أمسى التقديم إلى الدراسات العليا عند( بعضهم) وسيلة لإشغال وقت الفراغ أو تنفيسا عن الضجر أو فرصة لتغيير الجو.. والتسلية مع الأصدقاء القدامى وكأنهم في نزهة.. أو مجاراة لموضة التقديم التي تظهر كل عام فيما يشبه الحمى الجماعية التي تصيب فجأة مجموعة كبيرة من الخريجين القدامى والجدد بدافع التقليد.. وقل في أيامنا أن نجد من يتقدم وقد تجرد من تلك الدوافع كلها ويحمل هما فكريا يشغله في الدراسات الإنسانية ويسعى في الدراسة إلى البحث عن أسئلة فكرية شغلت جانبا كبيرا من حياته ويريد بلورتها في موضوع يستجيب لهدفه وغاياته.. أو يكون صاحب حلم بمشروع مبتكر في الدراسات العلمية يريد إنجازه فعليا ودعمه بالدراسة والبحث نظريا وعمليا تحت خبرة اشراف اكاديمي راق..خدمة للإنسان او لبيئته..
أقول هذا بعد أن أخبرني أحدهم أنه منذ أن تخرج قبل سنوات لم يقرأ إلا الكتب المنهجية المقررة في المتوسطة التي يدرس فيها اختصاصه وهي لا تتجاوز أصابع يد واحدة..والآن يريد فجأة أن يقتحم عالم الدراسات العليا الذي عماده أولا واخيرا قراءة مئات الكتب في الاختصاص على مدار السنتين التحضيرية والتطبيقية...وقبلهما أيضا لابد من وجود استمرارية بعد التخرج من البكالوريوس في القراءة والمتابعة -في الأقل - في اطار التخصص.
لاشك أن ذلك الشخص سيواجه صعوبة كبيرة في تلك التجربة بسبب الانقطاع عن التواصل مع مصادر الاختصاص ومستجداته المعرفية..التي تتراكم عاما بعد عام.. والإشكالية الكبرى حين يتصور أن الحل السحري سيكون بيد المشرف المكلف بالإشراف على الرسالة... لكن كيف سيعوض المشرف هذا الفراغ المعرفي الواسع في عقل مثل هذا الانموذج من الطلبة… وهل سيكفي الوقت المحدد.. لإعادة تشكيل هذا العقل.. المنقطع.. الذي لولا الدراسات العليا ما عاد ليسأل عن مستجدات اختصاصه والمؤلفات الجديدة فيه..
ليست الإشكالية في أن الهدف غالبا لدى الراغبين بالدراسات العليا هو تحسين الدرجة الوظيفية واكتساب شهادة أعلى فذلك هدف مشروع ومقبول لكنها في عدم استعداد صاحبها ثقافيا للدراسات العليا إلا في لحظة التقديم أو قبلها بقليل فينكب على القراءة والمطالعة ويسعى إلى حرق مراحل زمنية في وقت ضيق لاكتساب ما فاته من كم كبير من المعرفة في اختصاصه.. معرفة هي حصيلة سنوات أو وعقود زمنية عديدة.. من الصعب اختصارها بشهر قبل الامتحان التنافسي.. ومن الصعب أيضا أن تحرك الدراسة -لاحقا بعد القبول- عقلا علميا منقطعا وراكدا منذ سنوات عند حدود ثقافة الوظيفة وكتبها المنهجية المحدودة وتصل به إلى مستوى ثقافة (الشهادة العليا) وثورتها المعرفية في سنتين فقط بعد أن فاتته سنوات عديدة انتجت حصيلة هائلة من المعرفة في اختصاصه..لا يعلم عنها شيئا..
هذه واحدة من إشكاليات الدراسات العليا التي تحتاج أكثر من وقفة جادة ومعالجة عملية وجذرية.
وأول علاج أن على من يفكر بالدراسات العليا الاستعداد لها بعد تخرجه مباشرة وأن يتعمق في تخصصه بالقراءة والمطالعة والبحث والكتابة ومتابعة كل جديد في ذلك التخصص وأن ينتخب له في إطار هذه الاستمرارية العامة مع التخصص موضوعا ما في الإطار نفسه أكثر تحديدا يهتم به وبتنمية المعرفة به ويجعله هما علميا وفكريا يشغله دائما بالنقاش والحوار والقراءة بينه وبين نفسه أو مع ذوي التخصص أو الاهتمام المشترك..ومن ثَمَّ إذا جاءت لحظة القبول في الدراسات العليا سيجد نفسه مستعدا لها وعلى دراية جيدة بتخصصه وعلم بالهدف الذي يريد الوصول إليه..وسيكون ليس مجرد طالب دراسات عليا وإنما سيكون مثقفا في تخصصه وهذا التوصيف أكبر من توصيف (الطالب).. وسيكون تفاعله مع المحاضرات أكثر نشاطا ومع الأفكار أكثر عمقا وسيجد بنفسه الموضوع المناسب لثقافته وتخصصه وهمه الفكري والعلمي وسيمسي صاحب شخصية واضحة المعالم العلمية والفكرية عند اساتذته ويمتلك القدرة الذاتية والبحثية على إنجاز رسالة علمية راقية وليست مجرد أوراق ستركن فوق الرفوف..‏a