بعد نجاح الرواية الموسومة "قطار الليل إلى لشبونة" (2006) والتي بيع منها أكثر من 300 ألف نسخة في هولندا، صدر للفيلسوف السويسري والكاتب باللغة الألمانية  بيتر بيري (1944)، والذي ينشر تحت اسمه المستعار باسكال مرسييه، رواية بعنوان "وزن الكلمات" (2019) عن دار المكتبة العالمية والتي ترجمتها إلس سنيك من الألمانية إلى الهولندية. وهي رواية فلسفية رائعة تبحث بعمق في الموضوعات الوجودية. فمن العبارات المعبرة والعديدة في الرواية، يقول: "أن الحياة ليست هي الحياة التي نعيشها، إنها الحياة التي نتخيل أننا نعيشها." كما يواجهنا بالسؤال؛ كيف يمكن لخيالك أن يساهم في حريتك؟ فهذه أيضا أحد الثيمات التي تشغل بيتر بيري، أستاذ الفلسفة في الجامعة الحرة ببرلين، والتي سبق أن عالجها، في كتبه تحت اسمه الحقيقي، على سبيل المثال وليس الحصر، "عمل الحرية" (2001) و"الكرامة، أسلوب حياة" (2015). ويستخلص أن على المرء أن يبني حصنا داخليا لحماية نفسه من أعين الآخرين، فقط عندما ينجح في ذلك، يمكنه أن يترك العنان لخياله ويقترب خطوة من حريته الداخلية.

  فبعد ثلاث عشرة سنة، يلقي بيتر بيري، وهو في الخامسة وسبعين ربيعا، الضوء من جديد، في مزيج من الخيال والفلسفة، في روايته "وزن الكلمات"، على إمكانيات الانسان في تشكيل حياته بالطريقة  التي تناسبه وتناسب من هو. إنها مرة أخرى نقطة انطلاق قوية جدا لرواية تطرح أسئلة حول الحياة والزمن والترجمة والكتابة.

   تبدأ الجملة الاستهلالية بترحيب مراقب الجوزات مطار لندن بسيمون لايلاند، "أهلا بك في بلدك" وتنتهي الرواية أيضا بنفس عبارة الترحيب بمطار هيثرو؛ العودة إلى الوطن - الأم. في المرة الأخيرة التي نظر فيها إلى صورة جواز سفره، في منزله في مدينة تريست بإيطاليا، رأى رجلاً آخر دون مستقبل. الآن سيبدأ حياة ثانية، وجود يمكن إعادة ترتيبه من الصفر. ويتساءل ما الذي فعله بحياته، وماذا سيفعل الآن حتى يتمكن من العيش مرة أخرى في "الآن" و "لاحقًا"؟ وهذ ما يختزله، أيضا، الكاتب الهولندي أوك دو يوه، حرفيا ومجازيا في سيرته الذاتية الفكرية الرائعة "القفز إلى المستقبل" (2004) حول الانتماء وكينونة الانسان. كما أن زملاء مرسييه الهولنديين وهما من نفس جيله تقريبا، مارسيل مورينغ وأوك  دو يوه يطرحان نفس الأسئلة الفلسفية والأخلاقية، بطريقة غير مباشرة، في روايتيهما المنشورتين حديثا (2019) والموسومتين بالتتالي، "الحضيرة السوداء" و"آمين": ما الذي صنعته بحياتي؟ كيف تبدو حقا حياتي في الماضي؟ ماذا يمكن أن يقدم الفن؟ كيف أختبر وأحس الوقت - الزمن؟  فالشخصية الرئيسة سيمون لايلاند يتساءل، أيضا، عن موطنه؛ هل في  تريست؟ أو في لندن؟ أو في النهاية في المخيلة، "المكان الفعلي للحرية"؟

 

بناء الرواية

 تشمل الرواية على خمسة وأربعين فصلا مرقما غطت 474 صفحة. تتطرق إلى ثيمات عديدة، منها لغوية كأهمية الكلمات والكتابة والترجمة وأخرى انسانية - وجودية كالوحدة ومفهوم الصمت واليأس و البحث عن الذات. وهي عبارة عن حكايات متداخلة في بعضها.

   اختار مرسييه لبناء روايته ساردا عليما وشخصية رئيسة، سيمون لايلاند الذي يعلمنا من خلال قراءته رسائل سبق أن كتبها إلى زوجته الراحلة. فخلال وحدته وإنصاته إلى سكون تام، كان يكسر هذا الصمت عن طريق الكتابة إلى زوجته. أحيانا يستذكر الماضي واحيانا أخرى يعلمها بما يجري في حياته كأنه يحاورها. ويعترف أنه يكتب من خلالها ليستمع إلى نفسه، لا لأن يبقيها حية. فتأتي هذه الرسائل مكتوبة بخط مائل، تحكي لنا الشخصية الرئيسة أحداثا سبق أن تعرف عليها المتلقي من خلال السارد العليم. وهو سرد من الداخل. ويفند تكرار الأحداث في هذا النص السردي، لأن وقت استعادة الذكريات هو وقت الاستيعاب، مراجعة النفس، هذا كل ما في الأمر. وأن هذا التكرار يدفع القارئ إلى التأمل والبصيرة. ولا عجب في أن شخصيات مرسييه تطرح على نفسها أسئلة أخلاقية: هل يمكنك التفكير بجدية في وضع فاصلة أو نقطة فاصلة عندما يكون هناك أشخاص لا يعرفون أين ينامون الليلة؟ لكن مع هذا، فإن عم لايلاند البروفيسور وارين شجعه، في رسالة تركها له بعد موته، أن يتجرأ ويكتب بكلماته الخاصة وبصوته الأصلي اعترافات عن شخصه أو قصص يمكن لشخصياتها أن  تعبر عن تجربة مشاعره العميقة بشكل مكثف وشاعري للغاية. فهو الذي ساعد كثيرا الآخرين ومنحهم صوت لغته وصوتا خاصا بهم بلغته. 

 البحث عن التوازن في الحياة

   تلقى الشخصية الرئيسة سيمون لايلاند  خبر إصابته بورم في رأسه وأن ليس لديه سوى وقت قصير للعيش. فبعد إحدى عشر أسبوعا يكتشف حدوث خطأ في المستشفى؛ لقد استبدل كشفه الطبي بأخر، وذلك بعد أن ودّع ابنته وابنه وباع دار النشر الخاصة به. إثرها فقد موطئ قدمه، وتاه في دوامة الوقت الذي يمر بلا رحمة. بدأ يراجع نفسه. ماذا فعلت في حياتي؟  يعتقد، من عرفته حقا؟ وهل كنت حقًا، حقيقيًا، ذاتي الحركة، بالطريقة التي عشت بها؟ وهذا لم يمنعه أن يهتم أيضا بحيوات ممن حوله. ويحاول مد يد العون لهم. فكل الأشخاص في حياة لايلاند هم مهمّون، وبالرغم من نجاحاتهم وإحباطاتهم فإنهم أصروا للبحث وإيجاد شيئا ما في الحياة يشعرون فيه بالانتماء. ونجح الكاتب، فعلا، في وصفه  لنفسيتهم وتخبطاتهم لإيجاد ذاتهم والقيام بما يجدون فيه أنفسهم، كابنته صوفيا، الطبيبة التي أصبحت صانعة أفلام وثائقية وابنه، سيدني المحامي الذي أبدع في الترجمة.

   يبدو أن كل هذه القصص المتداخلة تحمل نقطة مرسييه الأساسية؛ النزعة الإنسانية: وهي اقتناعه بأن الكتابة تساهم في عملية معرفة الذات، مثل التحليل النفسي. كل من يكتب يحصل على صورة أفضل عن نفسه، فإن المخيلة هو المكان الفعلي للحرية، والطريقة التي نعيش فيها؛ الطريق إلى الاستقلال الداخلي. وهذا الاستقلال يعتبر الحجرة الأولى لكرامة الانسان ولا نصل إليه بدون معرفة الذات.

    عندما تم اكتشاف الخطأ الطبي، غادر لايلاند تريست إلى لندن. واتضح أن لديه مستقبلا مرة أخرى. فمن خلال السارد العليم وأيضا الرسائل إلى زوجته المتوفية، عاد بذاكرته إلى الماضي، بالمعنى الحرفي والمجازي. زار أكسفورد، الجامعة التي تركها كطالب ليصبح حارسًا ليليًا في أحد الفنادق. هناك نما حبه الكبير للغات، منهم اللغة العربية والمالطية وكل لغات دول البحر الأبيض المتوسط. كما ترجم كتابه الأول. وتتذكر لقاء حبه الكبير، الصحفية الإيطالية ليفيا، التي تولت إدارة دار النشر بعد وفاة والدها، واضطروا لمغادرة لندن والانتقال إلى تريست مع طفليهما. كان لايلاند مترجما قبل أن يترأس دار النشر بعد وفاة ليفيا. لكنه عاد إلى لندن ليستلم  منزلا ورثه عن عمه، أستاذ  اللغات الشرقية، الذي ترك له رسالة يدعوه فيها إلى الكتابة بكلماته واستعمال صوته الأصلي، بعدما كان لايلاند مترجما لعقود، يُعير كلماته وصوته لكتاب آخرين. ولا ننسى أن  مرسييه يعير اهتماما كبيرا لأهمية اللغة. وروايته هاته عبارة عن تقدير وثناء يوجهه للمترجمين والأعمال المترجمة.

  وأخيرا استعمل لايلاند صوته الأصلي، وشرع في كتابة رواية مكتشفا متعة التأليف والاستقلال الذاتي.

 

 

 

 

 

 

عرض مقالات: