في زقاق من أزقة الوطن :كان هناك حّلاق...
له ما يميزه من أدبٍ راق و أخلاق...و له الكثير من الأصدقاء و الزملاء و الرفاق...له صفاء ماءٍ رقراق...لتحية القادم بأشواق سَّباق...يكدح على قدمٍ و ساق
أنه ابو عادل...محب للفَّلاح و العامل و كل من يستحق و يستأهل...
هادئ كريم...متسامح متساهل...واثق... للخير سَّباق...تحَّمل بعض ما لا يُطاق...بصبر و أمل...و صفاء العُشاق...يتأمل كل صباح الإشراق...
أنه كما قلت أبو عادل الحلاق...
في طريقي اليه.... انتبهت الى ستار يجلس على كرسي امام محل (صالون) حلاقة أخر ليس ببعيد عن محل (صالون) ابو عادل و هو يقرأ في صحيفة يومية...
صباح الخير ستار...
اهلاً و سهلاً استاذ صباح الخير
انتبهت الى الزجاجة الامامية للمحل (الصالون).... مكتوب عليها : صالون حلاقة ستار للرجال
استغربت و باركت له و سألته عن ابو عادل و تركته و هو يقول ( ألله و ياك عمي)
ستار كان عاملا في محل (صالون) حلاقة ابو عادل منذ ان عرفت ابو عادل عن طريق صديق قبل اكثر من عام في وقتها
ابو عادل رجل يقترب من الاربعين في عمره...حلاق رجالي...صاحب محل صغير منزو في شارع فرعي ...نظيف ...مؤدب ...قليل الكلام بعكس ما ذُكِرَ عن الحلاق و الثرثرة
تعَّرفت عليه عن طريق زميل طلب مني مرافقته إليه ليقص شعر رأسه ...بعد التحية و التعارف ...و الترحيب قال صاحبي مخاطباً ابو عادل :
ابو عادل عيوني...الأخ من ربعك...(في اشارةٍ لي).
رحَّب و شَكَرَ و تمنى و ابتسم
تلقفت الكلام و عرفت معناه ...
قدم ابو عادل الشاي...و دار حديث عام بينه و بين زميلي و انا اقلب بإحدى صحف ذلك اليوم التي يبدو ان ابو عادل تعَّود شراءها و وضعها في محله حيث هناك اعداد منها لأيام سابقة.
انتظرنا اكثر من نصف ساعة.... همستُ في أذن صاحبي ...تأخرنا...ماذا هناك؟
فرد ابو عادل و كأنه تلقف ما اقصد قائلاً : حلاق الأخ ( و هو يُشير الى زميلي) لم يحضر بعد...خلال دقائق سيأتي...
فعلاً ليس أكثر من 15دقيقة حضر شاب مُهتم بنفسه يحمل معه كتاب و دفتر...ادى تحية الصباح بحياء و احترام...بادلناه بأحسن منها...وضع كتابه و دفتره و ارتدى ما يرتديه في عمله...و نهض زميلي ليجلس على كرسي الحلاق و يُسلم رأسه لشاب لم يتجاوز السادسة عشر من العمر.
باستغراب اُراقب ما يجري
طلب مني ابو عادل ان نجلس خارج المحل...جلسنا نتكلم على ما ورد في الصحيفة و ما اُذيع من اخبار...سألني ابو عادل أين تسكن قلتُ له في (الطوبجي) (حي السلام)...ابتسم قال على خط (44) ( يقصد باص مصلحة نقل الركابرقم44 الذي يخدم المنطقة او الحي) ...
قلت له نعم ...اركب من بدايته و انزل في نهايته...(لمن يعرف بغداد هذا الخط ينطلق من ساحة الشهداء في الكرخ الى منطقة او مدينة الطوبجي /حي السلام)...
ضحك ابو عادل وقال : من ترجع سلم لي على اخوية مجيد الاوتجي (الاوتجي...تعني صاحب مكوى الملابس /كان على الفحم)... محل مجيد يقع عند نهاية خط الباص44
قلت له ...تعرفه؟ اجاب نعم هذا من (عتيك) اي معرفة قديمة او متمرس في شيء...شكرته و تعهدت له بأن سلامه سيصل اليوم...تكلمنا عن مجيد الطيب...و قد وصل سلامه في نفس اليوم وكان محل حديثنا انا و مجيد.
لا أبالغ أذا قلت أن نسبة عالية من أهالي المنطقة الواسعة المتنوعة (الطوبجي/ حي السلام) تعرف مجيد الاوتجي...و حتى الغريب حيث من يسأل على شخص او دار او عائلة يقولون له أسأل مجيد الاوتجي فهو يعرف نسبة عالية من اهل المنطقة...(يعني مختار غير رسمي).
خرجنا من المحل (صالون حلاقة ابو عادل) انا و زميلي... و تدور برأسي اسئلة كثيرة... حيث هناك امور تحتاج الى تلك الاسئلة...
بادرت بسؤال زميلي ...يبدوا أن ابو عادل قد ترك العمل و هو في عمر الشباب تقريباً(أربعين عاما)...حيث العادة أن الصديق يقص شعره (الاسطه) صاحب المحل و ليس العامل...
فرد صاحبي مبتسماً و قال ...كنت ...لكن أبو عادل و بحكم الصداقة التي تربطنا طلب مني في أحد الايام ان اقبل بأن يقص لي شعري... ستار...مستقبلاً...و قال انظر إلى قصة شعري فهو من قصها لي...
يقول صاحبي : استغربت...لأن ابو عادل اكيد يحتاج إلى من يقص له شعره فوجد ستار الاقرب لذلك و هذا ربما طبيعي...لكن ابو عادل بادرني قائلاً ما يقص شعر الحلاق إلا حلاق مثله...فهمت القصد و قبلت الطلب.
و عندما ( و الحديث لصاحبي) استوضحت الامر من ابو عادل ...قال لي :
انا كما تعرف لي عائلة صغيرة أنا و زوجتي (راسي او راس المرة لا ولد و لا تلد) (تعني ...ليس لي اطفال رغم زواجي المبكر)...و لي جماعتي الذين يرغبون ان اكون حلاقهم الخاص...و هذا يكفيني و يسد كل احتياجاتي و هي بسيطة كما تعرف...و ستار يتيم الاب و له والدته و ثلاث اخوات أصغر منه...و هو طالب و صغير بالعمر...والده من جماعتنا ...قدم حياته في سبيل ذلك و لم يترك لهم اي مصدر عيش...و انا تكفلت بهم على قدر ما استطعت كل تلك الفترة تقاسمت معهم ما يمكننا من العيش حتى بكفاف...و عندما كَبُر ستار قلتُ له أن يساعدني في المحل و يتعلم مهنة قد تعينه في قابل الايام وسيكون له رواد ممن يرتادون المحل اليوم...على ان يستمر بدراسته في المساء...
و استمر صاحبي يسرد عليَّ تلك الملحمة الانسانية التي كتبها عملياً ابو عادل...
اكمل حديثة و نحن جلوس في احد البارات (مطعم و بار)...قائلاً :
كيف تدَّرب ستار على قص الشعر؟...من خلال المشاهدة و الانتباه و التعليم و الوصايا من ابو عادل... و اول تجربة له....حيث طلب يوماً أن يأخذ ادوات الحلاقة البسيطة معه الى البيت...حيث قص شعر بعض اطفال الجيران...و استمر هذا الحال اسبوعياً تقريباً...ثم مع اطفال المحلة التي يقع فيها المحل (الصالون) و مجاناً...إلى أن...تمكن من كسب اعتراف ابو عادل بجودة عمله من خلال الانتباه الى قص شعر اطفال المحلة...
في أحد الايام ...طلب منه أبو عادل أن يقص له شعر رأسه...صُعِق ستار كما وصف الموقف ابو عادل...لكنه شجعَّه ...أحسن ستار عمله و تكرر الحال مع ابو عادل... في أحد الايام و انا في المحل ليقص ابو عادل شعري ... قال لي ...ما هو رأيك بقصة شعري؟...هل فيها عيب او عيوب...قلتُ(و الكلام لصاحبي) لا... ممتاز ...أكيد عند حلاق متخصص مثلك...ضحك و قال نعم ...حلاق أحسن و أفضل من معلمه (صانع الاستاد...ستاد او نص) [ يعني من يتدرب عند استاذ يصبح اكثر من استاذه و احسن]...أنه ستار... استغربت يقول صاحبي...و اطلب منك أن تقبل به حلاقك من اليوم...
أكمل صاحبي قائلاً : لا تستغرب عندما يطلب منك ذلك في يوم من الايام...سيطلب منك ذلك خلال فترة قصيرة حتماً...و فعلاً حصل و تقبلت ذلك بكل رحابة صدر...
تركتُ ستار.... يجلس في باب صالون حلاقته...و توجهت الى محل ابو عادل ...مستغرباً خائفاً أن هناك خلافا او نكران جميل من ستار لمعلمه و عمه ابو عادل و انا بقلق اسأل ابو عادل عن ستار كأني لم التقيه...
ضحك ابو عادل...وقال : اصبح صاحب محل مستقل و استاذ في مهنة الحلاقة...
كان المعروف في صالونات الحلاقة او محلات الحلاقة ان يقدم الزبون هدية بسيطة قبل الخروج للعامل يُطلق عليها في العامية العراقية (بقشيش أو بخشيش)...هذه كانت لستار مع اجوره اليومية المُعتادة من ابو عادل...و بعدها قرر ابو عادل أن يعطي اجور الحلاقة التي يقوم بها عادل اليه كاملة...بالإضافة الى مساعدته في انجاز واجباته المدرسية و حرصة على دراسته و استمرارها.
موقف صعب و درس بليغ و نزاهة و شرف و اخلاص متناه ...أخرسني عن قول أي شيء ...سرحت في خيال و شرود ....و صمت...حيث تعجز الكلمات عن وصف ذلك...
كسر كل ذلك ابو عادل...بابتسامته و هدوءه المميزينْ و قال :من اليوم انت حلاقك ستار...تأتي هنا ...أهلاً و سهلاً و انا بشوق لكن للتواصل فقط...قص الشعر هناك...
و هذا الموقف اخبر به أو طلبه من كل من كان ستار يقص لهم الشعر...
و في أحدى المرات ...قال لي أبو عادل أنا سعيد لأن ستار تعلم مهنة تدر عليه ما يسد به احتياجات عائلته... و بذلك انا ربحت ايضاً ...ربحت كثيراً.... أني اوفيت حق والده صديقي و اوفيت حق القيم التي آمنت بها و لا أزال...و ربحت اني مرتاح الضمير...و ربحت لأني تخلصت مما كنت أقدمه لهم من مال و لو بسيط و ربحت لأن ستار فيه وفاء و صدق أبيه و لم ينس عمه ابو عادل...فهو كل يوم يأتي ليفتح المحل و ينظفه و ينظف امامه و ينتظرني الى أن آتي اُصَّبِحْ عليه و يُصَّبح عليَّ و بعد ذلك يذهب ليفتح محله (صالونه) و عند المساء يأتي بعد أن يغلق محله ليُنظف المحل و الادوات و يغلق المحل و يُمَّسي عليَّ و أُمَّسي عليه.
هل هناك سعادة اكثر من هذه السعادة...و انا على يقين من أنه لن يترك (خالته) زوجتي لو حصل لي مكروه فهو ابنها الذي لم تلده.
تحيـــــــــــــــــــــــــة كبيرة في هذه المناسبة للكبير ابو عادل(اصدقاؤه من اطلقوا عليه اسم ابو عادل) الذي لا اعرف اسمه لليوم ...و بحثت عنه في زيارتي الاولى و لم اصل الى شيء.
و تحية للغالي مجيد الاوتجي و الذي لا اتوقع انه حي لليوم لهما الذكر الطيب.
و تحية للشاب ستار الذي ايضاً لا اعرف عنه شيئا إلا أنه حصل على الشهادة الاعدادية و التحق بالجامعة و لا يعرف عنه شيء من قال لي ذلك....و هو صاحب محل بيع الاحذية الملاصق لمحل الحلاقة... حيث باع محله و انتقل الى مكان آخر قريب لسكنهم الجديد في احدى ضواحي بغداد... اتذكر ستار عندما يستقبلني او زميلي يقول استاذ و عندما نغادر يقول عَّمي
و تحية لمن ارضعتهم الدر و تحية لمن علمهم القراءة و الكتابة و تحية خاصة لمن علمهم حب الناس و احترامهم...
و تحيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة للحزب الشيوعي العراقي...و لكل من سار في طريقه من أمثال ابو عادل و مجيد و ستار
و الذكر الطيب لكل شهداء الحزب و من سار في طريق وطن حر و شعب سعيد
الى اللقاء مع قصة اخرى هذه المرة من البصرة