يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها بتشريعات،لا تواكب المتغيرات المجتمعية، فهذا التواصل الدستوري  تدميراً إلى فئات فاعلة  من مواطنين هذا البلد أو ذاك، لذا سيكون النضال ضد تلك الثوابت ضروريا جدا، من خلال المظاهرات ومنظمات المجتمع المدني والصحافة والمسرح والسينما والتشكيل والأدب. وهذا تجسد في فيلم (أريد حلا) بطولة فاتن حمامة  .. جون شتاينبك الروائي الأمريكي انتصر للعمال الزراعيين / عمال المواسم في رائعته الخالدة(عناقيد الغضب).. كما انتصرت الروائية سعداء الداعاس للبشرة السوداء في روايتها(لأني أسود) وفي (رغوة سوداء): بدد الروائي حجي جابر أوهام يهود الفلاشا  وهم يهاجرون إلى إسرائيل. المواطنون البدون في الكويت  تناولت وضعهم القاسي  بثينة العيسى في روايتها( إرتطام لم يسمع له دوي) وإسماعيل فهد إسماعيل في روايته( في حضرة العنقاء والخل الوفي) والأقليات المضطهدة في العراق، تألق عبد الكريم العبيدي في روايته (معلقة بلوشي) وضمن هذا الحقل السردي،صدرت (سيدي قنصل بابل) لاسم جديد في الرواية العراقية : نبيل نوري لكزار موحان .

(*)

 تلتقط قراءتي المنتجة هذه المحاورة القصيرة بين القاضي والأم :

              (- أبوه ليس مغربي كما أرى.. أين والده الآن؟

                  - أنه في العراق سيدي القاضي

                  - هل يرسل لك نفقة أبنه؟

              - لا سيدي ليس لنا أي أتصال معه، وهو لا يبالي بمصير ابنه/24  )

نلاحظ أن عدالة القاضي المغربي آيلة.. لم ينتصر للزوجة المغربية التي أذيت من جيرانها المغاربة !! ربما لأن زوجها ليس مغربيا. لم يفكر قانونيا  بمساعدة الزوجة المظلومة.. من المؤكد أن القاضي مستقيم كالروتين .

(*)

هي رواية عراقية مؤلفها من البصرة ويعيش في المغرب: تتناول موضوعة جديدة في الرواية العراقية فالشخصية المحورية (ابن لوطنين وليس لديه أية جنسية../6 ) وهذه الأثنية هي الخلية الموقوتة في الرواية

(*)

الابن أقتحم حياته الميدانية في خطوة للأمام مستعملا كل وسائل الاعلام للحصول على أستحقاقه العراقي من بلاده، لم ينتظر أبا يستيقظ ضميره، وهو لم يسأل أمه سوى مرة واحدة عنه..

(*)

أم ٌ بطولتها بالحفاظ على وجهها بالكدح الدؤوب(كانت أمي تتركني عند الأقارب لتتمكن من الذهاب للعمل كخادمة في البيوت../8 ).. السارد يسترجع زمنا متغبشا

(لم أكن في سني أميز مكانة المحيطين بي ونوع الصلة التي تربطني بهم. لكني كنت أعرف من تلك السيدة التي تتقدم نحوي،انها أمي..أخذتني من بين يدي البنت للتوجه بي إلى مكان ما،لا أعرفه لكني حتما سأشعر بالأمان فيه مادامت هي معي.أنها أقدم ذكرى لي..) يتسايل غبش التذكر لدى السارد وهو يستعيد لحظات ٍ بئيسة (لا أتذكر الكثير عن ذلك المكان../ 9 ) وهناك ضبابية تلقٍ لديه أثناء زيارتهما: هو وأمه لأحدى صديقاتها..(الإصغاء لحوارهما الذي لا أفهم منه شيئا. سوى أنه لفتت انتباهي كلمة شتم تفوهت بها أمي وهي منفعلة في التحدث عن أحدهم../ 14). الأم في ( سيدي قنصل بابل ) تعيديني إلى ثلاثية الروائي السوري الكبير حنّا مينه : (بقايا صور)(المستنقع) (القطاف)

(*)

في طفولة السارد  يهيمن المتخيل آنذاك فهو يتذكر كوةً مربعةً لتهوية غرفة (كلما أطللت من فوقها لم أشاهد سوى الظلمة التي كانت قائمة بما يكفي لأنسج آنذاك في مخيلتي الصغيرة أصنافاً من الأساطير حولها.مثل وجود عفاريت أو أنها هوة بدون قعر، ففي تلك المرحلة من طفولتي كان يكفي أن أتخيل شيئا حتى اتعامل معه على أنه موجود فبالنسبة لي طالما استطعت تخيله،إذن لا شيء يمنعه أن يكون../9 )..

(*)

 طفولته البئيسة  جعلته لا يرى أمه إلاّ يوما في الأسبوع وهو يوم عطلتها  وفي سائر الأيام ينجذب الطفل إلى شفاهيات رجل يطلق عليه بابا حمد (كنتُ أفضل رفقة بابا حمد، لكثرة القصص التي يحكيها لي فكلما استيقظت صباحا ذهبت للبحث عنه في غرفته الموجودة في آخر زاوية للمنزل../ 10 ) .. من مؤثرية تلك الشفاهيات ربما ينطلق المؤلف لتسريد مكابداته  سيرة ً روائية ً

(*)

هذه فهرسة قراءتي الثانية للرواية :

السيرة تقاس بتنقلات السارد المكانية

*بيت الخال

*بيوت الجارات والأقرباء

*الشخصية المحورية : الأم

*الأم محجوبة : مسؤولة عن حضانة مجموعة أطفال في بيتها مقابل أجور

*النقلة الكبرى ذهاب الابن إلى الضيعة مع العائلة التي تخدم فيها امه

* متغيرات النقلة على وعي الطفل/16-17

*خصوصية جميلة/18

* الكتّاب /19

*ألم الوحدة في المكان/ 20

*صعوبة تجربة/ 22

* استعادة الأب شفاهياَ لأول مرة /24 / معرة الأب/ 41 وهنا سارد ثان يومض/41/ نذالة الأب / 43/ سطوة الجدة/ 43

* الأعتداء الأول على الام/25

*مكان آخر للولد /25

* نقلة سريعة /27

*تأجيل سرد البوح/28

*سعادة المحروم/ 29/39

* الأكتشاف السعيد 30

*تحول جديد/ 31

*سرد كوني/31

* تعويض الغياب /32

*نقلة /32

*جنس أوّل /33

*ماما حليمة/34 /53

*خباثة السارد/37/ 38

* كنز الولد/42

*قنصل السنغال/44

* شهادة الميلاد تطرده من المدرسة/47

*48/ مفتش التربية الطيب

*ولدٌ ماكر/ 50

* وحيد/ 51

* جريء /51

* بنت عكس الولد /52

* أم فطنة /52

*انتصار عظيم/54

* تلفزيون/ 55

*نورس الحقيبة / 56

* ماكر ثانية /57

* أفكرّ في الله/ 74

*الزوجة اللئيمة /90

*السفارة العراقية/ 92 – 93

*اضطهاد عمل الأم /94

* اضطهاد عمل الابن /95- 96

(*)

في البيوت تختلف طمأنينة الطفل: بيت الخال بمثابة هبوط عاجل بالنسبة للأم ، الطفلُ آنذاك ذاكرته أكثر طفولة ً منه : طفل بذاكرة ٍ بكر لم تطمثها الأحاسيس، وبشهادة السارد/ المؤلف وهو يستعيد ذلك الطفل الذي كانه ُ(لم أكن أميز مكانة المحيطين بي ونوع الصلة التي تربطني بهم، لكني كنت أعرف من هي تلك السيدة التي تتقدم نحوي،أنها أمي،أخذتني من بين يدي البنت، لتتوجه بي إلى مكان ما../8 ) الأمان الذي خرّبهُ الأب / (المؤنث) بمؤثرية قسوة أمه

التي هي جدة الطفل الذي ارغمت الأب العراقي البصري على تطليق زوجته المغربية بلا سببٍ.. هنا يحصل القارىء على سرد مؤجل لا يبثه الولد المهيمن على سرد النص. بل تبثه الأم، ليس للقارىء كما يفعل السارد المطلق الابن

أعني أن سرد الأم مبثوث لولدها وسيكون القارىء : الشخص الثالث بينهما

والقوة الدافعة لسرد الأم، تأتي من خارجها من قساوة المجتمع الذي يلقن الطفولة قسوة ً آسنة ً (عادة بعض أطفال الحي الذين أتشاجر معهم يقولون لي : أذهب للبحث عن والدك/ 41 ) ومن كلام الأم لولدها المتوجع  سنعرف الأب من خلال كلامها عنه : (أما أمي فعندما أحكي لها عن الموضوع تجيبني أن أبي عراقي وتريني شهادة ولادتي من مصلحة الأجانب وكل الوثائق التي بحوزتها، موضحة لي أنه ينقصني التسجيل بالقنصلية العراقية فقط) نلاحظ أن الولد يصادر صوت الأم وينقل كلامها للقارىء على لسانه هو!! ثانيا : توقفت كقارىء وقفة ً عميقة عند هاتين الكلمتين: المضاف والمضاف إليه(مصلحة الأجانب)!!  وليس مصلحة العرب . ثم يستدرك/ يصغي الابن للأم وهي تسرد وجيز روزنامة الأب المأزوم الضمير. سرد الأم يشكل حيزا ً ضمن الفضاء النصي الذي هو بسعة مئة صفحة من الحجم المتوسط. مساحة الحيز من ص38 إلى منتصف ص40، والد نبيل صار ثريا بالمصادفة حين كان يتاجر بالملابس البالات/ المستعملة(وجد مبلغا محترما من المال في جيوب أحد السراويل القادمة من فرنسا/ 39 ) وكان يحب السفر  والتقى بالمرأة اللامسماة في الرواية والتي ستكون أم نبيل . ونلاحظ أن الرواية مهداة لها بصفتها أما مع تغييب اسمها (إلى أمي التي لن تقرأ هذه الكلمات../ 15 ) وستذهب هذه الزوجة المغربية للعيش مع زوجها العراقي البصري في البصرة وتتجرع المر ثلاث سنوات في جحيم من صناعة والدة زوجها وسيزداد الجحيم جحيما حين يريدها زوجها ا أن تكون مربية لأولاده من زواجين فاشلين، ويطالبها بالأجهاض حين تخبره أنها حامل !!

(*)

ستلد ولدها في المغرب سيكون كل مكان بشفاعة أمه يبث طمأنينة ً.( حتما سأشعر بالأمان فيه مادامت هي معي) كأن الأمكنة ستترحم – الرحِم – وتحنو عليه .. ولهذا الحنو مؤثرية مضادة على الأم، فالطفل بِلا أخ أو أخت أكبر منه والأم عليها أن تعمل لتعيش وتعيّش ولدها الأوحد من خلال خدمتها في البيوت، لكن البيوت تحتاجها خادمة وترفض ابن الخادمة، فهو سيقتطع من وقت عملها في البيوت وهنا استجدت (صعوبة قيامها بواجباتها المهنية والاعتناء به في نفس الوقت) وهكذا كان ولدها يتسبب بقطع رزقها من البيوت. الحل الوحيد ليس ترفا، لكن لا بد منه،  وهذا الحل هو ظاهرة اجتماعية تكابدها خادمات البيوت اللواتي ترغمهن ظروفهن أن يودعهن أطفالهن، لدى مربية أطفال.

(*)

هنا سينتقل الطفل من الأم حسنة إلى الأم محجوبة :تترك الخادمات أولادهن لديها، مقابل أجور، ويستعيدهن يوما واحدا فقط (يوم الأحد  /11) وبسبب تنقلاتها من مخدومين إلى مخدومين سيحرم الطفل من حرية يوم الأحد، وعليه المبيت وحده في البيت/ ص22والسؤال المقلق كيف يبات طفل ٌ وحده في غرفة مغلقة عليه والمفتاح سيكون في حوزة الأم؟ كيف ستمر الساعات على طفل ٍ ليس معه سوى خوفه من الليل ومصباح  يبقيه يقظا، وبشهادة الطفل(وهو مشتعل كنت أخاف من إقفال جفني / 22 )

(*)

الأم تشقى لتسعد ولدها وتحصّن كرامته، الأب تخلى عن ضميره وفرّ فرار العبيد

الأم وابنها يتنقلان من حيز إلى حيز في المغرب والأب مستقرٌ في طمأنيته العائلية تحت أفياء سطوة أمه  في البصرة.. للولد أحتباسات أسئلته اللاجواب لها (ونحن في الطريق أمطر أمي بأسئلة كثيرة عن كل ما يلفت انتباهي لكن معظم أجوبتها كانت تقتصر على عبارة،، عندما تكبر ستفهم،، / 13 )

(*)

تلاحظ قراءتي أن سيرورة الرواية تتباطىء  وهذا الحال يجعل الخيط المسموت بين القارىء والمؤلف يتراخى أحياناً.. الفضاء النصي مشحونٌ بمكابدات شتى للأم وولدها، لكن ذلك لا يشفع للمؤلف بل يطالب بتسخين الوحدات السردية ليكتوي تلقي القارىء وهكذا ينسمت الخيط بينهما : المؤلف ------ القارىء

(*)

التقط وحدة سردية مشعرنة بشحنة الحرمان  جماليات الإبداع: يقتنص المؤلف لحظة مرور الطائرات : يتحوّل الأب المتملص من مسؤوليته حاضرا وشاهقا ً في طيارة ٍ يقودها، من خلال بياض الكذب في ذواكر فتيان  يعانون من عوز أبوي (أما أوقاتنا في الحديقة فتجري كالعادة بين الركض هنا والتأرجح هناك. ما عدا لحظة مرور إحدى الطائرات العملاقة فوق رؤوسنا. مخترقة عالمنا السحري، نرفع رؤوسنا نحوها، كل واحد منا يشير لها بيده ويصرخ،،إنها طائرة أبي،، إنها طائرة عمي،، فأدعاءاتنا كانت تتشابه لأنها تأخذ من قاسمنا المشترك في غياب الأب مصدراً لها. من يدري ربما لم نكذب، ربما كنا نأمل فقط بصوت مرتفع../ 32  ) .. سردية المؤلف نبيل تمارس حفرياتها في حيز ٍ صلدٍ وهذا قدرها المصنّع لها من خارج النص، لكن هذا التصنيع الخارجي هو وحده من يتدفق بكل ثقله في هذا الحيز، وفي النهاية ينتقل النص من الحيز إلى الفضاء الرحب، وهنا : تنبجس أشكالية أثنية المؤلف/ القارىء..(في نقطة تكون المنطلق لرحلة تنعتق فيها أشواقهما معاً، وتلتقي خطواتهما، أو يظلان عابرين في طريق يحجب غباره أحدهما عن الآخر/ الد كتورة  نجاح العطار/ قراءة  ... بطريقة ما/ مقدمة رواية  الشمس في يوم غائم/ للروائي حنّا مينه  )

(*)

وظيفتان للأم في(سيدي قنصل بابل).

*الوظيفة الطبيعية

*الوظيفة التعويضية : فهي ام واب للولد الوحيد البئيس.. هي تحريره الاقتصادي من المذلة وحاميته من التلوث الأخلاقي.

(*)

سينتصر الولد المشطور بين وطنين : العراق / المغرب ويحصل بعد سقوط الطاغية على الهوية العراقية من القنصلية العراقية في المغرب، ولولا أمه ونضالها الدؤوب  لما استعاد عراقيته الرسمية الموّثقة

(*)

إمرأتان في الرواية، الأولى مختزلة بنصف سطر(فقد كانت جدتك تخلق جحيما) وهو اختزال لثلاث سنوات من الجحيم في العيش معها،هذه المرأة هي أس المشكل، سطوتها جارحة وهي المتسببة بكل هذا الظلم الذي دمرّ حياة شخصين

ونلاحظ أن الأب مزدوج الغياب : غائب في حضرة أمه بلا حول ولا قوة

وغائب عن ولده.. وهذا الغياب هو أقصى مديات التردي السلوكي

المرأة الثانية هي المرأة المغربية : الزوجة المظلومة والأم البئيسة التي لم يذبل أصرارها :  دفاعا عن عراقية ولدها الوحيد..

*نبيل نوري لكزار موحان / سيدي قنصل بابل / دار ابن النفيس/ عمان / ط1/ أيلول / 2020

* ط2/ دار ومكتبة :الكتاب حياة / العراق – البصرة – شارع البصرة الثقافي

عرض مقالات: