عندما بدأت أنامل الشيخ إمام تعزف مطلع لحن قصيدة “أناديكم” على أوتار العود ضجت صالة المسرح بالتصفيق. كان الشيخ إمام يجلس على كرسي من الخيزران متأبطاً عوده يخبط بقدمه الأرض خبطاً متواتراً، وعن يساره يجلس صديقه ورفيق دربه الفنان التشكيلي وضارب الايقاع محمد علي، وبين ركبتيه الطبلة المصرية الشهيرة ليضبط ايقاع الغناء. أُخذتُ مما رأيتُ. كان الجمهور أسير المغني يصنع به ما يشاء، وكأن يعقوب بن اسحاق الكندي حلَّ في صورة هذا المغني الفقير الضرير حادي قوافل الضمير.
الأغنية من كلمات الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد وكانت عنواناً لديوانه الأول “أشد على أياديكم” الصادر عن مطبعة الاتحاد في حيفا عام 1966 وقد اجتمع الشاعر توفيق زيّاد والشيخ إمام في مدينة ليل الفرنسية عام 1984 حيث ألقى توفيق زيّاد قصيدة “أناديكم” على الجمهور ثمَّ غناها الشيخ إمام. ألحان الشيخ إمام عميقة في بساطتها، مذهلة في تأثيرها، تنسرب إلى النفس الإنسانية فتحييها، وإلى القلب فتوقده. يختار من الحياة تلك النغمات الباقيات عبر تاريخ طويل من كدح الإنسان وعذابه.
بعد سنوات أخذ الملحِّن والمغني اللبناني الثوري أحمد قعبور كلمات قصيدة أناديكم وصاغ لها لحناً جديداً، بل قل نشيداً صاخباً يهز الوجدان هزَّاً عنيفاً. تُحسّ أن أحمد قعبور في موسيقاه يصرخ في العمال والفلاحين على امتداد الكرة الأرضية، يناديهم ويشد على أياديهم. هي دعوة حيَّة للمقاومة الشعبية في وجه الظلم والاستبداد والاستعباد. نحن لم نهن في وطننا ولن نهون ما دامت عروقنا تنبض، سنحمل دمنا على أكفنا ونقتحم الشوارع والساحات في سبيل وطن حر وشعب سعيد.
ولد صاحب قصيدة أناديكم الشاعر الفلسطيني الشيوعي توفيق زيَّاد في مدينة الناصرة في الجليل الفلسطيني في السابع من أيار عام 1929 عانى شظف العيش ومرارة اليتم صغيراً، وتفتحت عيناه على أم كان يشم رائحة خبزها طازجاً، أمه التي عملت في الأرض لتساعد زوجها في مواجهة الفقر الذي يعيشونه، فكانت تخبز كل صباح لبيع الخبز، لذلك كان توفيق زيّاد مولعاً بأغنية سيد درويش “الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية”. تعلم في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة، وهناك بدأت تتبلور شخصيته السياسية وبرزت لديه موهبة الشعر، فكانت أشعاره تشد أزر المقاومين الفلسطينيين في الأرض المحتلة وتبعث روح الأمل في نفوسهم:
هنا
على صدوركم، باقون كالجدار
نجوع
نعرى
نتحدى
ننشد الأشعار
ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات
ونملأ السجون كبرياء
ذهب توفيق زيّاد إلى موسكو ليدرس الأدب السوفييتي. ثمَّ عاد إلى مدينة الناصرة ليشارك طيلة السنوات التي عاشها في حياة الفلسطينيين السياسية، وناضل من أجل حقوق شعبه:
يا شعبي يا عود النَّد
يا أغلى من روحي عندي
إنّا باقون على العهد
شغل منصب رئيس بلدية الناصرة ثلاث فترات انتخابية (1975 - 1994)، وكان عضو كنيست في ست دورات عن الحزب الشيوعي ومن ثم عن القائمة الجديدة للحزب الشيوعي وفي ما بعد عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة.
إنّا هنا على صدوركم
باقون كالجدار
فلتشربوا البحرا
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار، كالخمير في العجين
برودة الجليد في أعصابنا
وفي قلوبنا جهنم حمرا
إذا عطشنا نعصر الصخرا
ونأكل التراب إن جعنا
ولا نرحل
تزوج من رفيقة دربه نائلة يوسف صباغ، وهي من عائلة شيوعية عريقة، كان زواجهما حدثاً صارخاً في حياة مدينة الناصرة، الزوجة من عائلة مسيحية، أما هو فمن عائلة مسلمة. رحل توفيق زيَّاد نتيجة حادث طرق مروع وقع في الخامس من تموز من عام 1994 وهو في طريق عودته من استقبال ياسر عرفات الذي عاد إلى أريحا بعد اتفاق أوسلو.
أناديكم
أشدُّ على أياديكم
أبوس الأرض تحت نعالكم
وأقول: أفديكم
وأهديكم ضيا عيني
ودفء القلب أعطيكم
فمأساتي التي أحيا
نصيبي من مآسيكم.
أناديكم
أشدُّ على أياديكم
أنا ما هنت في وطني ولا صغَّرت أكتافي
وقفت بوجه ظلامي
يتيماً، عارياً، حافي
حملت دمي على كفي
وما نكَّست أعلامي
وصنت العشب فوق قبور أسلافي
أناديكم
أشدُّ على أياديكم ..