طريق الشعب – لندن

كان مساء الجمعة السابع والعشرين من كانون الثاني ٢٠٢٣ موعد الأمسية الثامنة والتسعين في سلسلة آماسي المقهى الثقافي العراقي في لندن إستضاف فيها الإعلامي والروائي الدكتور حميد الكفائي ليتحدث عن موضوع " الفن الروائي بين الإمتاع والإبداع" وعن روايتيه " عابر الحدود" و " الغائب الحاضر" وقدم الدكتور عبد الحسين الطائي الأمسية وأدار الحوار فيها مع الضيف والجمهور الذي حضرها.. وهذه التغطية ستأتي على مجريات الأمسية.

 الفن الروائي من الفنون الراقية والذي ينطوي على صفتي الإمتاع والإبداع، هكذا ابتدأ   د. الطائي تقديمه بعد أن رحب بالدكتور الكفائي وشكره على تلبيته دعوة المقهى، وأضاف انه قرأ "عابر حدود " و" الغائب الحاضر" لمؤلفهما ضيف أمسية اليوم، واكد على انه وجد هاتين الصفتين (الإمتاع والإبداع) في الروايتين، علاوة على تضمنهما على دراسة سوسيولوجية لطبيعة المجتمع العراقي، بشقيه الريفي والمدني، واعتبرهما وثيقتان مهمتان لتدوين الذاكرة العراقية. وأشار إلى الحاجة الماسة في وضعنا الراهن إلى إعادة تدوين التاريخ. والروايتان تصبان في هذا المجرى، حيث حرص الكفائي على ضخ عمله الأدبي بفيض من المعلومات التي وثقت أحداثا وقعت في العهدين الملكي والجمهوري.

وجاء الطائي على فقرة التعريف بالضيف الدكتور حميد الكفائي، بإيجاز، فذكر انه معروف ككاتب وصحفي وله العديد من الدراسات والمقالات وأجريت معه اللقاءات في مختلف الوسائل الإعلامية، لكن الذي فاجئنا فيه هو نتاجه الروائي المتميز الذي انطوى على أسلوب ادبي رفيع ولغة رصينة وأحداث مثيرة.. والكفائي درس في جامعة لندن من ١٩٨٥-١٩٨٩ وحصل على البكالوريوس وبعدها عمل الماجستير في جامعة ويستمنستر ثم الدكتوراه.. وله كتاب بالإنكليزية بعنوان " فشل الديمقراطية في العراق". وطلب الضيف تجاوز سرد السيرة الذاتية لكسب الوقت.. عندها عرض تسجيل بالفيديو على الشاشة كان شهادة للكاتب والناقد المصري د. محمد العشيري قال فيها:

" حظيت بقراءة روايتي حميد الكفائي وأتاحت لي قراءتهما فرصة التعرف على عراقنا الغالي الذي لم أزره من قبل وكأني أجلس أمام شاشة عرض أشاهد، من خلالها باستمتاع، فيلما تسجيليا ممتعا. في يد الكفائي قلم عراقي أصيل، وهو قلم بصير يصور بالكلمات المكان والشخوص والحياة فهو يرصد الريف ومناطقه في جنوب العراق وينقلك بعدسته إلى داخل الريف فترى الزروع والأشجار والنخيل والحيوان والنهر والمراعي وتأخذك العدسة إلى السوق وإلى مركز المدينة أيضا، ثم تعود بك إلى بيت عراقي بسيط مبني من الطين يتعايش السكان فيه مع الحيوان الذي قد يكون مصدر دخلهم الوحيد وفي البيت تعيش مع رجال ونساء بسطاء غلبتهم عادات وتقاليد عراقية محضة وسكنت صدورهم كما تصور عدسة القلم – أفكارا ومعتقدات ، بعضها يمت للدين بصلة، وأساطير لا يضيقون بها  بل تسيّر حياتهم فينصاعون لها، حتى وان كانت تخالف العقل وتعود عليهم بالخسران" . ويأتي الدكتور العشيري بمقتطفات من الروايتين يبرهن فيها على تقييماته ويختم بالقول :   " وقلم حميد يقطر بكلمات وجمل عربية رصينة وبلغة جميلة سلسة رقراقة ، في السرد وفي الحوار ، لغةٍ أدبية هي - في رأيي – سمةً من سمات فن الأدب ، الذي يخالف غيره من فنون الكتابة ، ويختلف عن لغة الصحف والتقارير الإعلامية ..بيد ان  تلك اللغة من أسف أضحت الآن في عيون بعض من يمارسون الأدب،" لغة خشبية" وهم مخطئون في ذلك خطأ جسيما ..ما قد يعيب فن الأدب ليس جمال اللغة ورصانتها، بل الإغراق في حوشية الألفاظ ، واستخدام الأسلوب التقريري المباشر في السرد."

أعقب العرض حديث للدكتور الطائي فقال:" د. حميد تمكن من استحضار منطقتي الريف والمدينة واستطاع نقل الحياة فيهما بسرد جميل جدا ووافٍ. وقد استقى كل ذلك من الموروث العراقي، مستخدما مخياله الواسع، وسجل كل شيء بدقة تلامس الواقع الاجتماعي وعكس التفاوت الطبقي بين افراد المجتمع وأمور لها علاقة بحياة الناس من عادات وتقاليد مستعينا بالحكم والأمثال والأشعار.. الخ".

بعد ذلك عرضت الأمسية على الشاشة شهادة الروائي العراقي إبراهيم أحمد والتي أرسلها للمقهى من محل إقامته في السويد وقال فيها:

" أصدقائي الأعزاء.. تحياتي لكم جميعا، قد تعتبر شهادتي بالصديق الروائي والكاتب الإعلامي تعتبر مجروحة بشكل ما، لما تربطني به من صداقة ومودة، وثيقة منذ سنوات طويلة تقارب العشرين عاما. لكن انا سأحاول ان أكون موضوعيا قدر الإمكان في رأيي بما كتب الأستاذ حميد خاصة في الروايتين الأخيرتين. مثلا "عابر حدود" الرواية الأولى هي كانت غوص في ذاكرة في الريف الجنوبي او الفرات الأوسطي إن صح التعبير، هو عاد بما يشبه موجة الحنين إلى تلك الأرض التي فارقها منذ سنين طويلة وعاش في لندن بعيدا عنها، عاد ليتقصى عادات وتقاليد وحياة ذلك الريف الجميل، احتضن وجوها أليفة وحبيبة، كان عاش معها.

الرواية كانت إلى حد كبير كشفا نفسيا واجتماعيا برؤية معاصرة فيها إشفاق وأمل بأن هذه المجموعات البشرية ستنتقل إلى عالم المدنية والتحضر، إلى عالم التطور الذي كان آنذاك يسود البلاد. هو طبعا لم يكن يتحدث عن الحياة في تلك الأرض في العهد الملكي إذ هو تفتح في العهد الجمهوري. في تناولاته نلمس رفقا وعطفا ومحية للإنسان ومحبة للحياة ومحاولة لتقبلها سواء كان في قسوتها أو ظروفها الصعبة أو في آمالها وتطلعاتها. في الجوانب الفنية كان الكفائي دائما يحاول ان يكون واضحا سلسا دقيقا.. لم يكن ميالا إلى الحذلقة واللعب الفنية المعقدة، ربما في بعض الأحيان يبدو تقريريا، لكنه سرعان ما يتجاوز التقريرية والمباشرة، إلى ما هو موحي وإلى ما هو يلمح أكثر مما يصرح ".

ثم اقترح مقدم الأمسية الطائي علي الضيف الكفائي حوارا كان على المنوال التالي:

 

د. الطائي: أسأل الدكتور الكفائي عن ماهي دوافعك من كتابة هاتين الروايتين.. وأنت المغترب منذ ثمانينات القرن الماضي.. وفيهما تحدثت عن البيئة العراقية بتفاصيل دقيقة جدا. خاصة بالريف.. هل كان ذلك انعكاسا لتجربة شخصية أم مستوحاة من الخيال؟

د. الكفائي: (مازحا) تصورتك نسيتني، كنت على وشك ان أذكرك بأني موجود.. (ضحك من القاعة) شكرا أستاذ عبد الحسين على التقديم.. إذا تسمح لي أولا بالحديث قليلا عن الرواية بشكل عام وليس عن هاتين الروايتين.. وعن موضوعنا الرواية بين الإمتاع والإبداع.

فن القصة والرواية ليس فنا حديثا، بل بدأ منذ فجر التأريخ وأول رواية مدونة كتبت باللغة اليونانية في عام 123 قبل الميلاد هي رواية كاليرهو (Callirhoe) التي كتبها تشارلتون Chariton، على ورق البردي (papyri) ولم تنشر حتى القرن الثامن عشر، وهي بين خمس روايات كتبت في الزمن القديم. ويتميز هذا الفن بأنه يعكس عن حياة المجتمع ويتداوله عامة الناس ويستفيدون منه ويستمتعون به، على خلاف الشعر، الذي يقتصر على نخبة الأدباء والمتذوقين في المجتمع.

كل الشعوب والثقافات لديها فنون روائية والشعب العربي ليس استثناءً، ولكن، لسبب من الأسباب لم يصلنا هذا الأدب عن السابقين. ليس صحيحا أن العرب لم يهتموا بالفن الروائي، مطلقا وأبدا، بل هناك إشارات في كتب التأريخ إلى وجود هذا الفن وهناك رواة وقصص تذكر بشكل عابر. ولكن أين هو؟ ولماذا لم يصلنا؟ ولماذا أهمل هذا الأدب ولم يدرج في كتب التراث؟ ولكن، هذا بحث لمناسبة أخرى، وخير من كتب في هذا المجال في رأيي هو الروائي المصري فاروق خورشيد وأستاذه محمد فريد أبو حديد.

 أول رواية عربية معروفة هي رواية (حسن العواقب) لزينب الفواز التي نشرت عام 1899، لكن معظم النقاد يرون أن رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل، هي أول رواية عربية كتبت وفق الأطر الحديثة، وقد نشرت عام 1914 تحت اسم مستعار هو (مصري فلاح)! ثم نشرت باسم الكاتب الحقيقي بعد 15 عاما... كذلك تعتبر رواية قنديل أم هاشم ليحيى حقي من الروايات الرائدة. وقد نشرت عام 1940. 

الرواية ابتداءً حوادث يخترعها الخيال وهي لا تعرض لنا الواقع كما تعرضه كتب التأريخ بل تضع أمام القارئ صورة مموهة منه.

الشعر هو عواطف متأججة وخيال جامح وموسيقى خارجية ولا يصلح للتعبير تعبيرا صادقا ودقيقا عن حياة المجتمع وقضاياه، بل صار وسيلة للتكسب والأمثلة كثيرة في تأريخنا العربي، فعندما تقرأ القصائد ترى أن معظمها يتناول إما المديح أو الهجاء والفخر والرثاء (وهي من أنواع المديح أو الذم).

وعن العناصر السائدة في القصة من المفيد ان نشير إلى ما ذكره الأستاذ محمد يوسف نجم اذ حددها العناصر بأربعة عناصر هي:

1-           الحوادث.

2-           الشخصيات.

3-           الفكرة:

4-           البيئة.

 أما أنواع السرد الروائي فهي:

السرد المباشر (الطريقة الملحمية): الكاتب ينقل الأحداث مباشرة إلى القارئ: الكبرياء والهوى وهو الذي اعتمدته في (عابر حدود)

الترجمة الذاتية: الكاتب يتحدث بضمير المتكلم ويضع نفسه مكان البطل (السراب لنجيب محفوظ)، وهو الذي اعتمدته في رواية (الغائب الحاضر) وكذلك في روايتي قيد الطبع (أسبوع العسل)

الرواية الناجحة هي التي توفر للقاريء أكبر قدر من المتعة. لأن الرواية غير الممتعة قد تكون متقنة، وقد يكون موضوعها مهما، ولكن ان لم تكن ممتعة فهي فاشلة، من الضروري جدا ان تكون متقنة، والإتقان هنا هو الإبداع.

الفرق بين الفن الروائي والشعر يقتصر على فئة قليلة جدا من المجتمع، والعالم العربي والتراث العربي يزخر بالشعراء.. والشعر فن راق ويعبر عن الإحساس.. ولكن الفن الروائي يعبر عن حياة المجتمع.. الفن الروائي هو للناس جميعا بينما الشعر هو لقلة قليلة من المجتمع. وللرواية دور تلعبه في تطوير المجتمع.. لكنها للأسف غابت عن مجتمعاتنا سابقا او تأخرت.

وتواصل الحوار بين الطائي والكفائي تضمن استعراضا لاحداث وشخصيات الروايتين والأفكار التي تم طرحها أكد خلالها د. حميد انه في كتاباته لم يك داعيا او مروجا لدين او أيديولوجية.. وقال انه في الروايتين كتب عن ماتختزنه ذاكرته من بيئته الأولى وتحديدا الريف والقرية العراقية، وانه كتب ذلك بعد عيشه في الغربة لأكثر من أربعين عاما، إلا إنه في عمله الجديد " أسبوع العسل" الذي سيصدر قريبا تناول فيه احداثا وشخصيات أوربية.

ثم دعا مدير الأمسية الحضور لطرح مداخلاتهم واستفساراتهم.. وفعلا ساهمت القاعة في إغناء الموضوع، وقد أجاب د. الكفائي على الاستفسارات.. والمداخلات ومن الذين ساهموا في الحوار الشاعرة دلال جويد والروائية والحقوقية بدور محمد زكي والروائي السعودي بندر ناصر والإعلامي سمير طبلة والاستاذة ندى الرماحي.

وهكذا يواصل المقهى الثقافي العراقي نشاطه الجاد في الحرث في حقول متعددة في الثقافة العراقية ويقدمها لجمهور لندني يتواصل مع المقهى باستمرار.

عرض مقالات: