نشرت (الاتحاد) الحيفاوية (28 آب 2020) مقابلة أجراها حسن مصاروة مع أيمن عودة، رئيس القائمة العربية المشتركة وعضو الكنيست، تناول فيها موضوعات أزمة الحكومة والقائمة المشتركة والتطبيع ورأس المال لماركس. نقتطف منها الحديث الخاص بقراءة (رأس المال):
الاتحاد: خلال الموجة الاولى لجائحة كورونا والتعليمات الصارمة للبقاء في البيت، نصحت، خلال رسالة مصورة على الفيسبوك، الجمهور العربي باستغلال الوقت للقراءة، وقمت باعطاء توصيات لقراءة كتب مختلفة في مكتبتك؟ هل وجدت وقتا للقراءة خلال الأشهر الأخيرة، وما هو آخر حصادك على مستوى القراءات الأدبية أو القراءات الفكرية النظرية؟
عودة: نعم، عدة كتب في مجال واحد وهو الماركسية، خاصة كتاب (رأس المال). ولهذا الأمر قصّة.
دائما تهيّبت من قراءة (رأس المال) لكارل ماركس. وأعتقد أن أحد الأسباب العميقة لذلك هي أنني قرأت لإميل حبيبي أنه لم يقرأ رأس المال! وأذكر أنه قال أيضا أنه لم يقرأ (الحرب والسلم) لتولستوي ولم يقرأ أكثر من ١٥ سطرا لجبرا ابراهيم جبرا، لأنه اعتبرها كتابات جافة، وهو لا يحب هذا الصنف من الكتابة! أذكر أنني قرأت هذا الكلام في مقابلة لحبيبي في فصلية (مشارف)، أعتقد أنها المقابلة الأخيرة له تحت عنوان “أنا مانعة الصواعق الفلسطيني”. أكتب هذا رغم أن حبيبي قال في لقاء لمجلة (الكرمل) بداية الثمانيات أن ماركس أثّر عليه أدبيا، وأعتقد أنه هنا صادق، خاصة في ما يتعلق بكتابات ماركس الباريسية حيث الحدّة والهزء واستحضار أدبيات عالمية وشعر مكثف.
لأنني شغوف بإميل حبيبي قلت لنفسي: إذا كان المفكر الألمعي والأديب الأريب إميل حبيبي لم يقرأ (رأس المال) فأنا لن أستطيع. الاعتراف الصادق والجميل لإميل حبيبي سبّب لدي عقدة. ساهم بهذه العقدة أنني قرأت مذكرات لمن قرأ (رأس المال). ففي كتاب (جذور من الشجرة دائمة الخضرة) يقول رفيقنا عيسى حبيب أنه قرأت الكتاب تدريجيا ضمن دورة مع مجموعة رفاق، ويقول جورج طوبي إنه كان يسترق السمع للدراسة في بيتهم بقيادة توفيق طوبي ولم يفهم إلا لماما، ومع ذلك فدائما كنت أشعر بالنقص لعدم قراءة هذا الكتاب المؤسّس، حتى أنه مع قراءاتي كنت أشعر كمن يبني بنيانا ولكن هناك فجوة ضخمة بالأساسات، كمن يقرأ الداروينية دون قراءة “أصل الأنواع” رغم تفنيد أجزاء واسعة منه، أو قراءة علم النفس لميلاني كلاين أو دونالد وينيكوت دون قراءة فرويد رغم أن العلم تجاوزه ونقضه بالكثير من الأطروحات، وهذا بخلاف ماركس الذي بقي جوهر طرحه صحيحا بامتياز، والبورجوازية تتذكر دماميله دائما كما تمنّى برسائله لرفيقه أنجلز.
حُلّت عقدتي قبل نحو سنة حين أعدت قراءة الرسائل بين شاعرينا الكبيرين محمود درويش وسميح القاسم. ففي رسالة كتبها محمود لسميح تحت عنوان “لا توبّخ حنيني” جاء فيها: وفي موسكو، حيث كان إميل توما يراجع أطروحته عن الوحدة العربية ويبحث عن أفق، وحيث كنت أدرس “رأس المال” صفحة صفحة بافتتان.
الآن أُعيد عليك حرفيا عن ظهر قلب هذه الفقرة وذلك من فرط مراجعتي لها، خاصة الجملة الأخيرة: كنت أدرس “رأس المال” صفحة صفحة بافتتان”.
جملة محمود درويش شجعتني بشكل حاسم بعد أن كبلني المعلّم الكبير إميل حبيبي ببوحه الذي لا يصدر إلا من كبير واثق مثله.
عندما أُقرّت الانتخابات الأخيرة سافرت سريعا إلى عمان كي التقي د. هشام غصيب وهو أكثر عربي ماركسي أقنعني أنني أستطيع الاعتماد عليه بدراسة (رأس المال). فاتفقنا أنه بعد الانتخابات أمكث أسبوعا كاملا في عمان لدراسة المجلّد الأول من (رأس المال) على أن ألتقيه يوميا للمناقشة. رحّب كثيرا، ولكن بعد الانتخابات جاءت الكورونا فلم أستطع السفر إلى عمّان غير أنني تلقيت نصائح هامة من د. غصيب عبر الهاتف، وقد أفادتني الكورونا كونها تشكل محطة هامة على مستوى أزمات الرأسمالية المتكررة فهي كانت دافعا للقراءة.
أتممت قراءة (رأس المال) بمجلداته الثلاثة، وقد قرأت معي بالتوازي كلّ المجلّد الأول رفيقتنا رهام أبو العسل رئيسة كتلة الجبهة في نعمات منطقة الناصرة، وكنا نتواصل هاتفيا حوله لمناقشة بعض المسائل.
عودة على كلام إميل حبيبي ومحمود درويش، والإثنان رمزا ثقافتنا الأولان، فهل هناك من لم يكن صادقا أو دقيقا بحديثه؟ واضح أن اعتراف حبيبي هو صدق الإنسان الكبير. ولكن بعد قراءتي لـ (رأس المال) أؤكد صدق درويش أيضا بالبعد الأدبي، فطيلة قراءتي كنت أضع ملاحظات على الهامش بأنها لفتات أدبية مثل اقتباس الالياذة والأوذيسة أو الكوميديا الالهية أو شكسبير أو فولتير أو التوراة والعهد القديم وحتى لعبة الورق “الويست!”، حتى نصوص ماركس الذاتية حول تغريب الآلة المحنطة التي تأكل الإنسان الحي أو شيئية وصنمية الآلة كلها تعبيرات شاعرية صارخة إلى جانب علميتها.
وقرأت مصطلحات مثل “ليس من أجل سواد عينيه” فقلت هل الأوروبيون ذوو العيون الملوّنة بالقرن التاسع عشر استعملوا هذا المصطلح أم هي ترجمة د. فالح عبد الجبار الذي يستحق التقدير الكبير على الترجمة الأفضل للكتاب. إلى جانب كل هذا يبقى أساس (رأس المال) هو الفهم المعمّق والجدلي للرأسمالية ونقدها، والنقد نهج ماركس، والعمل على الانتصار عليها، حيث لا يمكن تحقيق العدالة من خلالها وإنما إما بتجاوزها أو نقضها. أي تبقى مقولته في نص سابق “الأطروحات عن فيورباخ” هي الفارقة في منهجية رأس المال: “لم يفعل الفلاسفة شيئا سوى تفسير العالم بطرائق شتى، لكن الأهم هو تغييره”.
بعد قراءة المجلدات الثلاث قرأت “قراءة رأس المال” للوي ألتوسر، وقبل شهرين استلفت من رفيقنا د. جمال شريف سيرة رأس المال لفرنسيس وين وقرأته، وقررت عدم إعادته له لأنني وضعت ملاحظات داخل الصفحات، وبهذا يصبح للكتاب معنى، ولأن الرفيق جمال صديقي الذي أمون عليه.
والآن أنا بصدد الانتهاء من قراءة “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” لتوماس بيكيتي.
الحقيقة أن الكورونا وعدم وجود مناسبات اجتماعية مثل الأعراس أو الاجتماعات السياسية والحزبية في ساعات المساء أتاحت لي قراءات، ولست متأكدا أن هذه الفرصة ممكن أن تعود أثناء العمل السياسي.
وهنا أهيب برفاقنا ورفيقاتنا خاصة الشباب أن إقرأوا كثيرا وناضلوا كثيرا لأنها حيوات ذات المعاني تضاف إلى الحياة التقليدية.