صلاتهم بالفنانين العراقيين وصاروا يحثونهم على تأصيل موقفهم الاجتماعي وعدم الإقتصار على الإنصراف للأساليب والمدارس والمذاهب الفنية العالمية وكان هؤلاء البولون يلتقون في منزل فائق حسن الذي كان قد أجر احدى غرف بيته الى فنانة بولونية ، حسب ما ذكره خالد القصاب في كتابه " ذكريات فنية" كان البولونيون يلحون على زملائهم العراقيين بسؤال : هل تحبون وطنكم ؟ .. اذن ما عليكم الا ان تسخرون فنكم لصالحه وان يهدف فنكم لتقدم المجتمع.. كان هذا الإلحاح جاء نتيجة ملاحظة البولون انصراف زملائهم العراقيين الى الإنشغال بالشكلانية وعدم الاهتمام بالمضمون على صعيد المنجز الفني والسلوك الفوضوي في الحياة حيث كان أغلب الفنانين العراقيين بوهيميون يهتمون بتربية ذقونهم ويطيلون شعر رأسهم ويشربون ويدخنون.. فكان البولونيون يقولون لهم إذا لم تحبوا وطنكم لا تستطيعون ان تقدموا له فنا حقيقيا.

حظيت الأمسية بمشاركة واسعة من الحضور بتقديم مداخلات وملاحظات وتعقيبات نستعرض في هذه التغطية أبرزها.. الشاعرة والإعلامية دلال جويد قالت ان لديها مداخلتين الأولى انها تابعت لقاء تلفزيونيا مع الراحل مكية قال فيه ان تاريخ ميلاده عندما دخل الإنكليز الى بغداد في عام ١٩١٧ ولأسباب خاصة به عندما إنتقل الى بريطانيا سجل ولادته في ١٩١٤ للحصول على تسهيلات تتعلق بالبعثة الدراسية وهذا يقلل فارق العمر بين جواد ومكية الى السنتين فقط وان علاقة الأثنين جواد ومكية كانت موجودة بينهما حتى قبل لقائهما حيث كانا متفقان بالتوجهات والأفكار وانا أرى ان مكية إضافة الى كونه أكاديميا ، كان يشتغل في فنه على الأنثروبولوجي  والنقطة الثانية ، على الرغم من انني لست ناقدة فنية ، لكني أعتقد ان لورنا سليم اكثر قربا من مكية كونها موثقة مهمة للعمارة البغدادية فقد كانت تجلس امام البيوت العراقية وترسمها بدقة متناهية.. أتفق المحاضر مع المداخلة وأضاف فيما يخص مكية وعلاقته بجواد فقد كانت كما ذكرنا عن طريق أصدقاء مشتركين معماريين واغلبهم كانوا يدرسون في الإعدادية المركزية وسكنة مناطق متقاربة اما لورنا سليم فمرت بفنها بثلاث مراحل الأولى تسبق جماعة بغداد للفن الحديث وكانت متأثرة ببيكاسو وميرو وفي الخمسينات كانت تركز على رسم المناظر الشعبية وخاصة رسم النساء لكن بعد وفاة جواد تحولت اعمالها الى خطين الاول تعبيري والثاني اكاديمي بحكم عملها التدريسي في قسم العمارة .اما المداخلة الثانية كانت للكاتب السياسي والروائي حميد الكفائي حيث قال :" انا أرى ان هناك إقحام في تأسيس الدولة مع كل شيء في العراق  فيما يخص الفنون والصحة والتعليم والشعر ..لا أدري لماذا يجري ربط كل هذه الأمور التي هي موجودة في العراق كبلد وكمجتمع قبل تأسيس الدولة .. فما هو سبب ذلك.. أعتقد من الأفضل ان نتحدث عن الفن العراقي، عن العلوم، الإنجازات في مختلف المجالات بالعراق كبلد وليس بربطه بعام ١٩٢١ عند تأسيس الدولة اعتقد هذا المنحى فيه إقحام.. هذا رأيي وشكرا ". اجابه المحاضر الدكتور احمد ناجي: "رأيك مقبول.. حسب طرحي هو اعتقادي بداية الدولة العراقية في ١٩٢١ هو اختيار مرجح ومقبول بسبب ان كل المبتعثين العراقيين الأوائل.. ارسلتهم الحكومة العراقية وأول معماريين عراقيين اسسوا وبنوا عمارة في العراق هم أيضا مبتعثين من نفس الجهة.. من هنا أرى ان للدولة العراقية تأثير مباشر على الفن التشكيلي والعمارة اما الشعر والفقه فهما موجودان قبل الدولة وسيبقيان اما الفن فليس كذلك، فمثلا جواد يكتب في رسالة الى صديق له يعرب فيها عن استغرابه عن خلو بغداد من نصب وهو نفسه لم يستطع تحقيق نصب له.. ولم يحقق ذلك الا في عام ١٩٥٨ عندما كلفته الثورة بعمل نصب الحرية " وأضاف مدير الأمسية الفنان لعيبي:" العراق الإداري هذا الذي نعرفه لم يك موجودا قبل العشرينات كانت الإمبراطورية العثمانية قد قسمت العراق الى ثلاث ولايات وكان العراق لا يحكم من بغداد انما كان يحكم من إسطنبول.. الولايات الثلاث الموصل، بغداد وولاية البصرة التي كانت تصل حدودها الى عمان. ليس هناك في العراق دولة وتأسست لأن الاستعمار البريطاني أراد موظفين يديرون هذه المؤسسة الجديدة التي أسسها جغرافيا على الأرض التي احتلها.. ومطاليب الشعب لم تكن تنادي بالملكية، طالب النقيب كان يدعو الى الجمهورية ". ثم داخلت الإعلامية والروائية سلوى جراح  قائلة :" لي سؤال بسيط جدا ..انتم من قادني اليه مفاده ، نحن  امام كل هذا الذي رأيناه هذا المساء من جمال وروعة والذي انتم تتحدثون عنه الآن ..ترى بعد عشر سنوات او عشرين سنة هذا الجيل الموجود بالعراق عماذا سوف يتكلم ..عن نصب          ( الأركيلة ) التي يضعونها الان في الساحات العامة ام عن نصب ( دلة القهوة) ..انا أجد نفسي لست قاسية بهذا  الطرح..إنما  أطرح سؤالا حقيقيا : الفن الذي رأيناه في هذه الأمسية ..أين وصلنا به ..اكتفي بهذا وشكرا ". أجاب د. ناجي :" انه سؤال مهم جدا ..الحقيقة ، أسهل طريقة للإجابة ، كونه سؤالا صعبا ، نحيل الإجابة الى أحداث انتفاضة تشرين٢٠١٩ التي هي حالة إجتماعية عامة ، غير مسيسة ، حسب اعتقادي ، رأينا في خضمها تفاعل الفنانين مع تلك الأحداث ، ألفت النظر الى فنان شاب في بغداد مهتم بالغرافيك ، لا يرسم على الكانفس ولا يعمل نحتا بالبرونز ، وهو طالب في معهد الفنون ، يعمل بالرسوم الجدارية ، والده خطاط ، وهو حاول ان  يطور الخط فاستخدم الرمز المسماري كوحدة أساسية في الخط العربي ويكتب كلمات مثلا ( سلام ) الذي كتبها على كراج السنك بعد حوادث قتل الكثير من الشباب فقاد عملا تطوعيا كبيرا من الشباب وجعلهم يكتبون كلمة (سلام) على سطح الكراج وصورها بالـ (درون – الطائرة المسيرة ) كلوحة جدارية حصلت على انجاز اعتبارها في كتاب (جينز) اكبر كلمة ( سلام ) بالعالم  فالشباب العراقيون موجودون وحاضرون ". وعقب الفنان فيصل:" كل ما نراه الان يعود الى دور الدولة.. والدولة الحالية جاهلة وهذه المشاريع يقوم بها أناس تكلفهم بإقامتها اما البلدية او المحافظة يعني مسؤولين لايفهمون بالفن.. فالفنانون العراقيون يشتكون من هذه الأشكال السمجة والقبيحة الموجودة الان في الساحات.. وهذه تؤشر الى فكر الدولة وتعبر عن ذائقتها او لنقل فقر ذوق من يمثل ذوقها فالدولة اما ان ترتفع بالذائقة او تهبط بها ". ثم طرحت التشكيلية سمر بدن انها قبل فترة كانت في بغداد لاحظت، رغم الحالة الاقتصادية التي يمر بها البلد، قالت انها وجدت كما هائلا من الفنانين الشباب العراقيين وبدعم خاص بدون دعم الدولة العراقية وأنها طيلة وجودها دخلت أكثر من خمسة معارض واعتبرته شيئا مذهلا لان الصرف عليها من جيوبهم الخاصة.. المعروف ان الحكومة العراقية لا تدعم أي نشاط ثقافي او فني بالعراق وهذه كلها جهود ذاتية وخاصة، وأعربت عن اعتقادها ان العراق ولاّد ففيه كم هائل من الفنانين والمسرحيين والرسامين والشيء المفرح ان هؤلاء يتحينون الفرص لإقامة نشاطاتهم، ويعتمدون على أنفسهم وعلى تعاونهم فيما بينهم، ولا ينتظرون الدعم الرسمي غير الموجود أصلا.. انهم الأمل " وأضافت الإعلامية نضال إبراهيم:" على مدى سنوات أزور العراق.. على الرغم كما قالت زميلتي فالحكومة، حكومة ملالي، لا يمكن لها ان ترعى الفن والفنون، لكن ظاهرة شارع المتنبي، رائعة جدا، يعني انت ممكن ان ترى عرضا لباليه، فتيات جاؤوا بملابسهم الخاصة بعروض البالية التي اعتدنا على مشاهدتها على المسرح، قدمن عرضا في شارع المتنبي، علاوة على إقامة معارض عديدة، جميعها بجهود شخصية، فبغداد ولاّدة والعراق ولاّد، لا يمكن للفن والثقافة ان يموتا فيه ". وكانت المداخلة الأخيرة من حضور الأمسية من المهندس مرتضى الموسوي وسأل: هل هناك دورا لعبه المعماريون العراقيون في حركة تطور الفن.. من الناحية الفنية؟ وكان جواب المحاضر :" حسب التاريخ والنتائج الذي نعرفها كان محمد مكية يتعاون مع الفنانين العراقيين على صعيدين الأول كراع للفن تجلى هذا بشرائه للأعمال الفنية حتى ولو كان يدفعها بالتقسيط  والثاني كان بالمشاريع المعمارية التي يعملها يحاول ان يضع ٢٠٪  من كلفة البناء او المشروع تخصص لعمل فني يدخل في هذا المشروع  المعمار الآخر رفعت الجادرجي كان له دورا مهما في دعم الفنون التشكيلية خصوصا بعد ثورة ١٩٥٨ اذ ان كل النصب التي أقيمت في بغداد في ساحة الطيران جدارية فائق حسن ، نصب الحرية لجواد سليم ، نصب الجندي المجهول "السابق" للجادرجي نفسه ، تمثال الأم لخالد الرحال ، وهذا لعب دورا أساسيا في ظهور الاعمال الفنية والمعماريون هم من أوائل الفنانين  كما ذكرنا ..وكما يقول مكية :" اذا كانت الفلسفة ام العلوم فالعمارة ام الفنون ".

وهكذا انتهت أمسية أخرى من أماسي المقهى الثقافي العراقي في لندن.. كانت إضافة نافعة ومفيدة تمتع فيها حضور من الجالية العراقية..

عرض مقالات: