كان يستذكر أبيات المتنبي وهو يخاطب سيف الدولة الحمداني. (وَقَفْتَ وَما في المَوْتِ شكٌّ لوَاقِفٍ ** كأنّكَ في جَفنِ الرّدَى وهْوَ نائِمُ). يومها كان ابراهيم يحدثني.. كيف نجا بأعجوبة من حكم بالإعدام. وكانت حرب إيران ما تزال مستعرة. فالحقوه بالخدمة العسكرية. ونقل بسرعة إلى جبهات القتال الأمامية. لكن وبعد أن وجد نفسه خلف الساتر الأول ولم يزود ببندقية. أدرك أن السلطة آنذاك كانت تراهن على موته.. حين حرمته حمل السلاح الذي يدافع به عن حياته. لذا كان المتنبي رفيقه في تلك الايام الصعبة.. وربما مونتغمري أيضا.. فقد حدثني عن هذا القائد الذي كان يعتلي السواتر.. بينما الرصاص ينهمر من جانب العدو.

الظلم الذي تعرض له ابراهيم في الجبهة كان كبيرا. لكن نفسه الأبية وروحه الوثابة الصامدة بوجه الظلم.. آزرته وحمته.. لذا لم ينل هذا الأمر من عزيمة وشجاعة ابراهيم.

بل استطاع أن ينشئ أفضل العلاقات مع إخوته الجنود. كان يتحدث مع الصغير والكبير سواء بسواء.. مع الجاهل ومع المتعلم.. دون أن يضع مسافة تناسب مستوى ثقافته وعلمه. لذا أحبه الجميع.

وفي أوقات الهدوء.. أي توقف المدفعية عن القصف.. أو توقف الهجوم من الجهة المقابلة.. في تلك الأوقات كان ابراهيم يجلس في الشق أو الخندق مع زملائه ويتحدث معهم. كانت أحاديث عن الحب والجمال وعن الناس وعن الحياة التي تركوها خلفهم.. وكان يلقى آذانا صاغية من الجنود الذين لم يألفوا الحديث مع مثقف مثله. مثقف يستطيع أن يمنحك الثقافة والعلم بلغة سهلة بسيطة.. ودون تكلّف أو مبالغة.

من الطرائف التي حدثني عنها ابراهيم.. قال : كانت الأرزاق حين تصلنا يكون فيها لحم عجل أو لحم دجاج.. وقد كنت أمنح لحم الدجاج لزملائي وآخذ منهم جلد الدجاج الذي أحبه كثيرا. وقد كانوا يمنحونني إياه عن طيب خاطر لأنهم لا يحبونه. لكن أذكر يوما حين منحت حصتي من الدجاج لزملائي امتنعوا عن منحي جلد الدجاج.. وكانوا يلتهمونه بشراهة. فعجبت للأمر.. لكن لم اعترض. بعدها بأيام سألت أحدهم عن السر. فقال : لأنهم يعلمون جيدا انك مثقف وتفهم في كل شيء. إذن لا بد وأن يكون لجلد الدجاج فائدة غذائية كبيرة.. لذا هم لن يمنحونك إياه مجددا.

يومها قال لي ابراهيم وهو يبتسم تلك الابتسامة الحيية (وكان هذا في بداية التسعينيات).. أنا لم اغضب منهم يومها. بل على العكس من ذلك.. كنت سعيدا للتقييم الذي انعكس من خلال هذا الفعل.. ثم أضاف.. لكنهم لم يكونوا يعلموا أن للحم الدجاج فوائد كبيرة. بينما الجلد لم يكن مفيدا إلا بنسبة قليلة.

عرض مقالات: