2-2

عنف السلطة يتفنن إجرائيا في تغطية جرائمه بزعيق الإعلام..(للتلاعب المقصود تحقيقا لمصالح الطبقة الرأسمالي./ 82 نورمان فيركلف) وتهوية الهواء بالمخدرات والزنى والفساد الإدراي وتعنيف اللغة: حين يرجم ضابط التحقيق السجين بأوسخ الشتائم أو حين تختطف جهة ٌ ما صبيا...

 لكن السلطة لا تنتصر على المتبقي اللغوي الذي يتملص من جهامة النحو وتخشّب علم الألسنية وصلادة تعاليم دوسوسير. وهكذا يحافظ المتبقي اللغوي* على ينابيعه وأجراسها ويهبها إلى لصوص النار ومشعلي حرائق اللغة : منهم شعراء ..صوفيين. تشكيليين. مسرحيين . حكائين...إلخ . إذن : عنف السلطة لا يستطيع إخصاء حق العنف المقابل الذي يريد تخليص الوطن من أخطبوط السلطة، دفاعاً عن المأهول والمطمئن في هدوء المكان والزمان ويكون ذلك  بترسيم دائرة ٍ تحصنُ المكان والمكين من أظلاف السلطة وخفافيشها الكاتمة.

(*)

السلطة بعنفها تحاول تطويل عمرها ولا يمكن ذلك دون تفتيت بنية المجتمع  بإمحاء الأمان وانتزاع راحة البال وزعزعة الأقتصاد المنزلي للأسرة من أجل أن تكسحنا سيولة ٌ سالبة ٌ لا شكل لها .السلطة تخشى المواطن وتحديدا تخشى من إنسانية المواطن الواعي لشروط رغبته في تموضعه مركزا في النقطة. لذا تقوم السلطة بتلفيق هويةٍ مختومة ٍ بختم المقدس..!! فيروّج للهوية الزائفة، خونة الضمير:  أدعياء الثقافة والدين.  الأولوية  لدى السلطة : هي الكراهية التي تنسف بها الآخر مهما كانت نسبة الاختلاف ضئيلة .

(*)

منصة الحدث الروائي تنطلق من المهاد الذي عنوّنه المؤلف (مقدمة) فيها يختلط علم الهندسة بالجغرافيا ومنهما ينبجس عنف التاريخ، وقراءة المقدمة ليس ترفاً بل الغوص فيها من ضرورات تفهّم ما يجري في فضاء الرواية وما ينبجس منه مِن  تقتيل .. لذا نردد مع صديقنا الروائي دي لوكا (هذا المدى الشاسع من المساحة له علاقة بما يحدث لشخصيات الرواية ../6 ) : أي دي لوكا : روائيا هو نجم في مجرة الرواية الإيطالية ذات الإرث الثر : ألبرتو موارافيا، إيتالو كالفينو، أليساندرو باريكو  وعلى مستوى السرد فهو أيضا يكتب بالممحاة،(هناك الكثير في الحياة مما ينبغي حذفه../21 ) وكذلك في النصوص.. واقترض سطراُ من روايته وأصفه : أن الروائي : دي لوكا بحيازته خيال رجل يحلق ذقنه من دون مرآة / 76

(*)

كأنني قرأتُ (ثلاثة جياد) بأذنيّ في المرة الثانية. رأيتني أصغي لشريط كاسيت بصوت رجل يكلمنا عن نفسه وسواها.. هي رواية اعتراف وتعرّف : يعترف لنا السارد ويقف خلفه مؤلف الرواية ونتعرف من خلالهما على أمكنة وشخوص..شريط الكاسيت الروائي بِلا مجاملة،أحيانا يترهل مما يجعلني أوقفه متيحا لذاكرتي جولة مع سليم وهو يبيع الأزهار.. وأراني مصغيا لحوارات ليلى.. ماريا.. دفورا.. ثم رأيت فيما يرى النائم حجارة ً أسودت من دخان مواقد النار وكانت قدماي تتعقب (خطوات شبان تحولوا إلى أشجار وأسلاك شائكة/48)

في هذه الأثناء يعلمني بطل الرواية اللامسمّى القراءة السريعة لوجوه الناس والقراءة البطيئة للكتب ..وحين افتقده أناديه أين أنت ؟ دائما يصلني الجواب نفسه

(كنتُ أغربل الحشد،أفككه،لم يكن يعلق أي وجه في شبكة عينيّ.. /  44 )..

(*)

 (ثلاثة جياد) هي سيرة روائية مكثفّة للمؤلف أثناء وجوده الفعلي في (النضال يستمر) تلك الحركة اليسارية( التي أسسها أدريانو صوفري،، الذي يقبع اليوم في السجن لإتهامه بمسؤولية التفجيرات التي حدثت في آواخر السبعينات  أتهمت هذه الحركة بأختطاف رئيس الوزراء السابق ألدمورو وإعدامه، من يومها بدأت الحكومات الإيطالية المتعاقبة بمطاردة من تبقى من هؤلاء المناضلين../ 132/ أسكندر حبش/ )

(*)

السارد هو الثابت والمتحرك في الوقت نفسه، الثابت: جالسُ على كرسي في المطعم وفي الوقت نفسه يواجه عاصفة ً بحرية ً شرسة ً ويتماهى فيها ويكابد مع الواقفين في دكة السفينة وهو يقرأها في كتاب أثناء تناول غداءه في المطعم.. وسرعان ما يصحو من تأملاته أثناء القراءة في كتاب البحر، هومولعٌ بقراءة الكتب المستعملة لأن الكتب الجديدة لا تكف صفحاتها عن الحركة والسارد يتقن سرد البستنة في حديقة أحد القصور على قمة مرتفع . هل سرد البستنة تنوب عن سرد الكفاح المسلح الذي كان يقوم به هناك ضد الدكتاتورية في أميركا الجنوبية؟

هو يسرد نبتة المريمية والمريمية تسرد رائحة الجوز الأخضر والبحر يسرد رائحته في الأرجاء. يغادر البستاني / المناضل سابقا، يرتقي المرتفع ليجهّزحفرةً  لشجرة حور تأتيه غدا .. صاحب القصر والبستاني كانا يسردان شيوعية الحلم بين الناس، صاحب القصر يسرد أفلاماً وثائقية ً..يومها كانت الشيوعية توجز سردها الفاعل (في قيام الشباب الفقراء بأعمال نموذجية. ليس في القيام بعمل نموذجي وحسب بل في أن تنتمي إلى زمن أكثر رفقا بالشباب../14 ).. بالمقابل كان لعنف السلطة سرده في الجسد البشري المناضل  حيث ترمى الأجساد من الطائرة إلى عرض البحر وهي مربوطة القدمين واليدين إلى الخلف / ص53

(*)

السارد  ليس بمقدوره سوى فضح عنف السلطة أما الإحساس بألم تلك الاجساد فذلك تشعره وحدها(فالشخص المتألم،ألمه يوجد وهو يدركه حسياً دون جهد أما بالنسبة للشخص الواقف خارج الجسد المُصاب من اليسير أن يظل غير مدرك تماما لوجوده حتى لو بذل جهدا لأدراك ذلك الألم.../  415 / إلين سكاري )

(*)

نلاحظ أن السارد وهو الشخصية المحورية يتنقل سرديا بخفة فراشة من غصن إلى آخر في الفضاء الروائي يتذكر ويستقبل مجريات الراهن ويتمازجان السرد والتحاور في الرواية ويتموضعان في ذات التنضيد الطباعي للسرد. ثم هناك تضمين لحكاية بطلنا أو سواه منها حكاية الرجل الكردي الذي واجه تعذيبا أفقده أحدى عينيه /15  وحكاية أغتيال صديقته وهناك حكاية سليم الأفريقي..

وصاحبنا المحوري لا يتحاور مع الآخرين فقط ها هو يخبرنا : (أتوقف أحيانا في البستان وأسأل الشجرة: هل تريدينني أن أغرسك هنا؟ تكفي رجفة في راحة كفي التي تلتف حول جذع الشجرة. مع هذا أريد أن أتكلم مع الشجرة.إنها تجول بنظرها في المحيط من حولها وتحدق في الآفاق لتبحث عن مكان محدد تستقر فيه وتنمو../17 ) أتوقف عند هذه الوحدة السردية الآسرة (حين تأتي شجرة من مزرعة كي تضع بذورها في أرض مجهولة تبدو مرتبكة مثل عامل ريفي في يومه الأول في المصنع. لهذا أدور بها في البستان قبل مكان إقامتها../ 12) أراني في هذه الوحدة السردية أمام غاستون باشلار الروائي، فالسارد هنا هو العارف بالتحليل النفسي للأشجار: (أحياناً يصيب الحزن هذه الشتلات فترفض أن تعيش فأدور من حولها وأدندن لها أغان كي أرفع معنوياتها وأربطها كي تغدو قوية../ 12 )

 (*)

صاحبنا السارد: يمازج بين مضغ الطعام والمطالعة وله مذاقه الخاص بالكتب فهو يستقبلنا في الصفحة الأولى (أنا أقرأ الكتب المستعملة) ويكررها في ص16(أقرأ الكتب المستعملة) .. في المرة الأولى الخطاب يبثه لنا نحن القراء .أما في .. الثانية فالمبثوث إليه هو صديقه صاحب القصر. في المرة الأولى تكون الذريعة كالتالي :(أسندها إلى سلة الخبز وأقلب الصفحات بأحد الأصابع تبقى الصفحة ثابتة لا تتحرك فأمضي أقرأ وأنا أمضغ الطعام. الكتب الجديدة وقحة ولا تكف صفحاتها عن الحركة.إنها تقاوم الثبات ويتطلب الأمر التحكم بها بغية إخضاعها. أما الكتب المستعملة فإن عظامها هشة فتطوي الصفحات بسهولة من دون أن تحاول النهوض ثانية../ 12) ما بين القوسين يكشف عن خبرة قراءات وحساسية تعامل مع الكائن الورقي تصل إلى حد العظم. يختلف الحال في ص16 فهو يتوغل غائصا في أعماق الرهف اللامرئي المحسوس برهف المتعامل الخبير بالكتب وما يسكن في صفحاتها (لأن صفحاتها حين تقلب مرات عديدة وتمسدها أصابع كثيرة تستقر العيون بشكل أعمق ولأن كل نسخة من الكتاب تملك أرواحاً عديدة ً ينبغي للكتب أن تكون متاحة للجميع في أماكن عامة من دون حراسة وأن تذهب برفقة المارين الذين يأخذونها معهم لبعض الوقت.أن تموت حين يموتون من أثر المحن والعذابات والأمراض وأن تغرق تحت الجسر مع المنتحرين أو تحترق في مدفأة الشتاء أو تتمزق حين يعمد الأطفال إلى صنع قوارب من صفحاتها. بأختصار أن تموت كيفما كان وأينما كان أفضل من أن تموت من الملل والوحدة متروكة لحياة كئيبة على رفوف مكتبة.../  16  ) نحن هنا أمام كائنية الكتب إنسانياً بل بين الكتب والقارىء ما بين التوأم السيامي

(*)

ثمة تشبيهات تهمني مشاركة القارىء ليتمعن فيها، حين يتصل بالرقم الذي اعطته المرأة التي اسمها ليلى يخبرنا صاحبها عن مؤثرية تلقي صوتها عليه

(أسمع صوتها مثل قنينة شراب فتحت تواً خفيفا وناعما/12 )

وحين يلتقيان يخبرنا صاحبنا عن إفتنانه بصوتها (صوتها الرزين وهي تتكلم يحرك الدماء في عروقي. ليس جمالها ولا، بالمناسبة كلماتها / 33)

أثناء النعاس يغدو صوتها(خشناً مثل ورق رمل يحف خشباً/ 37 )

عند الصباح يمتلك صوتها نغمة أخرى ( الآن أستعاد صوتها رقته وأصبح مثل ماء بارد على وجهي تحتضنني وتكرر الاعتذار، لا أعرف عن ماذا. لا أسألها .أضمها إلى صدري إلى أن أغفو../ 38 )

(يدها في يدي مثل رغيف خبز ساخن ../ 32)

(النجوم تغدو مثل كلاب تلهث في أعقابي../ 36)

(أفكر بالمشط الذي يخترق شعرك ويبدو مثل ريح المحيط الأطلسي الذي يصنع أمواجا عالية../12 )

(تجلسين منتصبة القامة مثل سفينة تمخر عباب البحر../41  )

(عيناك تربطان قطة نائمة بغابة مليئة بالقبرات / 42  )

(*)

مثلما يسرد ماضيه فهو يسرد مستقبله القريب (بعد العمل سأذهب إلى بيت ليلى. سأنام تحت مظلة الحديقة...  أمام صحن من حساء الجبن أنتهي من سرد وصف مدينة أوديسا...../ 24  ) ليلى تطالبه بتعليق سرد الماضي (ستخبرني عن هذا فيما بعد../ 12   ) وهناك وجيز سرد كاذب اضطراري يلفقه صاحبنا حين تسأله عن نسبه (أخترع ُحشداً من الأجداد الخياليين /27 ) ثمة تداعيات سردية تنسج ماضيا مع راهن اللحظة الدفيئة (ننهض. هي تحدق في أنفي،أما أنا فأتطلع إلى السقف.أتذكر الليالي التي نمت فيها دون أن تكون ثمة مجرد ورقة تفصل بين رأسي والسماء.. لايجد الهارب أمامه ميداناً فسيحاً بل دروباً كثيرة ً مسدودة/36 )

ينبض التداعي السردي، ثم يقفز من قول السارد (أنبش التراب من حول الأزهار لكي يتاح للجذور أن تحصل لى الهواء/42) كان ينبش في  حيز مكاني وفي فضاء شاسع، نبش تراب الحديقة أوصل تفكرّه إلى (الجنوب حيث الأيام مليئة بالمشاكل. كان الموت يخيم علينا وينتزع بعضنا من بعض وينقض على الألوف من الأحياء ويضعهم في الأكياس ../43   ) ثم يتقهقر السرد بسعة ثلاثين سنة

متذكرا حبه الأول (كنتُ في العشرين حين بدأت محاولاتي الأولى في الحب..)

ونحن نتكلم عن تنويعات السرد أرى السيادة للسرد الأخضر المنكّه بالورد وفيء الاشجار وعبير التوابل، ورائحة تراب الحدائق وكذلك هو سرد بمذاق أطعمة شهية .أنه يسرد التوابل في الأطعة، فيفتح شهية القارىء(أخرجُ من جيبي علبة فضية وأستخرج منها الوريقات التي تحتوي المسحوق. أرش واحدة منها على شطيرة الجبن. إنها قوية الرائحة.../28 )

وهناك  السرد المتخيل حين يرى عاملاً في طريقه للعمل وهو يحمل حقيبة، هذا المشهد يفجّر سردا خيالا لدى بطل الرواية (تنهض زوجته قبله كي تطبخ له وتضع الأكل في علبة بلاستك يأخذها معه إلى الورشة../112).. هذه السرود الجميلة تنضدها قراءتي سرود فرعية.. تتوزع في  منصتين رئيسيتين للسرد :

*المنصة الأولى: يكون بث السارد إلى القارىء والسرد هنا هو : الذات حين تحاور ذاتها

*  المنصة الثانية : السارد نفسه ويكون السرد من الشخصية الرئيسة إلى صديقته  ليلى..

بهذا المقطع المموسق سردا مشعرنا أختم قراءتي لأجمل رواية قرأتها في 2020

(يقف الربيع أمام الباب، تشعر الأشجار بضغط الجذور فتفتح المجال أمام البراعم كي تخرج إلى النور../133 )

*نورمان فيركلف/ اللغة والسلطة/ ترجمة : محمد عناني /المركز القومي للترجمة/ القاهرة/ ط1/ 2016

*بخصوص (المتبقي اللغوي) أنظر (عنف اللغة) تأليف : جان جاك لوسركل/ ترجمة وتقديم : د. محمد بدوي/ ط2/ المنظمة العربية للترجمة/ لبنان/ ط2/ 2006

*إلين سكاري/ جسدٌ يتألم / ترجمة حسام نايل/ المركز القومي للترجمة/ القاهرة/ ط1/ 2016

*أسكندر حبش/ ( جبل الرب) أو بكم التاريخ  : المقالة موجودة بعد نهاية رواية (جبل الرب) للروائي دي لوكا

جبل الرب/ ترجمة : نزار أغري/ دار الجمل/ بغداد / ط1/ 2015

عرض مقالات: