المساحة التي أعنيها بالإشتغال هنا، هي الوقائع الإجتماعية التي خلفتها الحروب على الناس، هذه المساحة عُلّمت بمسافات ونقاط وخطوط، توزعت عليها الشخصيات والأحداث والوقائع، نحن إذًا بصدد عالم يتشكل عبر وعينا به، هذا العالم مشترك بين فنان يمتلك أدوات فنية يراه من خلالها، ومجموعات كبيرة من الناس تعيش هذا الواقع وتدرك مأساته وأبعاده، وتحتوي المساحة الاجتماعية الاثنين معا: الفنان والقراء، وهما يعيان الأبعاد التي تشكلها أحداث الواقع المعيش. فنجد القصص تطرح رؤية فنية لهذا العالم، ونجد مجموعات الناس تطرح هي الأخرى رؤية للعالم المعيش نفسه، القصص هي الرسالة المشتركة التي تتشكل من رؤية الاثنين للعالم، ومن ثم فهمه ووعيه، وبالتالي لتكوين رؤية واعية لما يجري.

وسنجد القصص كلها تجسد هذا الوعي سواء ما كان منه ممكنًا وما كان منه فعلًا مباشرًا. فالفنان هو الذي يشكل الوعي للرؤية الفاعلة لما يجري، بطرحه موضوعات هي من صلب الحياة المعاشة التي خلفتها الحروب، فتصبح القصص أدوات ورسالة للتغيير، وسيطرح والقراء الوعي الممكن الذي من خلال تجارب الماضي يتم تشكيل موضوع المعرفة المساهم فهم ما يجري الآن، ومن ثم تكوين وعي جماعي مهمته التغيير. كل عمل فني يتجه نحو واقعه حتى لو كان مغرقًا بالذاتيّة، وكل جماعة “تسعى لفهم واقعها انطلاقًا من ظروفها المعيشية والاقتصادية والفكرية والدينية والتربوية”في البنيوية التكوينية.د. جمال شحيد ص 55. فالقاص أو الشاعر لا يمكن أن ينتج عملًا فنيًا بمعزل عمّا يحدث في الواقع، ولذلك نجد تضافرًا بين الفنان وواقعه، خاصة إذا كانت التجربة لأمرأة تمثل نساء أعمّ صفة من فرديتها، وإذا كان الواقع عراقيًا أُشبعت شخصياته وأحداثة بمشكلات متراكمة ومنفتحة على الأسوأ.” كل حدث اجتماعي يستدعي في بعض جوانبه عملية وعي وإنَّ كل وعي هو أولًا تصور يتطابق نوعًا ما مع هذا الجانب من الواقع أو ذاك” كما يقول غولدمان في الماركسية والعلوم الاجتماعية.

لو أمكننا ادخال مجموعة قصصية للتعليم الثانوي لأخترت هذه المجموعة، كمرحلة متقدمة في فهم الكيفية التي تبنى بها قصة قصيرة بمنحى اجتماعي ناجح، ودافعي وراء ذلك يكمن في أن الطريقة التي بنيت فيها قصص هذه المجموعة، تؤسس فهمًا عامًا لكيفية كتابة قصة ناجحة، وفي الوقت نفسه نشكل كيفية الرؤية الفنية الواعية لما حدث في الواقع العراقي. فالشخصية المحورية، والبيئة الاجتماعية التي تحيط بالجميع، ثم التدرج في بنية المبنى ومتن القصة القصيرة، والوضوح التام لأغراض القصة القصيرة: وحدة الإنطباع، محورية الشخصية، تنامي الحدث الواقعي، تغريب الحالة والبحث عن أفق يوضح مقاصد التأليف، الأقتصاد اللغوي، كلها عناصر اجتماعية وفنية بدت القاصة متمكنة منها، فأحداث القصص من البيئة المحلية، وتكاد مساحتها أن تكون واسعة، لأن منطقة عينكاوه تمثل العراق كله، وأفقها واستجلابها لأمكنة وازمنة أخرى يوسع من دلالتها، فجعلت من أحداثها قصصًا اجتماعية ونفسية واسعة، وهذا يعني ثمة اكتفاء ذاتي بما ينتجه الواقع المحلي من أحداث. ما نحتاجه هو تحديث الدال، الأمر الذي يُحدد ويُجدد الرؤية للواقع وللفئات الإجتماعية، ومن ثم جعله محورًا فنيًا لاستيعاب ما يجري، ففي أية شريحة إجتماعية يمكنك أن تجد المجتمع العراقي كله. ورغبتي في تعميم هذا الأسلوب من القص الواقعي الفني  تتلخص في ثلاثة أسباب :

 السبب الأول: لما تتسم به القصص كلها دون استثناء من بساطة فنيّة عميقة، وأحداث شعبية معاشة، وبنية تكوينة شاملة لا تخص شخصيات معينة ولا أوضاعاً وأحداثاً شخصية، إنَّما تخص علاقة الإنسان بالواقع الإجتماعي، علاقة يتشكل منها موضوع المعرفة الإنسانية، فالواقع لا يرتبط بالشخصيات من دون هدف، لأن الشخصيات في النص، عندما تدخل في علاقة معرفية مع واقعها، تتجاوز الفلسفة والسياسة والأخلاق من أجل كشف ما في الواقع من التباسات وشقوق وخبايا. هذه القصص تكشف هذا المستوى من العلاقة مع الواقع بطريقة سردية ميدانية مباشرة، وهي إذ تسلط الأضواء على عدد من المشكلات والأوضاع التي تعيشها المرأة، تكشف عن أن السرد ليس مجرد تتبع أوصاف للحدث، إنَّما هو خلق -عبر قضايا تبدو أنها فردية- بنيّة اجتماعية داخل النص وخارجه. إنَّ  نظرة القصص الشمولية تحقق وعيًا ممكنًا حسب رؤية غولدمان للإنتاج الثقافي، هذا الوعي هو ما يجب أن يتسلح به الناس عندما يجابهون بمحن كبيرة. بحيث يمكن للقارئ والمتعلم أن يعيد تصوره لما جرى بطريقة أكثر مسؤولية. فالقصص تنبهنا إلى مسؤوليتنا الأخلاقية والاجتماعية تجاه مواضيع نشترك جميعًا في صياغتها: الحب-الحرب- الهجرة- المحلة- الأسرة- الوطن- الإرهاب- النضال- العزلة- العزوبية- الرسائل- الوطنية- الصداقة- التعارف، أيام الدراسة...الخ، وعلى الرغم من أن هذه المواضيع مألوفة ومعاشة، إلا أنَّ تنفيذها جعلها أمثلة لحكاية شعبية غرائبية متداولة وتشكل حافزا اجتماعيًا دالًا على الوعي المستلب الذي تمارسه القوى المهيمنة، وقد تم تنفيذ هذا الوعي الفني بلغة مركبة زمنيًا، أي أن الحاضر يستدعي الزمنين الغائبين- الماضي والمستقبل- ليعجنهما في بوتقة الحاضر، بحيث لا تفلت من القصة نأمة أو شاردة عن هدفها.

السبب الثاني: أن كاتبتها أمرأة، هي القاصة جوجينا ميخائيل، القليل منا يعرفها أنَّها كاتبة قصة واقعية غارقة في الاجتماعية الذاتية، تلك البقعة من السرد التي تتحول شخصية المرأة فيها إلى صوت جماعي يتحدث عن الناس المندمجين ضمن مجموعة اجتماعية عُطلت عن الفعل، فالذكريات تثقل كلماتها، وتملأ مساحات السرد الرسائل والاتصالات وثمة وعد بالبروق والرعود والأمل، بحيث يصبح التلفون أداة ثقافية تؤكدها الشخصة من خلاله هويتها المعاصرة.

فالحياة إذا ما فهمت جدليًا، تتضمن نصوصها أنموذجًا وجوديًا يعبّر عن البعد التاريخي للمرحلة، والقصص تؤكد هذا المنحى. هذه القاصة ببساطة لغتها وموضوعاتها، تغور بعيدًا في ثنايا الأنثى، لتجعل منها أنموذجًا إنسانيًا كونيًا. فهي لا تتولى السرد كذات مؤلفة، إنما تستعير لغة الأنثى بتفاصيل يومية وحسية، لأن البناء الفني لقصصها بناء أحداث اجتماعية وإن كانت نافذتها المرأة، لذلك تكون الشخصية الساردة قد استعارت صوت الأنثى الجماعي. وأنت تنهي قراءة المجموعة تجد بطلات القصص ومن استدعتهم الذاكرة من الشخصيات يعيشون بيننا، وفي الجوار منا، فالوعي الفردي للقاصة وجد طريقة للوعي الجماعي عبر شخصيات عاشت الأحداث وتعمقت بها، فشكلت وعيًا نقديًا عنها، فكانت القصص خطابًا لمجموعة فاعلة وليست حكايات حدثت في زماننا. كم هو حزين هذا الواقع اليومي المُغَرَّب، بحيث تجد شريحة صغيرة تستنطقها القاصة، يمكنها أن تفجر ينبوعًا من الأحزان لمجموعة من الناس، الثراء كل الثراء في وعي التجارب الواقعية وفهمها، خاصة تلك التي لا ترى إلا بالعين الفنية الناقدة.

وبما أن البطلة في القصص كلها امرأة كما أسلفنا، وعمرها بين الأربعين والخمسين، -أي مرحلة الوعي الناضج بما يجري-لم تكن المرأة في القصص متلقية، ولا منسحبة، إنَّما فاعلة، مما يعني أنَّها الشخصية التي تراقب الأحداث وتفرزها وتكون عنها رأيًا، فالنصوص تعبر عن كبت لاشعوري دفين للأنثى.

السبب الثالث: يضعك السارد في خضم الأحداث ومن خلالها يعيد تشكيل الزمن أي ما يسمى “بتقنية الولوج إلى الحدث” وهذه التقنية تدع الحدث يتكلم فيقل الشرح والتفاصيل، القصص شرائح حياتية نابضة بالمألوف الغريب، ودائمًا تجد ثمّة (مرآة) تحتضنها الشخصية عندما تجد نفسها أنها ازاء موقف جديد، (المرآة) واحدة من الأقنعة التي تلجأ إليها الشخصية لتعيد ترتيب لسانها وبناء حدثها. القصص تؤشر إلى أن الشخصية النسائية متعلمة وخريجة وواعية، ولها اهتمامات سياسية تقدمية، وتعميم وعيها بالمشكلات يعني تأليف خِطاب اجتماعي، من مهمته تنبيه الآخرين إلى عمق المأساة عندما لايجد الإنسان وطنًا أو بيتًا أمنًا ، أو حبًا مكتملا لا تقطعه هجرة ولا تنقصه إراداة، هذا الخِطاب الذي يبدو أنه يومي ومألوف، يعبّر عن هوة عميقة في بنية الكائن الحي عندما يجد نفسه مقذوفًا للحياة من دون وعي. فالمرأة البطلة في مرحلة التجاوز، تجاوز المراهقة والانعكاسات الجنسية البسيطة لما حدث، فتتحول إلى أداة معرفية، توسس وعيا فاعلا، يمكنها من خلاله أن تؤشر إلى ظاهرة أجتماعية متأصلة، لذلك يكون الاختبار الأصعب، هو تحديد موقفها هل هي مع رغباتها؟ أم مع الظروف التي يمر بها العراق؟، فالمرأة وهي تتجاوز ما عاشته ووعت تجارب الماضي-ماضيها في الأغلب-بنت تصوراتها المحبطة على أمل تشكيل وعي جماعي ممكن من أجل التغيير، فكل ما كانت تخطط له ذوبته الحروب في قضايا ثانوية أدت إلى تشظي الأسر والعلاقات والأصدقاء، وها هو العالم يتوزعهم في بلدان نائية ليزيدهم تشظيًا وأغترابًا، وتبقى تلك الرغبة الدفينة في تكوين بيت، أسرة، تجمع، زواج، علاقة إنسانية متكافئة، لغة تلّم هذا الشتات، القصص مساحات لتبادل الرأي الواعي للقاصة وللقراء.

 ضمن هذا الإطار الواسع للتصور الفني والثقافي، ينهض الزمن-الزمن العراقي-ثيمة محورية يتقاسم مع محن وحياة البطلة أيامها ولغتها وهمومها، فالحب يختلط بالهجرة، والحرب تختلط برسائل الحب، وتصبح المحلة المكان الكوني الذي تدور فيه رحى الأمنيات القديمة والحديثة، هذا التكوين الناضج للبطلة اتاح للقاصة راحة أسلوبية من أنَّ أية شعيرة فكرية أو ممارسة جسدية أو ذكريات، عبارة عن مجموعة صور وذكريات تؤشر إلى استلاب قتعجزالكلمات أن تعبر عنها. ولا أخشى القول أنَّ البطلة هي القاصة، بفيض تجربتها ومشاعرها ولغتها واجتماعيتها ورغباتها، هذه الإنسانة التي تتشكل في كل قصة من مواد جديدة، تظهر كعشتار بصور أنثوية عديدة، واذا ما اضفتها لما يتشكل في الواقع من حرمان واستلاب تجد جماعة نسائية واسعة تشكل وعيا ممكنا للتغيير يكون”الحكي” طريقة تعبيريةعن كل ما مرت به الحكاية التي لم  تُغلق نهايتها، ولم يبدأ استهلالها بعد، حكاية تبدأ من منتصف الطريق – الاربعينيات- فتعود لتراث الحب والعشق والدراسة والقفشات الطلابية والحريات الأسرية والاجتماعية، ثم تقفز للمستقبل حيث أمنية ببناء عشها المتعدد الأبواب والأسرة، وها هي بين زمنين – الماضي والمستقبل- لاتفقد فيهما رونقها ولا شبابها ولاصوتها ولا ذاكرتها، فثمة مرآة كونية تصطحبها لتعاين تجاعيد وجهها ووجه واقعها، ومن ثم لتعديلهما بمساحيق الزمني المؤمل، القاصة/ المرأة/ الأنثى، ممتلئة بالماضي وممتلئة بالمستقبل أيضًا، ولذلك تكون لغتها جامعة لكل الأزمنة، لا تشعر أن الفعل الماضي يثقل عليها ولا الفعل المستقبلي يشده إليها، فـ” الآنية” ممتلئة بالأزمنة ، ووجودها وحده من يعين بوصلة الوعي بأن السرد يمكنه أن يشكل حكاية اجتماعية ممكنة الوعي.

عرض مقالات: