تقدم الروائية التركية اليف شفاق روايتها (حليب اسود) مذيلة عنوانها على جانب الكتاب بالمذكرات وهي تتحدث عن فترة معينة من حياتها تتمثل بما قبل خوض تجربة الارتباط وتداعياتها ثم الارتباط وقرار الانجاب ومن ثم تداعيات الاكتئاب المصاحب للأم ما بعد أن تنجب مولودها، ومن هنا نلاحظ انها رواية نسوية بامتياز بل ربما قارئا ما يتساءل لماذا يقرأوها الرجال؟  لو إنه من غير المهتمين بأمور المرأة، الا إن الكاتبة تحايلت على هذه الفكرة وجعلت من روايتها مقروءة من كلا الجنسين ومن جميع الفئات، ذلك انها جعلتها مذكرات شخصية يتداخل في نسيجها الروائي تجارب لأدباء وأديبات من حقب زمنية متفاوتة، تتطرق الى حيواتهم وقصص انجابهم،  ودور الارتباط في نتاجهم الأدبي والثقافي ومدى تأثرهم بوجودهم العائلي، ربما ارادت شفاق أن لا تحصر مخيلتها على الرغبة في التعبير عن الذات بمعزل عن ذوات الذين يشاركونها التجربة نفسها رغبة في فتح نوافذ تبتعد عن المركزية والتمحور حول الأنا والتخلص من فخاخ السقوط غير المتعمد في دائرة اللاوعي الذي يؤدي الى جفاف الفكر الابداعي في الرواية،  وهذا البناء الفني والأسلوبي الذي اتبعته شفاق في روايتها جعلها ترسخ الحدود الفاصلة ما بين المتخيل والحقيقي خاصة انها ادعت أن لها ذواتا عدة تشاطرها شخصيتها وتتحكم بقيادة افعالها واطلقت عليها تسميات منها (الآنسة العملية القصيرة، الآنسة المثقفة الساخرة، الآنسة التيشخوفية الطموحة، الآنسة الدرويشة، ماما الرز بالحليب، الآنسة بلو بيلي بوفاري) وكل تسمية من هذه التسميات لها صفتها واشتغالاتها وتأثيرها على الساردة بل إن هناك صراعا تخوضه معهن أشبه بالحكم الفاشي تارة والدكتاتوري تارة والديمقراطي تارة اخرى وجميع هذه الأحكام مكرسة لمناقشة موضوع طموح المرأة ورغبتها في اثبات وجودها الثقافي والأدبي،  ورغبتها بتحقيق ذاتها بالأنصياع لفكرة الحب والأرتباط بالرجل والإنجاب وما يتخلل هذا الصراع المصيري من مخاوف وتناقضات ومغريات .

أرشفة حيوات تتخلل رواية شفاق 

إن منطق المعرفة يفيدنا بأن تجربة الكتابة الأبداعية هي جزء أساسي وحميمي من الحياة بأبعادها الفردية والاجتماعية والانسانية وقد تداول الأدب العربي والعالمي سيير ومذكرات كتّاب كانت عنايتهم منصبة نحو التدوين الشخصي مع ذكر للأحداث والظروف المؤثرة في الحقبة التي يتحدثون عنها ومنهم ( طه حسين في كتابه الايام واحمد امين في كتابه حياتي والمازني في كتابه قصة حياة والطيب صالح وغيرهم) على الرغم من إن تلك الكتب كانت كتب سيرة ذاتية وليست مذكرات؛ الا اننا ذكرناها بهدف اثبات فكرة الفردانية في الكتابة الشخصية إذ ان الحدث في هذه الروايات اعتمد على شخصية الراوي وما يتمحور حولها مع امكانية لأن يتطور الحدث ويتقدم للأمام، أو يرجع للخلف في حالة استخدام تقنية فلاش باك، وهذا ما لم تتبعه شفاق في روايتها بل انها جعلت من عوالم وحيوات آخرين مادة اساسية في اشتغالها الروائي، الامر الذي جعلها  تدون معرفتها وقراءاتها المتعددة لادباء من كلا الجنسين منهم من النساء الكاتبات ( بيريل باك، سيلفيا بلاث، اداليت اغا اوغلو، جاين اوستن،  فيرجينيا وولف، زيلدا، مورييل سبارك، والاخوات الكاتبات كوريل بيل، اكتون بيل، ايليس بيل، سيفجي سويسال، توشيكو تامورا (يابانية)، لولا كارسون سميث، اناييس نن، ميري آن ايفانس، سيمون دي بوفوار، لويسا ماي آلكوت، آيان راند، الكساندرا كولونتاي، ساندرا سيسنيروس، توني موريسون، آيريس مردوك، بيرل بوك، ليليان هلمن، جيرترود ستاين، ج . ك رولينيق) وتلك كانت اسماء اديبات ربما لم نسمع بأسماء اغلبهم،  الا إن الروائية تطرقت الى حيواتهم وبينت آرائهم وما مروا به من ظروف الكتابة والابداع هذا غير إن بعضهن انتهت حيواتهن بالانتحار رغبة بعدم مواصلة الكتابة وهن محملات بأعباء الأمومة مع المعاناة من قضية الاختلاط بالمجتمع  ومنهن الروائية والشاعرة  التركية سيلفيا بلاث، ارادت شفق من ذكر كل هذه الاسماء من الاناث عكس القاعدة التي تقول : “الكُتاب الرجال يجيؤون الى الاذهان ككتاب اولا، ثم كرجال اما الكاتبات، فإنهن إناث اولا، ومن ثم كاتبات “  وقد ذكرت هذا القول وهي تدون مذكراتها ممعنة النظر الى اللواتي آثرن انهاء حيواتهن على ان يقتلن ابداعهن بتأثير الاعباء المجتمعية والاسرية، الى جانب هذا اعتنت بإظهار دور زوجات الكتاب الكبار في حياة ازواجهم ومنهم تولستوي وزوجته صوفيا التي انجبت له الكثير من الاولاد والتي كانت تعيد طباعة مسودة كتابه ثلاث مرات، وذكرت ارنست همنغواي والفيلسوف الفرنسي ايمانويل ليفيناس، والروائي هيرمان ملفيل، والروائي سكوت فتزجيرالد وزوجته زيلدا وغيرهم،  فالمذكرات معبأة بكل من كان له هما ادبيا تقف عنده ايليف شفاق ناظرة متفحصة تهويماته وانطباعاته ونظرته نحو نصفه الآخر في إنسانيته وفي أدبيته، وقد برعت الروائية في توظيف تقنيات متعددة بخروجها من النمط التقليدي الى آليات سردية ارحب استطاعت من خلالها ان تقول لنا الكثير نيابة عن الآخرين وكأنها ترد اليهم الحياة كي يحكوا  لنا عن تجربتهم .

عرض مقالات: